دعوة للتواصل

دعوة للتواصل

من الأشياء المحزنة في كثير من الذين يكتبون إبداعًا من الجيل الجديد تنصّلهم تمامًا عن كتابة الأجيال السابقة، وعدم ذكرها وذكر الذين قد يكون الكاتب الجديد قد تأثر بهم، لكنه لا يعترف بذلك، فالكتابة الإبداعية مثلها مثل أي صنعة، تتعاقب فيها الأجيال، هذا يتسلم من ذاك، ولابد من وجود تأثّر ما، صحيح إن الأفكار واحدة، لكن الأساليب تختلف، وتناول تلك الأفكار يحدث بطرق بعضها بسيط وبعضها الآخر متشعّب، ولكي يتكوّن أسلوب أحدنا في الكتابة عليه أن يطّلع وبجدية على أساليب الآخرين ممن سبقوه أو حتى من مجايليه، لا مانع في التأثر، ولا مانع فيما يسمى التناص، إن أعجب أحدهم بأسلوب أو مقطع رائع وردَ في كتابة غيره، لكن لا للقطيعة التامة، ومحاولة الإيحاء للآخرين بأنك بدأت وحدك، ونضجت وحدك، وكوّنت عمارة الإبداع التي تسكنها كتابتك وحدك!
في بداياتنا، كان تواصل الأجيال على أشدّه على الرغم من صعوبة الوصول إلى من تتخذهم أساتذة لك، لا يوجد تواصل مباشر إلا نادرًا، إن صادف وعملت مع رمز إبداعي تحبه في مكان واحد، أو عثرت على مبدعك الأثير في ندوة بمدينة أنت تقطنها، وهذا تواصل بسيط وسطحي بالطبع، لكن التواصل الحقيقي، عبر المؤلفات، أنت تسعى لقراءة مؤلفات مَن تحب أسلوبه، مَن تتخذه أستاذًا لك، وتحس بانبهار حقيقي، كلما وجدت خطواتك تسرع في طريق الإبداع بفضل قراءتك له، وقطعًا لن تتنصّل من محبتك وتأثرك إن سئلت، وحتى لو لم تسأل يومًا. ستتحدث بدافع الوفاء لمن علمك على الرغم من أنه قد لا يعرفك، ولن يحدث أن يلتقيك يومًا، ولن أكون مجحفًا لو قلت إن الكتابة في ما مضى كانت أنظف وأكثر رشاقة من الآن، كانت حسناء حقيقية، لأن صناعتها كانت عن إتقان، إضافة إلى غياب الجوائز الأدبية التي تشكّل الآن قوة جذب كبيرة للناس، ليكتبوا عن دراية أو عن غير دراية، حقيقة لم يكن من سبب للكتابة سوى عشق الكتابة وحدها، سوى محاولة التدثّر بها مثل لحاف ناعم سيمنح مَن يتدثر به وقتًا رائعًا. 
شخصيًا، تأثرت بعدة رموز إبداعية كبرى، أهمها جابرييل غارثيا ماركيز بالطبع، لكن المصري الراحل عبد الحكيم قاسم أثّر في أيضًا، قرأت له ثلاث روايات ولم أهدأ، وأظنه الكاتب الوحيد الذي سعيت لأجده بشغف، ولم يخيّب ظنّي أبدًا، كان إنسانًا حقيقيًا، ممتلئًا بتفاصيل كتابته، وتحسّها تمشي معه، وتتحدث معه، وتضحك معه تلك الضحكات القصيرة التي تشم فيها أيضًا رائحة أسًى إبداعي.
هي دعوة إذن للتواصل، وطَرق باب الإبداع بأيادٍ تحمل في أصابعها مداد كتّاب سابقين، نحبّهم كثيرًا ■