الرحلة الحجّية المنظومة بالجزائر قراءة في رحلة الشيخ يوسف بن إبراهيم الوارَجْلاني

الرحلة الحجّية  المنظومة بالجزائر قراءة في رحلة  الشيخ يوسف بن إبراهيم الوارَجْلاني

 يعدّ الحج ركن الإسلام الخامس، الذي فرضه الله تعالى على المسلمين القادرين منهم، إذ يتطلب إنجازه السفر إلى الحجاز الشريف وتحمّل الأعباء المادية والمعنوية الناتجة عنه، لكنه يحقق للمؤمن أمنية لطالما يتمناها، وهي رؤية الحرمين الشريفين عن قرب ومعاينة الأماكن الأولى التي شهدت الدعوة الإسلامية     وكذلك زيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم، وقبور الصحابة 

وقد‭ ‬ألّف‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأعلام‭ ‬الرحالين‭ ‬والشعراء‭ ‬منظومات‭ ‬رحلية،‭ ‬وقصائد‭ ‬من‭ ‬المولديات‭ ‬والحجازيات‭ ‬والمديحيات،‭ ‬فتدخل‭ ‬ضمن‭ ‬الرحلات‭ ‬الواقعية‭ ‬والفعلية‭ ‬تلك‭ ‬المنظومات‭ ‬التي‭ ‬أنجزها‭ ‬ناظموها‭ ‬جسدًا‭ ‬وروحًا،‭ ‬بينما‭ ‬تصنف‭ ‬القصائد‭ ‬المولدية‭ ‬والحجازيات‭ ‬والمديحيات‭ ‬فيما‭ ‬يسمّى‭ ‬بالرحلة‭ ‬الخيالية؛‭ ‬كونها‭ ‬تسجل‭ ‬غالبًا‭ ‬أشواقًا‭ ‬وأماني‭ ‬لرؤية‭ ‬الحجاز،‭ ‬وملاقاة‭ ‬أهلها،‭ ‬والاكتحال‭ ‬بمشاهدة‭ ‬الآثار‭ ‬المقدسة‭ ‬التي‭ ‬تشرفت‭ ‬بوجود‭ ‬الرسول‭ ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭ ‬فيها،‭ ‬وبرسالة‭ ‬الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬البشرية،‭ ‬كما‭ ‬قد‭ ‬نقرأ‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬تعدادًا‭ ‬لمراحل‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الحرمين،‭ ‬وذكرًا‭ ‬لبعض‭ ‬المواضع،‭ ‬والمعاطن‭ ‬المشهورة،‭ ‬والمعاهد‭ ‬الدينية‭ ‬المأثورة،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬رجليه‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الحجاز،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬تجسّد‭ ‬شكلًا‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الانتقال‭ ‬الروحي‭ ‬والذهني‭ ‬للشاعر‭.‬

 

1‭ - ‬الرحلة‭ ‬الحجية‭ ‬المنظومة‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬بين‭ ‬الواقعية‭ ‬والتخييل

  ‬والمتتبع‭ ‬لحركة‭ ‬التأليف‭ ‬الشعري‭ ‬بالجزائر‭ ‬حول‭ ‬موضوع‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬الحجاز‭ ‬يلاحظ‭ ‬قلة‭ ‬نماذج‭ ‬الرحلة‭ ‬الشعرية‭ ‬الواقعية،‭ ‬وكثرة‭ ‬القصائد‭ ‬الرحلية‭ ‬الخيالية،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬مردّه‭ ‬أن‭ ‬الأسلوب‭ ‬الأكثر‭ ‬ملاءمة‭ ‬للرحلة‭ ‬الواقعية‭ ‬هو‭ ‬أسلوب‭ ‬النثر،‭ ‬لقدرته‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬المادة‭ ‬الإخبارية‭ ‬التاريخية‭ ‬والجغرافية‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬أي‭ ‬نص‭ ‬رحلي،‭ ‬ومناسبة‭ ‬لغته‭ ‬السردية‭ ‬والوصفية‭ ‬لأحداث‭ ‬متنوعة‭: ‬كالسير،‭ ‬وأفعال‭ ‬الرحال‭ ‬الروتينية،‭ ‬والإقامة،‭ ‬واللقاءات‭ ‬الناجمة‭ ‬عنها،‭ ‬وأفعال‭ ‬المشاهدة‭ ‬والمعاينة‭ ‬بعد‭ ‬الوصول،‭ ‬وهي‭ ‬المضامين‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يعجز‭ ‬الشعر‭ ‬عن‭ ‬تبليغها،‭ ‬ودليل‭ ‬ذلك‭ ‬ميل‭ ‬أكثر‭ ‬الرحالين‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬العربية‭ ‬والغربية‭ ‬إلى‭ ‬التأليف‭ ‬النثري‭ ‬عوض‭ ‬الشعري‭ ‬لرغبتهم‭ ‬في‭ ‬الإفادة،‭ ‬ونقل‭ ‬خبراتهم‭ ‬ومكتسباتهم‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬للآخرين،‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬يهملون‭ ‬مهمة‭ ‬الارتقاء‭ ‬بلغة‭ ‬النثر‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬من‭ ‬الفنية‭ ‬والجمالية‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أحاسيسهم‭ ‬ومواقفهم‭ ‬الشخصية،‭ ‬لكننا‭ ‬نجد‭ ‬التأليف‭ ‬الرحلي‭ ‬الشعري‭ ‬حول‭ ‬الرحلة‭ ‬الخيالية‭ ‬كثيرًا‭ ‬لأن‭ ‬الشاعر‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬شعورية‭ ‬متقدة،‭ ‬ويكون‭ ‬شديد‭ ‬الشوق‭ ‬والحنين‭ ‬إلى‭ ‬الحجاز،‭ ‬ولغة‭ ‬الشعر‭ ‬تأخذ‭ ‬مكانها‭ ‬المناسب‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭. ‬

أما‭ ‬الرحلات‭ ‬الواقعية‭ ‬المنظومة‭ ‬فهي‭ ‬تنماز‭ ‬بكونها‭ ‬قريبة‭ ‬إلى‭ ‬السرد‭ ‬القصصي،‭ ‬يحكم‭ ‬أحداثها‭ ‬وبناءها‭ ‬الحكائي‭ ‬التسلسل‭ ‬الزمني‭ ‬وتتابع‭ ‬الأحداث،‭ ‬كالانطلاق،‭ ‬والسير،‭ ‬والوصول،‭ ‬والعودة،‭ ‬وهي‭ ‬لذلك‭ ‬ملتزمة‭ ‬بأسلوب‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الرحلات،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تحوي‭ ‬جميع‭ ‬مكونات‭ ‬الحكاية‭ ‬من‭ ‬أحداث،‭ ‬وشخوص،‭ ‬وإطارين‭ ‬زماني،‭ ‬ومكاني،‭ ‬ويستعين‭ ‬الشعراء‭ ‬بالأساليب‭ ‬القصصية‭ ‬المتنوعة‭ ‬من‭ ‬سرد،‭ ‬ووصف،‭ ‬وحوار،‭ ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬أسهموا‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬الحجازية‭ ‬المنظومة‭ ‬بالجزائر‭ ‬نذكر‭: ‬الشيخ‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬إبراهيم‭ ‬الوارَجْلاني‭ (‬ق‭. ‬6هـ‭) ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬سيجري‭ ‬التركيز‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة،‭ ‬وعبد‭ ‬الرحمن‭ ‬المجاجي‭ (‬ق‭. ‬11هـ‭)‬،‭ ‬وأبو‭ ‬منصور‭ ‬العامري‭ ‬التلمساني‭ (‬ق‭. ‬12‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬بن‭ ‬بحمان‭ ‬المصعبي‭ (‬ق‭. ‬12هـ‭)‬،‭ ‬والقطب‭ ‬أمحمد‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬أطفيش‭ (‬ق‭. ‬13هـ‭)‬،‭... ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الرحالين‭.‬

 

2‭ - ‬التعريف‭ ‬برحلة‭ ‬الوارجلاني‭ ‬المنظومة

تعد‭ ‬رحلة‭ ‬الوَارَجْلاني‭ ‬من‭ ‬الرحلات‭ ‬القديمة،‭ ‬التي‭ ‬يرجع‭ ‬تاريخ‭ ‬تأليفها‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الهجري،‭ ‬وقد‭ ‬استطاع‭ ‬أبو‭ ‬يعقوب‭ ‬الوارجلاني‭ ‬إنجاز‭ ‬رحلات‭ ‬لغرض‭ ‬طلب‭ ‬العلم،‭ ‬والتجارة،‭ ‬فقد‭ ‬رحل‭ ‬إلى‭ ‬الأندلس‭ ‬وأقام‭ ‬بها‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬مجتهدًا‭ ‬في‭ ‬النهل‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬البلاد‭ ‬ما‭ ‬استطاع،‭ ‬وبعد‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬سافر‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬السودان،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬السفر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬للاستزادة‭ ‬من‭ ‬العلم،‭ ‬بل‭ ‬للتجارة،‭ ‬وكانت‭ ‬فرصته‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬مغامرة‭ ‬السفر‭ ‬برحلته‭ ‬إلى‭ ‬الحجاز‭ ‬لأداء‭ ‬فريضة‭ ‬الحج،‭ ‬ونظم‭ ‬الشيخ‭ ‬عنها‭ ‬قصيدة‭ ‬مطولة‭ ‬تقع‭ ‬في‭ (‬374‭) ‬بيتا‭ ‬من‭ ‬بحر‭ ‬‮«‬الطويل‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬افتتحها‭ ‬بقوله‭: ‬

عَذِيرِي‭ ‬عَذِيرِي‭ ‬مِنْ‭ ‬ذَوَاتِ‭ ‬المعَاجِرِ

ذَوَاتِ‭ ‬العُيُونِ‭ ‬النُّجْلِ‭ ‬بِيضِ‭ ‬المحَاجِرِ

واختتمها‭ ‬منشدًا‭:‬

هو‭ ‬الله‭ ‬ربُّ‭ ‬الخلق‭ ‬لا‭ ‬ربَّ‭ ‬غيرَه‭   

هو‭ ‬الحيُّ‭ ‬ذو‭ ‬الآلاء‭ ‬أشكَرُ‭ ‬شاكرِ

أعُدّ‭ ‬سُراها‭ ‬ثلث‭ ‬ألف‭ ‬منيّرٍ‭ ‬

ثلاث‭ ‬مائِينَ‭ ‬أو‭ ‬تزيد‭ ‬كما‭ ‬يُرِ‭ ‬

 

3‭ - ‬مسار‭ ‬الرحلة‭ ‬ومضامينُها

  ‬سرد‭ ‬الوارجلاني‭ ‬أحداث‭ ‬سفره‭ ‬من‭ ‬قريته‭ ‬وارجلان‭ ‬متجها‭ ‬نحو‭ ‬المشرق‭ ‬لأداء‭ ‬فريضة‭ ‬الحج،‭ ‬موجزًا‭ ‬المراحل،‭ ‬ومتجاوزًا‭ ‬للعديد‭ ‬منها،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يعيّن‭ ‬تاريخ‭ ‬بداية‭ ‬الرحلة‭ ‬ولا‭ ‬نهايتها،‭ ‬وترجح‭ ‬كتب‭ ‬الأعلام‭ ‬أنه‭ ‬أنجز‭ ‬الرحلة‭ ‬بعد‭ ‬رحلتيه‭ ‬إلى‭ ‬الأندلس‭ ‬والسودان‭. ‬واختار‭ ‬الوارجلاني‭ ‬افتتاحية‭ ‬غزلية،‭ ‬تقليدا‭ ‬للشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬لكن‭ ‬الغزل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬ليس‭ ‬غرضًا‭ ‬أساسيًا،‭ ‬وليس‭ ‬مقصد‭ ‬الشاعر؛‭ ‬إذ‭ ‬أظهر‭ ‬الوارجلاني‭ ‬زهده‭ ‬في‭ ‬النساء،‭ ‬وفي‭ ‬جمالهن،‭ ‬ومفاتنهن،‭ ‬واعتذر‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬ليلتفت‭ ‬إلى‭ ‬المقصد‭ ‬الأشرف‭ ‬والأسمى‭ ‬وهو‭ ‬ذكر‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬الحج،‭ ‬فقال‭ ‬بعد‭ ‬اعتذاره‭:‬

فدع‭ ‬عنك‭ ‬ربّات‭ ‬الحجال‭ ‬وذكرها‭ ‬

وعدَّ‭ ‬إلى‭ ‬ذكر‭ ‬الحجيج‭ ‬المسافر‭  

خَرَجْنَا‭ ‬نَؤُمُّ‭ ‬الشَّرْقَ‭ ‬مِنْ‭ ‬حِيزِ‭ ‬وَارْجِلاَنَ

بِفِتْيَانِ‭ ‬صِدْقٍ‭ ‬مِنْ‭ ‬وُجُوهِ‭ ‬العَشَائِـر‭ ‬

 

ويستغرق‭ ‬الناظم‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬العشائر‭ ‬المكونة‭ ‬لركب‭ ‬الحاج،‭ ‬منهم‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬هلال‭ ‬بن‭ ‬عامر،‭ ‬قبيلة‭ ‬لواتة،‭ ‬وحجاج‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬معد‭ ‬بني‭ ‬عدنان‭ ‬المعروفة‭ ‬بـ«الحمراء‮»‬،‭ ‬وآخرون‭ ‬من‭ ‬قبائل‭ ‬البربر‭ ‬من‭ ‬مغراوة‭ ‬وزناتة،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬التقاليد‭ ‬الأدبية‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬الرحلة،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يغفل‭ ‬عادة‭ ‬الكاتب‭ ‬ذكر‭ ‬مرافقه،‭ ‬أو‭ ‬مرافقيه،‭ ‬وهذا‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬الحديثة،‭ ‬بينما‭ ‬تواتر‭ ‬ذكر‭ ‬القبائل‭ ‬والشيوخ‭ ‬البارزين‭ ‬في‭ ‬الرحلات‭ ‬الجماعية‭ ‬القديمة،‭ ‬ومنها‭ ‬الرحلات‭ ‬الحجازية‭.‬

  ‬ويرجع‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬الموضوع‭ ‬فيبين‭ ‬غرض‭ ‬الرحلة‭ ‬والمقصد‭ ‬وهو‭ ‬بلاد‭ ‬الحرمين‭ ‬مكة‭ ‬والمدينة،‭ ‬لأنه‭ ‬سابقا‭ ‬اكتفى‭ ‬بذكر‭ ‬الوجهة‭ ‬أنها‭ ‬شرقية،‭ ‬فقال‭:‬

لدى‭ ‬الكعبة‭ ‬البيتِ‭ ‬الحرام‭ ‬وجوهُهم‭ ‬

على‭ ‬قُلْص‭ ‬خُوصِ‭ ‬العيون‭ ‬ضوامرِ‭ ‬

 

ويقطع‭ ‬سرده‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬ليصف‭ ‬إبل‭ ‬الركب‭ ‬ويتباهى‭ ‬بسرعتها،‭ ‬وقوة‭ ‬تحملها،‭ ‬ورشاقتها،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يذكرنا‭ ‬بوصف‭ ‬الخيل‭ ‬والإبل‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭.‬

الطبيعة‭ ‬الصحراوية

وكعادة‭ ‬كتّاب‭ ‬الرحلة،‭  ‬سكت‭ ‬الوارجلاني‭ ‬عن‭ ‬ذكر‭ ‬المواطن‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬الركب‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬الجزائرية‭ ‬ومن‭ ‬مدينة‭ ‬وارجلان؛‭ ‬لأن‭ ‬مواطنيه‭ ‬ليسوا‭ ‬بحاجة‭ ‬للتعريف‭ ‬بتلك‭ ‬المراحل،‭ ‬فهي‭ ‬معروفة‭ ‬لديهم،‭ ‬فقفز‭ ‬بالسرد‭ ‬مقتصرًا‭ ‬على‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬الطريق‭ ‬المسلوك،‭ ‬وهي‭ ‬الطبيعة‭ ‬الصحراوية،‭ ‬القفرة‭ ‬والخطيرة،‭ ‬حيث‭ ‬ذكر‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬وارجلان‭ ‬موضع‭ ‬عين‭ ‬صولية‭ ‬التابعة‭ ‬لقبيلة‭ ‬بني‭ ‬وليد،‭ ‬ومنها‭ ‬مشى‭ ‬الركب‭ ‬حذاء‭ ‬وادي‭ ‬الآجال‭ ‬بمنطقة‭ ‬فزان،‭ ‬والذي‭ ‬سماه‭ ‬الشاعر‭ ‬بحرين؛‭ ‬لأن‭ ‬به‭ ‬بحيرات‭ ‬ماءها‭ ‬مالح‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬رمال،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬وادي‭ ‬الجن‭ ‬في‭ ‬غات،‭ ‬ثم‭ ‬تمِسَانْ،‭ ‬وتأتي‭ ‬بعدها‭ ‬مرحلة‭ ‬صحراوية‭ ‬قاسية‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الآبار‭ ‬عدا‭ ‬بئر‭ ‬الزعفران،‭ ‬التي‭ ‬وجدوا‭ ‬مياهها‭ ‬قليلة،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يلبث‭ ‬الركب‭ ‬أن‭ ‬يستعيد‭ ‬الأمل‭ ‬مع‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬جوغراف،‭ ‬فيتواصل‭ ‬سير‭ ‬الركب‭ ‬نحو‭ ‬الشرق،‭ ‬وكان‭ ‬الوقوف‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬جِرْمَة‭ ‬القصبة‭ ‬المشهورة‭ ‬في‭ ‬فزان،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬تِبِسْتُو‭ ‬وهي‭ ‬المسماة‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬مدينة‭ ‬الأبيض،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬سبها،‭ ‬ثم‭ ‬سهنا،‭ ‬وبعدها‭ ‬تأتي‭ ‬مرحلة‭ ‬فاطر،‭ ‬ثم‭ ‬بلدة‭ ‬الفقهاء،‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬باسم‭ ‬منزل‭ ‬العباد،‭ ‬ليمر‭ ‬بعدها‭ ‬على‭ ‬جبال‭ ‬الهروج،‭ ‬الواقعة‭ ‬بعد‭ ‬بئر‭ ‬‮«‬أبا‭ ‬نائم‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬قصر‭ ‬زلة،‭ ‬وهو‭ ‬قلعة‭ ‬في‭ ‬مرتفع‭ ‬خصيب‭ ‬وسط‭ ‬المدينة،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬واحة‭ ‬جالو،‭ ‬والأزرُقية‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬اسمها‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬الرحلة،‭ ‬والصواب‭ ‬أرزاقية،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬خطأ‭ ‬الناسخ‭ ‬أو‭ ‬المحقق،‭ ‬وهي‭ ‬أوجلة‭ ‬اليوم،‭ ‬تقع‭ ‬جنوب‭ ‬برقة،‭ ‬وتبعد‭ ‬عن‭ ‬أجدابية‭ ‬220كم،‭ ‬وتعد‭ ‬أرزاقية‭ ‬نقطة‭ ‬بارزة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الحج،‭ ‬وملتقى‭ ‬طرق‭ ‬قوافل‭ ‬السودان‭ ‬مع‭ ‬طريقي‭ ‬الحج‭ ‬الأوسط‭ ‬والجنوبي،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬بئر‭ ‬زيدان،‭ ‬التي‭ ‬سميت‭ ‬كذلك‭ ‬نسبة‭ ‬لزيدان‭ ‬بن‭ ‬حميد‭ ‬بن‭ ‬زيدان‭ ‬بن‭ ‬إبراهيم،‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬نسبه‭ ‬إلى‭ ‬الحسين‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما،‭ ‬وكانت‭ ‬بئر‭ ‬زيدان‭ ‬آخر‭ ‬محطة‭ ‬في‭ ‬المعاطن‭ ‬الليبية،‭ ‬قبل‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬الحجازي‭ ‬وهي‭ ‬البلاد‭ ‬المصرية‭.‬

ويظهر‭ ‬التنويع‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬المراحل،‭ ‬ووصف‭ ‬المشاهدات؛‭ ‬حيث‭ ‬يقف‭ ‬أحيانًا‭ ‬عند‭ ‬بعضها‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬المكان،‭ ‬أو‭ ‬يمر‭ ‬سريعًا‭ ‬مكتفيًا‭ ‬بذكر‭ ‬اسم‭ ‬المعطن،‭ ‬أو‭ ‬البئر،‭ ‬وكذلك‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬الشخصيات‭ ‬المقابلة‭.‬

ويستمر‭ ‬النظم‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬وفق‭ ‬الأسلوب‭ ‬ذاته،‭ ‬حيث‭ ‬يعدد‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬والآبار‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬المصرية،‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬سنترية‭ (‬سيوة‭)‬،‭ ‬وماء‭ ‬الوطية،‭ ‬وبركة‭ ‬الجب‭ (‬بركة‭ ‬الحاج‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬المعاطن‭ ‬نَعِم‭ ‬الرحال‭ ‬ورفقاؤه‭ ‬بإقامة‭ ‬مريحة‭ ‬وسريعة،‭ ‬واستطاعوا‭ ‬سقاية‭ ‬دوابهم،‭ ‬والتزود‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يلزم‭ ‬للشروع‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬صحراوية‭ ‬شاقة‭ ‬متجددة‭ ‬بعد‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬مفازة‭ ‬برقة،‭ ‬وقد‭ ‬أثنى‭ ‬الوارجلاني‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬لقيهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬فقال‭: ‬

فلبّوا‭ ‬وقالوا‭ ‬مرحبًا‭ ‬مرحبًا‭ ‬بكم

فجادوا‭ ‬كوسميّ‭ ‬السّحابِ‭ ‬البواكرِ‭ ‬

 

لكن‭ ‬هذه‭ ‬الفرحة‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تنغص‭ ‬بخوف‭ ‬الركب‭ ‬من‭ ‬المراحل‭ ‬المقبلة‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬المتوسطة‭ ‬وقرب‭ ‬شاطئ‭ ‬بحر‭ ‬القلزم‭ (‬البحر‭ ‬الأحمر‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬عيون‭ ‬موسى‭ (‬التيه‭)‬،‭ ‬وطور‭ ‬سيناء،‭ ‬وإيلة،‭ ‬ففي‭ ‬هذه‭ ‬المواضع‭ ‬يتغير‭ ‬الخطاب‭ ‬الرحلي،‭ ‬لينحو‭ ‬نحو‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الخوف،‭ ‬والذم،‭ ‬والسخط،‭ ‬والشكوى،‭ ‬ويبدو‭ ‬شديد‭ ‬اللهجة‭ ‬في‭ ‬ذكره‭ ‬لبحارة‭ ‬القلزم‭ ‬الذين‭ ‬نالوا‭ ‬من‭ ‬الحجاج‭ ‬بسرقتهم،‭ ‬والإساءة‭ ‬إليهم‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الشاعر‭ ‬يدعو‭ ‬عليهم‭ ‬بالشرّ،‭ ‬فقال‭:‬

وبحريّةُ‭ ‬لا‭ ‬قدّس‭ ‬الله‭ ‬جمعَهم

وعايَدَها‭ ‬مثلَ‭ ‬القرود‭ ‬الأباترِ

لَقيْناهم‭ ‬سُودَ‭ ‬الوجوه‭ ‬أذلةً‭ ‬

عُراة‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ ‬أفْجر‭ ‬فاجر

 

ولا‭ ‬يتجدد‭ ‬الأمل‭ ‬والفرح‭ ‬عند‭ ‬الركب‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تجاوزه‭ ‬جبال‭ ‬حِسْمَى،‭ ‬ووصوله‭ ‬مورد‭ ‬المياه‭ ‬المعروف‭ ‬بماء‭ ‬مدين‭ ‬المعروف‭ ‬بمغارة‭ ‬شعيب،‭ ‬ثم‭ ‬وادي‭ ‬الدوم،‭ ‬وتتهلل‭ ‬الوجوه‭ ‬وتأمن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭ ‬مثل‭ ‬عينونة‭ ‬المشهورة‭ ‬بعيون‭ ‬القصب،‭ ‬والتبك‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالمويلح،‭ ‬والحوراء،‭ ‬والينبوع‭ (‬الينبع‭)‬،‭ ‬ويفيدنا‭ ‬الرحال‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬بالأماكن‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمر‭ ‬عليها‭ ‬ركب‭ ‬الحاج‭ ‬القاصد‭ ‬مدينة‭ ‬الرسول‭ ‬‭ ‬منها‭: ‬الدهناء،‭ ‬ورمل‭ (‬رملة‭)‬،‭ ‬وبدر‭ ‬والبزواء،‭ ‬وهي‭ ‬المعاطن‭ ‬التي‭ ‬يسلكها‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة،‭ ‬أما‭ ‬ركب‭ ‬الحج‭ ‬والوارجلاني‭ ‬فقد‭ ‬قصدوا‭ ‬المدينة‭ ‬المنورة‭ ‬فعبروا‭ ‬على‭ ‬وادي‭ ‬الصفراء،‭ ‬والروحاء،‭ ‬وصحيرات‭ ‬اليمام،‭ ‬ويليل،‭ ‬وهي‭ ‬قرية‭ ‬بها‭ ‬عين‭ ‬كبيرة‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬ينبع،‭ ‬ثم‭ ‬ذات‭ ‬السيّال‭ (‬السيّالة‭) ‬التي‭ ‬تبعد‭ ‬40‭ ‬كم‭ ‬عن‭ ‬المدينة‭ ‬المنورة،‭ ‬ثم‭ ‬العقيق،‭ ‬وثنية‭ ‬الغائر‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬المقصد‭ ‬الأسمى‭ ‬الذي‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬قائلًا‭: ‬

إلى‭ ‬قبر‭ ‬خير‭ ‬الخلق‭ ‬من‭ ‬نسل‭ ‬آدم‭ 

أبي‭ ‬القاسم‭ ‬النور‭ ‬المبين‭ ‬الموازرِ

عليه‭ ‬سلام‭ ‬الله‭ ‬بدءًا‭ ‬وعودة

وصلى‭ ‬عليه‭ ‬الله‭ ‬معطي‭ ‬الذخائرِ

‭ ‬وصلّى‭ ‬على‭ ‬أصحابه‭ ‬وبناته

وأزواجه‭ ‬والطّيبات‭ ‬الطّواهرِ‭ ‬

 

وختم‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬زيارته‭ ‬بذكر‭ ‬التلبية‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬ذا‭ ‬الحليفة،‭ ‬والإحرام،‭ ‬والمرور‭ ‬على‭ ‬سقيا‭ ‬بني‭ ‬غفار،‭ ‬وثنية‭ ‬الهرشى،‭ ‬وغدير‭ ‬خم،‭ ‬والجحفة،‭ ‬كما‭ ‬زار‭ ‬خيمة‭ ‬أم‭ ‬معبد‭.‬

وتتجدد‭ ‬معاناة‭ ‬الركب‭ ‬وعيسه‭ ‬وتطول‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬إلى‭ ‬مكة،‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬عسفان‭ ‬حين‭ ‬تعبت‭ ‬الإبل‭ ‬وأشرفت‭ ‬على‭ ‬الهلاك،‭ ‬وقد‭ ‬أحس‭ ‬الشاعر‭ ‬بالشفقة‭ ‬عليها،‭ ‬وعذرَها‭ ‬لشدة‭ ‬ما‭ ‬واجهته،‭ ‬وطول‭ ‬مدة‭ ‬السفر‭ ‬التي‭ ‬استغرقت‭ ‬ستة‭ ‬أشهر،‭ ‬وبعد‭ ‬زيارته‭ ‬مكة‭ ‬وأداء‭ ‬شعائر‭ ‬الحج‭ ‬من‭ ‬طواف‭ ‬وسعي‭ ‬ووقوف‭ ‬بعرفة‭ ‬ونزول‭ ‬بالمزدلفة‭ ‬ومنى،‭ ‬وحل‭ ‬من‭ ‬الإحرام،‭ ‬ونحر‭ ‬للذبائح،‭ ‬واكتحال‭ ‬بمشاهدة‭ ‬الآثار‭ ‬المقدسة،‭ ‬حمد‭ ‬الوارجلاني‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬على‭ ‬إكمال‭ ‬الحج،‭ ‬ويمّم‭ ‬وجهه‭ ‬كجميع‭ ‬الحجاج‭ ‬نحو‭ ‬المغرب،‭ ‬يتنازعه‭ ‬شوق‭ ‬عارم‭ ‬للأهل‭ ‬وللوطن،‭ ‬وحزن‭ ‬على‭ ‬فراق‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة،‭ ‬وهو‭ ‬صراع‭ ‬نفسي‭ ‬داخلي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬الرحّالة‭ ‬في‭ ‬كتبهم،‭ ‬يقول‭:‬

كانت‭ ‬السبيل‭ ‬المتبعة‭ ‬في‭ ‬الإياب‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬الذهاب؛‭ ‬إذ‭ ‬اختار‭ ‬الرحال‭ ‬الوجهة‭ ‬البحرية‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مخاطرها،‭ ‬فكان‭ ‬الانطلاق‭ ‬من‭ ‬ميناء‭ ‬جدة‭ ‬عبر‭ ‬مراكب‭ ‬مجهزة‭ ‬لذلك،‭ ‬متجهين‭ ‬عبر‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬نحو‭ ‬البلاد‭ ‬المصرية،‭ ‬وبعد‭ ‬مكابدة‭ ‬ومعاناة‭ ‬من‭ ‬أهوال‭ ‬البحر،‭ ‬ومن‭ ‬فقد‭ ‬الأحبة‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬السفر‭ ‬بسبب‭ ‬الغرق،‭ ‬كان‭ ‬المدخل‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬ميناء‭ ‬عيذاب‭ ‬ملتقى‭ ‬التجار‭ ‬والحجاج،‭ ‬هنالك‭ ‬قام‭ ‬الركب‭ ‬بالتزود‭ ‬بالسلع‭ ‬من‭ ‬تجار‭ ‬البجا‭ ‬القادمين‭ ‬إلى‭ ‬الميناء،‭ ‬ومن‭ ‬عيذاب‭.‬

تجددت‭ ‬الرحلة‭ ‬البرية‭ ‬في‭ ‬قرى‭ ‬ومدن‭ ‬مصر،‭ ‬أولاها‭ ‬مدينة‭ ‬قوص‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬الصعيد‭ ‬واقعة‭ ‬على‭ ‬النيل،‭ ‬وقد‭ ‬وصفها‭ ‬الوارجلاني‭ ‬بالخصيبة،‭ ‬وتليها‭ ‬مدينة‭ ‬قفط‭ ‬الأقدم‭ ‬من‭ ‬قوص،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬البلينا،‭ ‬واتجه‭ ‬الركب‭ ‬نحو‭ ‬الشمال،‭ ‬فمر‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬أخميم،‭ ‬ثم‭ ‬أرض‭ ‬العجوز‭ ‬دلوكة‭ (‬حائط‭ ‬العجوز‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬بُني‭ - ‬حسب‭ ‬الروايات‭ ‬القديمة‭ -  ‬بأمر‭ ‬من‭ ‬ملكة‭ ‬من‭ ‬ملوك‭ ‬القبط‭ ‬الأولين؛‭ ‬حيث‭ ‬خشيت‭ ‬استيلاء‭ ‬الملوك‭ ‬على‭ ‬مملكتها‭ ‬بعد‭ ‬غرق‭ ‬فرعون‭ ‬ورجاله‭ ‬وسحرته،‭ ‬وبعد‭ ‬هذا‭ ‬الموضع‭ ‬تأتي‭ ‬مدينة‭ ‬زماخر‭ ‬أشار‭ ‬الوارجلاني‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تعرف‭ ‬به‭ ‬المدينة‭ ‬وهي‭ ‬الساحرة‭ ‬دهية،‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬الشريف‭ ‬الإدريسي‭ ‬نقلًا‭ ‬عن‭ ‬روايات‭ ‬السكان‭ ‬بأنها‭ ‬كانت‭ ‬ساكنة‭ ‬بقصر‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬جبل‭ ‬الطيلمون‭: ‬‮«‬وكانت‭ ‬تتكلم‭ ‬على‭ ‬المراكب‭ ‬فلا‭ ‬تقدر‭ ‬على‭ ‬الجواز‭ ‬عليها‭ ‬البتة‭ ‬مع‭ ‬عون‭ ‬قوة‭ ‬جري‭ ‬الماء‭ ‬وانصبابه‭ ‬وانزعاج‭ ‬قوته‭ ‬عند‭ ‬الجبل‮»‬‭. ‬

ومن‭ ‬زماخر‭ ‬توجه‭ ‬ركب‭ ‬الحجاج‭ ‬إلى‭ ‬أسيوط‭ ‬المعروفة‭ ‬بقبيلة‭ ‬الجعافرة‭ ‬المحاربة،‭ ‬وبقبيلة‭ ‬لواتة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬في‭ ‬القديم،‭ ‬ومن‭ ‬أسيوط‭ ‬عدّد‭ ‬الوارجلاني‭ ‬سريعا‭ ‬بقية‭ ‬المراحل‭ ‬كأشمونين،‭ ‬ثم‭ ‬المنية،‭ ‬المعروفة‭ ‬بالصحابي‭ ‬حاطب‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬بلتعة‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬الذي‭ ‬أرسله‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬إلى‭ ‬المقوقس‭ ‬ملك‭ ‬مصر،‭ ‬وتلي‭ ‬المنية‭ ‬قرية‭ ‬نهبسة‭ (‬بهنسا‭)‬،‭ ‬وطنبدى‭ ‬مغراوة‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬سكانها‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬مغاغة‭ ‬المنحدرة‭ ‬من‭ ‬مغراوة،‭ ‬ثم‭ ‬منية‭ ‬القائد‭ ‬نسبة‭ ‬للقائد‭ ‬فضل‭ ‬بن‭ ‬صالح،‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬مصر‭ ‬القاهرة‭ ‬يومان،‭ ‬وكوم‭ ‬شريك،‭ ‬وأرض‭ ‬البحيرة،‭ ‬ثم‭ ‬منارة‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬والحمّام‭ (‬مطروح‭)‬،‭ ‬وسمامة‭ ‬الدوي‭ ‬الساحلية،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬العقاب،‭ ‬ولبة،‭ ‬ومدينة‭ ‬الرمادة‭ ‬وشماس‭ (‬قصر‭ ‬الشماس‭)‬،‭ ‬وقرية‭ ‬سليم،‭ ‬ومدينة‭ ‬سنترية‭ ‬آ‭ ‬خر‭ ‬معاطن‭ ‬مصر‭.‬

وتتكرر‭ ‬مراحل‭ ‬التنقل‭ ‬داخل‭ ‬البلاد‭ ‬الليبية‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬موطنه‭ ‬وارجلان،‭ ‬فعدّدها‭ ‬الشاعر‭ ‬سريعًا،‭ ‬فكان‭ ‬مروره‭ ‬مع‭ ‬الركب‭ ‬على‭ ‬بئر‭ ‬زيدان‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬أوجلة،‭ ‬ثم‭ ‬زلّة،‭ ‬وجبل‭ ‬الهاروج‭ ‬الذي‭ ‬استغله‭ ‬الركب‭ ‬للاستراحة‭ ‬ولإراحة‭ ‬الإبل‭ ‬التي‭ ‬أصابها‭ ‬الضعف‭ ‬من‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭ ‬وقساوة‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬الصحراوية،‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬غدامس‭ ‬المركز‭ ‬التجاري‭ ‬المشهور‭ ‬آنذاك‭ ‬بكونه‭ ‬ملتقى‭ ‬الحجاج‭ ‬والتجار،‭ ‬والطرق‭ ‬التجارية،‭ ‬تصله‭ ‬القوافل‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬اتجاهات‭ ‬عبر‭ ‬مفازات‭ ‬الصحراء،‭ ‬ومن‭ ‬غدامس‭ ‬إلى‭ ‬بلدة‭ ‬الفقهاء‭ ‬التي‭ ‬وجدها‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬العودة‭ ‬عام‭ ‬571هـ‭ ‬مدمرة،‭ ‬خربة،‭ ‬قتل‭ ‬فيها‭ ‬أكثر‭ ‬أهلها،‭ ‬وارتحل‭ ‬الناجون‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬جبلية‭ ‬مجاورة،‭ ‬وهذا‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬الحاكم‭ ‬قراقوش‭ ‬عليها‭.‬

 

4‭ - ‬قيمة‭ ‬الرحلة‭ ‬الوارجلانية‭ ‬العلمية

يتضح‭ ‬لقارئ‭ ‬الرحلة‭ ‬الوارجلانية‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفوائد‭ ‬والمعلومات،‭ ‬شأنها‭ ‬شأن‭ ‬أي‭ ‬رحلة‭ ‬واقعية‭ ‬مدونة،‭ ‬نثرية‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬شعرية،‭ ‬فهي‭ ‬تقدم‭ ‬معارف‭ ‬جغرافية‭ ‬شتى،‭ ‬وأخبارًا‭ ‬تاريخية‭ ‬خصت‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬الرحال‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬قبله،‭ ‬لكننا‭ ‬نلمس‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬الهنات‭ ‬كتغيير‭ ‬أسماء‭ ‬المواضع‭ ‬إما‭ ‬لضرورات‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬أو‭ ‬أخطاء‭ ‬في‭ ‬التسمية،‭ ‬وذكر‭ ‬بعض‭ ‬الأسماء‭ ‬لشخصيات‭ ‬يعذر‭ ‬التعرف‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬هذا‭ ‬كعلي‭ ‬وعباس‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وقابض‭ ‬المكس‭ ‬ابن‭ ‬البسام،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬العيوب‭ ‬لا‭ ‬تنقص‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الرحلة‭ ‬ومن‭ ‬أهميتها‭ ‬لمعاصريه،‭ ‬وللمتأخرين‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

أخيرًا،‭ ‬إن‭ ‬قارئ‭ ‬الرحلة‭ ‬الوارَجْلانية‭ ‬يقف‭ ‬حائرًا‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬التحفة‭ ‬التي‭ ‬ضمت‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬المواضع‭ ‬والمراحل‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬ضمّه‭ ‬العديد‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الرحلات‭ ‬المنثورة‭ ‬والكتب‭ ‬الجغرافية،‭ ‬وإن‭ ‬الدّارس‭ ‬ليعجز‭ ‬عن‭ ‬إيفاء‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬حقها‭ ‬في‭ ‬تلمس‭ ‬جمالياتها‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنحصر‭ ‬في‭ ‬فصاحة‭ ‬اللّفظ،‭ ‬وصحة‭ ‬العبارة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬برهنت‭ ‬على‭ ‬اطّلاع‭ ‬الوارجلاني‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الشعري‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬ووعيه‭ ‬لتقاليد‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الرحلة،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬ذكائه‭ ‬في‭ ‬توظيف‭ ‬الاقتباسات،‭ ‬واستعادة‭ ‬التراث،‭ ‬وترتيب‭ ‬الأحداث،‭ ‬والوقوف‭ ‬عند‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬كل‭ ‬موضع‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المواضع،‭ ‬مراعاة‭ ‬لخصوصيات‭ ‬الشعر؛‭ ‬حيث‭ ‬يستلزم‭ ‬الشعر‭ ‬الإيجاز‭ ‬والتكثيف‭ ‬في‭ ‬العبارة،‭ ‬والتصوير‭ ‬المجازي‭ ‬التخييلي‭ ‬في‭ ‬الصورة،‭ ‬والتأنق‭ ‬في‭ ‬الأسلوب،‭ ‬والذاتية‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬■