هنري فانتان لاتور «مرسم في باتينيول»

في عام 1870م، أي عشية ظهور الانطباعية رسميًا، كانت المدرستان الرومنطيقية والنيوكلاسيكية قد فقدتا زعامتهما على الحياة الفنية في باريس، لصالح فنٍ جديد لم يكن قد تبلور بوضوح بعد. فمن جهة، كان هناك أكاديميون محافظون مستمرون في الرسم وفق الأصول التقليدية مثل بوغيرو وميسونييه، ومن جهة أخرى كانت هناك حفنة من الأساتذة تصوغ منهجًا مختلفًا في التعبير، ومن أبرزهم وأنجحهم إدوار مانيه الذي التفّت حوله نخبة من المثقفين والفنانين الراغبين في التطوير. ونراه في هذه اللوحة جالسًا أمام حامل اللوحة، وقد أحاطت به مجموعة من ألمع الأسماء بالحياة الثقافية في فرنسا آنذاك.
رسام هذه اللوحة هو هنري فانتان لاتور الذي لا يقل شأنًا عن زملائه الظاهرين هنا، والمعروف أنه لم يشارك الانطباعيين والمحدّثين إلا في الانتماء إلى الواقعية، أما تقنيته في الرسم فقد بقيت محافظة نسبيًا، لكن من دون أن تخلو مما يعبّر عن نبوغه وعبقريته.
ولد لاتور في عام 1836م، ودرس الرسم أولًا على يد والده الذي كان فنانًا أيضًا، ثم التحق بمدرسة الفنون الجميلة في باريس عام 1854م. وبعد تخرجه أمضى سنوات عديدة في متحف اللوفر ينسخ لوحات كبار الأساتذة بإتقان مكّنه من بيع هذه النسخ بأسعار مرتفعة نسبيًا، والعيش بشكل جيد من مردودها. كما ساعده هذا العمل على بلورة تقنية فذة والنبوغ فيها. حتى إن فحص بعض لوحات الزهور التي رسمها بواسطة أشعة إكس يظهر أنها خالية تمامًا من أي تراكم للألوان فوق بعضها، فضربة الفرشاة الأولى عنده هي الضربة الأخيرة، لا أخطاء ولا تصليح.
إضافة إلى الزهور، انشغل هذا الفنان بموضوعين آخرين، الصور الشخصية لأفراد، وصور لمجموعات من الناس مع الحفاظ على رسم ملامح كل شخص على حدة بشكل أمين للواقع. ومن ضمن هذه الفئة الأخيرة «مرسم في باتينيول».
المرسم هو مرسم إدوار مانيه، الأب الفعلي للانطباعية والواقعية الجديدة، والذي تحفّظ عليه الأكاديميون، والتف حوله الانطباعيون بوصفه أستاذهم. وباتينيول هو اسم الحي الباريسي الذي يقع فيه هذا المرسم.
نرى هنا مانيه بملامح وجهه الحقيقية جالسًا يرسم، ومميّزًا عن الآخرين بسرواله الأبيض، وإلى جانبه جلس الكاتب والناقد والفنان زكريا أستروك الذي كان لمقالاته دور كبير في تقديم الانطباعيين والترويج للفن الجديد. والواقفون حولهما هم من اليسار إلى اليمين: الرسام الألماني أوتو شولدرير، رينوار (الذي يرتدي قبعة)، الروائي إميل زولا، الكاتب والموسيقي إدمون ماتر، الرسام فردريك بازيل، وخلفه في أقصى اليمين كلود مونيه. وفي يسار اللوحة نرى بعض الأشياء التي تكون موجودة عادة في مراسم الفنانين مثل مجسم صغير لتمثال يوناني، ومزهرية وما شابه ذلك.
من المعروف أن هذه الكوكبة من الأعلام كانت على صلات صداقة في ما بينها، لكن من المستبعد أن تكون قد اجتمعت دون غيرها ودفعة واحدة في مرسم مانيه كما نراها هنا، إذ ثمة مؤشرات كثيرة تدل على أن هذه اللوحة تألفت من مجموعة رسوم تحضيرية متفرقة ليُصار إلى جمعها لاحقًا، مثل مانيه الذي لا نعرف صوب ماذا يتطلع، أو إميل زولا الذي لا يبدو معنيًا بما يفعله مانيه. ومع ذلك، فإن هذه اللوحة لا تخلو مما يعبّر عن عبقرية راسمها.
ففي هذا الجو الداكن اللون، حيث الملابس تكاد تنصهر في لون واحد يقارب السواد، تبرز وجوه الأشخاص مضاءة بوضوح، وتتكامل مع ما في الزاوية السفلى إلى اليسار، في تشكيل محور مضاء جيدًا ويمتد على طول قطر المستطيل. وإلى ذلك، تُضاف البراعة في رسم الوجوه بشكل شبه فوتوغرافي، وبضربات ريشة صحيحة من المرة الأولى.
حاول بعض النقّاد تحميل هذه اللوحة دلالات رمزية مثل القول إن المزهرية الظاهرة في الجهة اليسرى يابانية، وفي ذلك ما يشير إلى انفتاح المجددين على فنون الشرق الأقصى، وإن الإطار المعلّق على الحائط هو تعبير عن انتظار الفن الجديد المرتقب. وسواء أكان ذلك صحيحًا أم لا، فإن الأهمية الأولى لهذه اللوحة تكون في طابعها التوثيقي والتاريخي. ولا يقتصر هذا الطابع على رسم بورتريهات هؤلاء الأعلام، بل إن التركيب العام يروي الكثير حول أهمية كل منهم ومكانته في تلك الفترة خاصة. فالأهم هو مانيه يليه أستروك الجالس إلى جانبه، والأقل أهمية هو مونيه المرسوم خلف بازيل، ويكاد يكون في الظل، وكان عليه أن ينتظر بضع سنوات أخرى لينتقل إلى الصف الأول في الحياة الفنية في باريس ■