مراثي العيون في العصر العباسيّ

مراثي العيون  في العصر العباسيّ

لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬مفطورٌ‭ ‬على‭ ‬حب‭ ‬الكمال‭ ‬والاقتدار‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬المجهول‭.  ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬لاريب‭ ‬أنه‭ ‬كلما‭ ‬فقد‭ ‬حاسة‭ ‬من‭ ‬حواسه‭ ‬شعر‭ ‬باختلال‭ ‬وجوده‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬الحياة،‭ ‬وأحس‭ ‬بانقطاع‭ ‬أحد‭ ‬جسور‭ ‬تواصله‭ ‬مع‭ ‬العالم؛‭ ‬فكيف‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬شاعرًا‭ ‬مرهفًا‭ ‬قد‭ ‬سلبه‭ ‬الزمن‭ ‬نعمة‭ ‬البصر؟‭!‬

تنبئنا‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬قصائد‭ ‬المكفوفين‭ ‬ورثائهم‭ ‬عيونهم‭ ‬المفقودة،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬الحقبة‭ ‬العباسية،‭ ‬بفداحة‭ ‬إحساسهم‭ ‬بحجم‭ ‬الخسارة‭ ‬والانكسار‭ ‬إزاء‭ ‬تقلبات‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬انقلبت‭ ‬لديهم‭ ‬إلى‭ ‬محنة،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬اختبار‭ ‬الهزيمة‭ ‬اليومية،‭ ‬والتدريب‭ ‬القسري‭ ‬والمجاني‭ ‬على‭ ‬معايشة‭ ‬رعب‭ ‬الغياب‭ ‬والموت،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬حاولوا‭ ‬إظهار‭ ‬التجلد‭ ‬والتصبر‭ ‬الممضيين‭.‬

ولا‭ ‬يخفى‭ ‬أن‭ ‬للعين‭ ‬لدى‭ ‬الشاعر‭ ‬حساسيةً‭ ‬خاصةً؛‭ ‬فهي‭ ‬نافذته‭ ‬الأولى‭ ‬لإدراك‭ ‬العالم‭ ‬بتعدده‭ ‬واختلافه‭ ‬وتنوعه،‭ ‬والكوة‭ ‬العجيبة‭ ‬التي‭ ‬يطل‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬الوجود‭ ‬متصفحًا‭ ‬وجوهه‭ ‬المتباينة،‭ ‬ليخزن‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬رصيدًا‭ ‬لا‭ ‬ينفد‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬والظلال‭ ‬والألوان‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تشحذ‭ ‬مخيلته‭ ‬بطاقة‭ ‬الابتكار‭ ‬والتوليد‭ ‬الدلالي‭ ‬الفذ،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فلا‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬رأينا‭ ‬أن‭ ‬الأيام‭ ‬استحالت‭ ‬ظلامًا‭ ‬عابسًا‭ ‬وليلًا‭ ‬دامسًا‭ ‬عند‭ ‬الشاعر‭ ‬العباسي‭ ‬أبي‭ ‬الشيص‭ ‬الخزاعي‭ (‬196-130هـ‭) ‬الذي‭ ‬فقد‭ ‬بصره‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬حياته،‭ ‬فانصرف‭ ‬إلى‭ ‬رثاء‭ ‬عينه‭ ‬وبكائها‭ ‬بدمع‭ ‬هتان‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬دليله‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬والمصباح‭ ‬الذي‭ ‬يبصره‭ ‬الأشياء‭:‬

يا‭ ‬نَفْس‭ ‬بَكّــي‭ ‬بِأَدْمـــع‭ ‬هُتُنِ‭ 

‭ ‬وَواكِف‭ ‬كالجمّانِ‭ ‬فـــــي‭ ‬سَنَنِ

على‭ ‬دَليلي‭ ‬وَقائِـــدي‭ ‬وَيَدي‭ 

‭ ‬وَنورِ‭ ‬وَجْهي‭ ‬وَسائِسِ‭ ‬البَدَنِ

أَبْكي‭ ‬عَلَيْها‭ ‬بِها‭ ‬مَخافَةَ‭ ‬أَنْ‭ 

يَقْرنَني‭ ‬وَالظَّلام‭ ‬في‭ ‬قَرَنِ

 

وليس‭ ‬غريبًا‭ ‬أن‭ ‬تزدحم‭ ‬مرثيّات‭ ‬المكفوفين‭ ‬لعيونهم‭ ‬بمفردات‭ ‬البكاء‭ ‬والدّموع‭ ‬والحزن‭ ‬والثّكل‭ ‬والتّحسّر،‭ ‬وأن‭ ‬تفيض‭ ‬بصدق‭ ‬حرارة‭ ‬العذاب،‭ ‬وبإحساس‭ ‬قويّ‭ ‬بالألم‭ ‬الوجوديّ؛‭ ‬تدفعهم‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬رغبتهمْ‭ ‬الحثيثة‭ ‬في‭ ‬التّعبير‭ ‬عن‭ ‬أعمق‭ ‬ما‭ ‬يلتهب‭ ‬في‭ ‬ذواتهم‭ ‬من‭ ‬إحباط‭ ‬وفاجعة،‭ ‬والتّطلّع‭ ‬إلى‭ ‬التّفريج‭ ‬عن‭ ‬كروبهم‭ ‬الجوّانيّة‭ ‬بإشراك‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬عذاباتهم‭ ‬وأحزانهم‭ ‬الموجعة،‭ ‬كما‭ ‬يدفعهم‭ ‬إليه‭ ‬أيضًا‭ ‬الصّبو‭ ‬إلى‭ ‬استعطاف‭ ‬النّاس‭ ‬المحيطين‭ ‬بهم‭ ‬ونيل‭ ‬رعايتهم؛‭ ‬نتلمّس‭ ‬هذه‭ ‬المعاني‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬الشّاعر‭ ‬أبي‭ ‬يعقوب‭ ‬الخريميّ‭ (‬276-231هـ‭) ‬المفجوع‭ ‬بعينه‭:‬

لله‭ ‬عيْنـــــي‭ ‬الّتـــي‭ ‬فُجِعْت‭ ‬بِها‭ 

‭ ‬لـوْ‭ ‬أنّ‭ ‬دهْرًا‭ ‬بِها‭ ‬يواتيني

لوْ‭ ‬كنْت‭ ‬خيِّرْت‭ ‬ما‭ ‬أخذْت‭ ‬بِها‭ 

‭ ‬تعْمير‭ ‬نوح‭ ‬في‭ ‬ملْكِ‭ ‬قارونِ

حقّ‭ ‬أخِلّائي‭ ‬أنْ‭ ‬يعودوني‭ 

وأنْ‭ ‬يعزّوا‭ ‬عنّــــي‭ ‬ويبْكوني

 

فهو‭ ‬يتمنّى‭ ‬لو‭ ‬أنّ‭ ‬الدّهر‭ ‬كان‭ ‬يطيعه‭ ‬فيعيد‭ ‬إليه‭ ‬بصره،‭ ‬كما‭ ‬يتمنّى‭ ‬لو‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬خيّر‭ ‬بين‭ ‬عينه‭ ‬وعمر‭ ‬نوح‭ ‬الطّويل‭ ‬مقرونًا‭ ‬بكنوز‭ ‬قارون،‭ ‬لاتخذ‭ ‬عينه‭ ‬مطمعًا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تردّد،‭ ‬ولكن‭ ‬لات‭ ‬حين‭ ‬تمنّ‭! ‬فهو‭ ‬والحال‭ ‬كذلك‭ ‬يحقّ‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يرجو‭ ‬من‭ ‬أصدقائه‭ ‬عيادته‭ ‬وتعزيته‭ ‬والتّخفيف‭ ‬من‭ ‬لوعته‭. ‬ونلحظ‭ ‬في‭ ‬مراثي‭ ‬المكفوفين،‭ ‬أنّ‭ ‬المصيبة‭ ‬أعظم،‭ ‬والمحنة‭ ‬أفجع‭ ‬لدى‭ ‬الشّعراء‭ ‬الّذين‭ ‬أطفِئت‭ ‬عيونهم‭ ‬على‭ ‬كبر،‭ ‬فهم‭ ‬قد‭ ‬خبروا‭ ‬نعمة‭ ‬الإبصار‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ورأوا‭ ‬مباهج‭ ‬الدّنيا‭ ‬المرئيّة،‭ ‬وتفاعلوا‭ ‬مع‭ ‬ألوانها‭ ‬الفرحة،‭ ‬واقتنصوا‭ ‬ملذّاتها؛‭ ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬رزيّة‭ ‬الشّاعر‭ ‬ابن‭ ‬التّعاويذيّ‭ ‬
‭(‬519‭ - ‬583هـ‭) ‬كبيرةً‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬يحسب‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدّنيا‭ ‬زائدًا،‭ ‬وأنّه‭ ‬يحيا‭ ‬فيها‭ ‬مرغمًا‭ ‬على‭ ‬العيش‭ ‬المضني‭ ‬الذي‭ ‬سلبه‭ ‬معنى‭ ‬الوجود،‭ ‬وأحال‭ ‬حياته‭ ‬أسرًا‭ ‬ورثاء‭ ‬يطفح‭ ‬بالبكاء؛‭ ‬فهو‭ ‬يشبّه‭ ‬عينه‭ ‬بالجوهرة‭ ‬النّفسية‭ ‬الّتي‭ ‬لا‭ ‬تقدّر‭ ‬قيمتها‭ ‬بثمن،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬يضنّ‭ ‬بها‭ ‬ويحرص‭ ‬عليها؛‭ ‬لذا‭ ‬يتعجّب‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يرثِها‭ ‬رثاءً‭ ‬مريرًا،‭ ‬أو‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يبكِها‭ ‬بالدّم‭ ‬لا‭ ‬بالدّمع،‭ ‬فيقول‭:‬

جوْهــرةٌ‭ ‬كنْـت‭ ‬ضنينًا‭ ‬بِهـا‭ ‬

‭ ‬نفـيسة‭ ‬القيمـةِ‭ ‬والقــدْرِ

إِنْ‭ ‬أنا‭ ‬لـــمْ‭ ‬أبْكِ‭ ‬عليْهــا‭ ‬دمًا‭ 

فضْلًا‭ ‬عنِ‭ ‬الدّمْعِ‭ ‬فما‭ ‬عذْري؟

 

وكيف‭ ‬لا‭ ‬يبكي،‭ ‬وقد‭ ‬اجتمع‭ ‬عليه‭ ‬ثالوثٌ‭ ‬يعجز‭ ‬عن‭ ‬احتماله،‭ ‬ثالوث‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬العمى‭ ‬والشّيب‭ ‬والفقر،‭ ‬حتّى‭ ‬كأنّه‭ ‬يعقوب‭ ‬في‭ ‬حزنه،‭ ‬وأيّوب‭ ‬في‭ ‬مأساته‭ ‬وصبره؛‭ ‬لأنّه‭ ‬بات‭ ‬سجين‭ ‬عزلته‭ ‬وعتمته‭ ‬كأنّه‭ ‬ميت‭ ‬فاته‭ ‬الدّفن،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭:‬

فيــــا‭ ‬لهـــــا‭ ‬طـــــــارِقةً‭ ‬هدّنــــــي

  ‬طروقها‭ ‬فـــي‭ ‬آخِرِ‭ ‬العــمْرِ

طارِقـــــةً‭ ‬مثّــــــل‭ ‬بـــــي‭ ‬مسّهـــا‭ ‬

‭ ‬يعْجز‭ ‬عنْ‭ ‬أمْثالِها‭ ‬صبْري

فلا‭ ‬رعــــــاهـــا‭ ‬الله‭ ‬مِــــنْ‭ ‬حالة‭ ‬

‭ ‬ثالِثــــــــة‭ ‬للشّيْـــبِ‭ ‬والفقْـــــــرِ

كأنّني‭ ‬يعْقوب‭ ‬في‭ ‬الحزْنِ‭ ‬بلْ‭ 

أيّوب‭ ‬في‭ ‬البأْساءِ‭ ‬والضّرِّ

أسيـــــر‭ ‬هـــــــمّ‭ ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬فـــــادِيًا‭ ‬

‭ ‬يفكّ‭ ‬مِــــــنْ‭ ‬قبْضتِـــهِ‭ ‬أسْري

حبيس‭ ‬بيْت‭ ‬مفْــــردًا‭ ‬مسْلَمًا‭ 

فيه‭ ‬إلـــــى‭ ‬الأحْـــزانِ‭ ‬والفِكْرِ

تضيق‭ ‬عنْ‭ ‬خطْـــــوي‭ ‬أقْطاره‭ 

وهْو‭ ‬رحيبٌ‭ ‬واسِــع‭ ‬القطْـــرِ

كأنّنـــي‭ ‬فــــي‭ ‬قعْـــــرِهِ‭ ‬جاثِمًا

  ‬ميْتٌ‭ ‬ومــــا‭ ‬ألْحِــد‭ ‬فـــي‭ ‬قبْـرِ

 

ولئن‭ ‬رأى‭ ‬هذا‭ ‬الشّاعر‭ ‬أنّ‭ ‬حياته‭ ‬وموته‭ ‬سيّان‭ ‬في‭ ‬دنيا‭ ‬يعجز‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬يبصرها،‭ ‬فإنّ‭ ‬الشّاعر‭ ‬أبا‭ ‬بكر‭ ‬ابن‭ ‬العلّاف‭ ‬النّهروانيّ‭ (‬318-218هـ‭) ‬يؤكّد‭ ‬هذا‭ ‬المعنى؛‭ ‬إذ‭ ‬يتوجّه‭ ‬بكلامه‭ ‬إلى‭ ‬امرأة‭ ‬شبّهته‭ ‬بالموتى‭ ‬حين‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬حفرة،‭ ‬فيقرّر‭ ‬صحّة‭ ‬كلامها،‭ ‬ويجيبها‭ ‬بأن‭ ‬الموت‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلّا‭ ‬ذهاب‭ ‬البصر؛‭ ‬لأنّ‭ ‬عينيه‭ ‬كانتا‭ ‬له‭ ‬ككفّين‭ ‬يذلّل‭ ‬بهما‭ ‬صعوبات‭ ‬الحياة،‭ ‬ويتوكّأ‭ ‬عليهما‭ ‬في‭ ‬رعاية‭ ‬شؤونه‭ ‬وأموره‭ ‬الحياتيّة،‭ ‬لكن‭ ‬اليوم‭ ‬كيف‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يفرح‭ ‬وكفّاه‭ ‬مفقودتان،‭ ‬فلا‭ ‬يتمكّن‭ ‬من‭ ‬اتّقاء‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬فخاخ‭ ‬الدّنيا‭ ‬وأشراكها‭ ‬المخادعة؟‭! ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬له‭ ‬إلّا‭ ‬الحزن‭ ‬والهمّ‭ ‬متّكأً‭ ‬وعكّازًا‭ ‬لقطع‭ ‬دروب‭ ‬الزّمن‭ ‬الموحشة،‭ ‬وتصريف‭ ‬الأيّام‭ ‬المضنية‭ ‬الزّائدة‭ ‬في‭ ‬حساب‭ ‬العمر،‭ ‬فيقول‭:‬

قالتْ‭ ‬كأنّك‭ ‬في‭ ‬الموْتى‭ ‬فقلْت‭ ‬لها‭ 

قدْ‭ ‬مات‭ ‬منْ‭ ‬ذهبتْ‭ ‬واللهِ‭ ‬عيْناه

عيْنــــــاي‭ ‬كفّــــاي‭ ‬لا‭ ‬طرْفٌ‭ ‬ألـذّ‭ ‬بِهِ‭ ‬

‭ ‬وكيْف‭ ‬يفْرح‭ ‬مـــنْ‭ ‬عيْنـاه‭ ‬كفّـــاه؟‭!‬

 

وبنغمة‭ ‬رثائيّة‭ ‬شجيّة‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الإفراط‭ ‬في‭ ‬اليأس‭ ‬والقنوط‭ ‬من‭ ‬الدّنيا‭ ‬وأهلها،‭ ‬يعود‭ ‬ابن‭ ‬التّعاويذيّ‭ ‬فيصوّر‭ ‬حالته‭ ‬المهزومة،‭ ‬وهو‭ ‬مرميّ‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صورة‭ ‬قاسية‭ ‬تبعث‭ ‬على‭ ‬التّعاطف‭ ‬معه‭ ‬ومشاركته‭ ‬انكساره،‭ ‬فيشبّه‭ ‬نفسه‭ ‬بالميت‭ ‬في‭ ‬رمسه‭ ‬أو‭ ‬بالمقبور،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نتبيّن‭ ‬حجم‭ ‬معاناته‭ ‬ووحدته‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬القاسية‭ ‬بما‭ ‬تختزنه‭ ‬من‭ ‬وجع‭ ‬وعنف‭ ‬نفسيّ‭ ‬مرعب،‭ ‬فتتساوى‭ ‬لديه‭ ‬الأوقات‭ ‬من‭ ‬صبح‭ ‬ومساء،‭ ‬حتّى‭ ‬إنّ‭ ‬حاسده‭ ‬ليرقّ‭ ‬لحاله‭ ‬ويبكي‭ ‬لضعفه‭ ‬وهوانه‭ ‬رأفةً‭ ‬ورحمةً‭ ‬به‭: ‬

فها‭ ‬أنا‭ ‬كالمقْبورِ‭ ‬في‭ ‬كِسْرِ‭ ‬منْزِلي‭ ‬

‭ ‬سواءٌ‭ ‬صباحي‭ ‬عِنْده‭ ‬ومسائي

يرِقّ‭ ‬ويبْكـي‭ ‬حاسِــدي‭ ‬لي‭ ‬رحْمةً‭ ‬

‭ ‬وبعْدًا‭ ‬لها‭ ‬مِـــنْ‭ ‬رِقّـــــة‭ ‬وبكــاءِ

 

وحين‭ ‬يعمد‭ ‬الشّعراء‭ ‬الّذين‭ ‬أعشى‭ ‬العمى‭ ‬أبصارهم‭ ‬في‭ ‬خريف‭ ‬العمر‭ ‬إلى‭ ‬مقارنة‭ ‬أحوالهم‭ ‬البائسة‭ ‬التّعسة‭ ‬الرّاهنة‭ ‬بالخوالي‭ ‬من‭ ‬أيّام‭ ‬القدرة‭ ‬والامتلاء،‭ ‬تتجلّى‭ ‬محنتهم‭ ‬أكثر‭ ‬وجعًا؛‭ ‬فالحاضر‭ ‬يبدو‭ ‬كليلٍ‭ ‬حالك‭ ‬رتيب‭ ‬طويل،‭ ‬أمّا‭ ‬الماضي‭ ‬المنصرم‭ ‬فهو‭ ‬زمن‭ ‬الإبصار‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬ربيعًا‭ ‬تزيّنه‭ ‬ألوان‭ ‬الدّنيا‭ ‬ومتعها‭ ‬المختلفة،‭ ‬كما‭ ‬تتعمّق‭ ‬مأساتهم‭ ‬باقتران‭ ‬زمن‭ ‬فقدان‭ ‬العيون‭ ‬بانحلال‭ ‬زمن‭ ‬الشّباب،‭ ‬وارتباطها‭ ‬بإفراغ‭ ‬الدّهر‭ ‬ساعاتِ‭ ‬اللّهو‭ ‬والهوى‭ ‬من‭ ‬ذرّات‭ ‬الحركة‭ ‬والطّاقة‭ ‬والحيويّة‭.  ‬وبذلك‭ ‬يؤسر‭ ‬الشّاعر‭ ‬الكفيف‭ ‬خلف‭ ‬قضبان‭ ‬الأسى‭ ‬والتّذكّر‭ ‬الموجع‭ ‬ينتظر‭ ‬الموت،‭ ‬بيد‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬يلقاه‭. ‬تظهر‭ ‬هذه‭ ‬المعاني‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭ ‬لابن‭ ‬التّعاويذيّ‭ ‬الذي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الشّعر‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬زوال‭ ‬بصره،‭ ‬وفي‭ ‬التّعبير‭ ‬عن‭ ‬الفجيعة‭ ‬الّتي‭ ‬حلّت‭ ‬بعينه‭ ‬حين‭ ‬خبت‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬حياته،‭ ‬وجعلته‭ ‬عاجزًا‭ ‬ضعيفًا‭ ‬ينتظر‭ ‬الآخرين‭ ‬لمساعدته‭ ‬على‭ ‬تلبية‭ ‬حاجاته‭ ‬وشؤونه‭ ‬الشّخصيّة،‭ ‬حتّى‭ ‬كأنّه‭ ‬من‭ ‬دونهم‭ ‬أشبه‭ ‬بـ«حجر‮»‬‭ ‬عديم‭ ‬الفائدة،‭ ‬وسليب‭ ‬الإحساس‭ ‬بالحياة‭ ‬ومسرّاتها،‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬غير‭ ‬ذاكرته‭ ‬وما‭ ‬سجّلته‭ ‬من‭ ‬ظلال‭ ‬أيّام‭ ‬الشّباب‭ ‬واللّهو‭ ‬لتسعفه‭ ‬في‭ ‬التّغلّب‭ ‬على‭ ‬شقاء‭ ‬العمر،‭ ‬ولا‭ ‬له‭ ‬غير‭ ‬الرّجاء‭ ‬بأن‭ ‬يصل‭ ‬سريعًا‭ ‬إلى‭ ‬عتبة‭ ‬الوداع‭ ‬الأخير،‭ ‬ليعانق‭ ‬موته‭ ‬الّذي‭ ‬بدا‭ ‬له‭ ‬خلاصًا‭ ‬نهائيًّا‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬فاجعًا،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬هذا‭ ‬الموت‭ ‬يمعن‭ ‬في‭ ‬مراوغته‭ ‬كلّما‭ ‬بزغ‭ ‬فجر‭ ‬جديد‭ ‬حتّى‭ ‬يظلّ‭ ‬مؤجّلًا‭ ‬منتظرًا،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬مناجيًا‭ ‬ليله‭ ‬الخاصّ‭ ‬به‭ ‬متحسّرًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فاته‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬المرح‭ ‬والحبّ‭: ‬

يا‭ ‬لك‭ ‬مِنْ‭ ‬ليْلِ‭ ‬حِجـــا‭ 

بٍ‭ ‬جنْحِـــــــهِ‭ ‬معْتكِــــــرُ

ظلامـــــه‭ ‬لا‭ ‬ينْجلــــــي‭ 

وصبْحــــه‭ ‬لا‭ ‬يُسْفِــــــرُ

ليْس‭ ‬لـه‭ ‬إِلـــــى‭ ‬الممـا‭ 

تِ‭ ‬آخِــــــــرٌ‭ ‬يُنْتظــــــــرُ

ما‭ ‬فـــــي‭ ‬حيـــــاة‭ ‬معـه‭ 

لِــــــذي‭ ‬حصــاة‭ ‬وطــرُ

غـــادرنــــــــي‭ ‬كأنّنـــــــي‭ 

في‭ ‬كِسْرِ‭ ‬بيْتي‭ ‬حَجرُ

لا‭ ‬أهْتـــــدي‭ ‬لِحاجتـــي‭ 

وفــــي‭ ‬اللّيـــالي‭ ‬عِبرُ

أيْـــن‭ ‬الشّبـــــاب‭ ‬والمِرا‭ 

ح‭ ‬والهـــوى‭ ‬والأشرُ

لمْ‭ ‬يبْق‭ ‬لي‭ ‬إِلّا‭ ‬الأسى‭ 

مِنْهـــــــنّ‭ ‬والتّذكّـــــــر

وعلى‭ ‬المنوال‭ ‬نفسه،‭ ‬يحاول‭ ‬الشّاعر‭ ‬صالح‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬القدّوس‭ (‬77-167هـ‭)‬،‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مراثيه،‭ ‬أن‭ ‬يغترف‭ ‬من‭ ‬معين‭ ‬الذّاكرة‭ ‬ليقوى‭ ‬على‭ ‬صفعة‭ ‬الأيّام،‭ ‬فيصوّر‭ ‬سيرته‭ ‬الماضية‭ ‬صحبة‭ ‬عينه‭ ‬الّتي‭ ‬كانت‭ ‬كريمته‭ ‬والنّور‭ ‬الّذي‭ ‬به‭ ‬تستحب‭ ‬الحياة‭ ‬وتطيب،‭ ‬لذلك‭ ‬تراه‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬شرك‭ ‬الحزن‭ ‬والرّثاء‭ ‬والثّكل،‭ ‬غير‭ ‬أنّه‭ ‬يحاول‭ ‬إبداء‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬رباطة‭ ‬الجأش‭ ‬متمسّكًا‭ ‬بخيط‭ ‬رفيع‭ ‬من‭ ‬التّصبّر‭ ‬والتّعزية‭ ‬والتّسلية‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بأنّ‭ ‬كلّ‭ ‬قرين‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬يومًا‭ ‬أن‭ ‬يفارق‭ ‬مَنْ‭ ‬يألفه،‭ ‬فحالته‭ ‬حال‭ ‬كلّ‭ ‬قرين‭:‬

عــــزاؤكِ‭ ‬أيّها‭ ‬العيْن‭ ‬السّكـوب

ودمْعـــــكِ‭ ‬أنّهـــــا‭ ‬نوبٌ‭ ‬تنـــــوب

وكنْتِ‭ ‬كريمتي‭ ‬وسِراج‭ ‬وجْهي‭ ‬

‭ ‬وكانتْ‭ ‬لـــــي‭ ‬بِكِ‭ ‬الدّنْيا‭ ‬تطيب

فإِنْ‭ ‬أك‭ ‬قدْ‭ ‬ثكِلْتكِ‭ ‬في‭ ‬حياتـــي‭ ‬

‭ ‬وفارقنـــي‭ ‬بِكِ‭ ‬الإِلْف‭ ‬الحبيب

فكلّ‭ ‬قرينة‭ ‬لابــدّ‭ ‬يـــــــوْمًا‭ 

سيشْعَبُ‭ ‬إِلْفها‭ ‬عنْها‭ ‬شَعوبُ

 

وعلى‭ ‬الرّغم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التّماسك‭ ‬الظّاهريّ،‭ ‬فإنّه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يقطع‭ ‬هذا‭ ‬الخيط،‭ ‬فيسلّم‭ ‬على‭ ‬الدّنيا‭ ‬وأهلها‭ ‬سلام‭ ‬المودّعين‭ ‬غير‭ ‬الآسفين‭ ‬عليها‭ (‬على‭ ‬الدّنيا‭ ‬السّلام‭)‬؛‭ ‬لأنّه‭ ‬رأى‭ ‬أنّه‭ ‬يختبر‭ ‬الموت‭ ‬يوميًّا‭ ‬بموت‭ ‬عيونه،‭ ‬ولأنّه‭ ‬حسب‭ ‬كلام‭ ‬الطّبيب‭ ‬حول‭ ‬احتمال‭ ‬الشّفاء‭ ‬مجرّد‭ ‬أمانٍ‭ ‬كاذبة‭ ‬يمنّيه‭ ‬إيّاها،‭ ‬لذلك‭ ‬نجده‭ ‬يطلق‭ ‬زفراته‭ ‬الملتاعة‭ ‬مستسلمًا‭ ‬للبكاء‭ ‬على‭ ‬بعضه‭ ‬الّذي‭ ‬مات‭ ‬منه،‭ ‬فيقول‭:‬

على‭ ‬الدّنْيا‭ ‬السّلام‭ ‬فمـــا‭ ‬لِشيْخ‭ 

ضريرِ‭ ‬العيْنِ‭ ‬في‭ ‬الدّنْيا‭ ‬نصيب

يمـــــوت‭ ‬المرْء‭ ‬وهْــــو‭ ‬يعــــدّ‭ ‬حيًّا‭ ‬

‭ ‬ويخْلِف‭ ‬ظنّــه‭ ‬الأمـــــل‭ ‬الكذوب

يمنّينـــي‭ ‬الطّبيب‭ ‬شِفـــاء‭ ‬عيْني‭ ‬

‭ ‬ومــــا‭ ‬غيْـــر‭ ‬الإِلـــهِ‭ ‬لها‭ ‬طـبيب

إِذا‭ ‬ما‭ ‬مات‭ ‬بعْضك‭ ‬فابْكِ‭ ‬بعْضًا‭ 

فإِنّ‭ ‬البعْض‭ ‬مِنْ‭ ‬بعْض‭ ‬قريب

 

لكنْ،‭ ‬إزاء‭ ‬هذه‭ ‬النّزعة‭ ‬الرّثائيّة‭ ‬المنكسرة‭ ‬الغارقة‭ ‬في‭ ‬الشّجن‭ ‬والنّدب‭ ‬لفقدان‭ ‬العيون،‭ ‬يلفتنا‭ ‬أنّ‭ ‬أبا‭ ‬يعقوب‭ ‬الخريميّ‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬قصائده‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬مناجاة‭ ‬عينه‭ ‬المطفأ‭ ‬نورها‭ ‬وإلى‭ ‬مخاطبتها،‭ ‬ليخفّف‭ ‬من‭ ‬جزعها‭ ‬وبكائها‭ ‬متجلببًا‭ ‬رداء‭ ‬العزاء‭ ‬والتّجلّد،‭ ‬بيد‭ ‬أنّ‭ ‬باطن‭ ‬خطابه‭ ‬يظهر‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬يفلح‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬حزنه،‭ ‬أو‭ ‬تخطّي‭ ‬دائرة‭ ‬الهموم‭ ‬والأسى‭ ‬الّتي‭ ‬طوّقه‭ ‬بها‭ ‬ثكله‭ ‬بصره‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬أيّامه،‭ ‬فيدعو‭ ‬عينه‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬الجزع‭ ‬والدّمع؛‭ ‬لأنّ‭ ‬الأسى‭ ‬كثير‭ ‬وكبير‭ ‬وأوقاته‭ ‬مديدة،‭ ‬كأنّه‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يوزّع‭ ‬بكاءه‭ ‬على‭ ‬دورة‭ ‬الزّمن‭ ‬المتوالية،‭ ‬لتأخذ‭ ‬أيّام‭ ‬حياته‭ ‬جميعًا‭ ‬حقّها‭ ‬من‭ ‬الرّثاء‭ ‬والحسرة‭ ‬والدّموع،‭ ‬فيقول‭:‬

عزاءكِ‭ ‬يا‭ ‬عيْن‭ ‬لا‭ ‬تجْزعي‭ 

وضنًّا‭ ‬بِمائِكِ‭ ‬لا‭ ‬تدْمعي

عزاءً‭ ‬وصبْرًا‭ ‬فإِنّ‭ ‬الأسى‭ 

كثيرٌ،‭ ‬وإِنّ‭ ‬حياتي‭ ‬معي

 

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬تبرز‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬بعض‭ ‬الشّعراء‭ ‬من‭ ‬المكفوفين‭ ‬نزعة‭ ‬إلى‭ ‬التّجمّل‭ ‬بالصّبر،‭ ‬والنّظر‭ ‬إلى‭ ‬العمى‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬مختلف‭ ‬يراه‭ ‬نعمةً‭ ‬وليس‭ ‬محنةً‭ ‬أو‭ ‬رزيّة‭ ‬عظمى‭ ‬لا‭ ‬تحتمل‭ ‬معها‭ ‬الحياة،‭ ‬فقد‭ ‬حرص‭ ‬هؤلاء‭ ‬على‭ ‬إظهار‭ ‬المكابرة‭ ‬والإنكار‭ ‬وبيان‭ ‬أنّ‭ ‬البصر‭ ‬المسلوب‭ ‬يعوّض‭ ‬الإنسان‭ ‬به‭ ‬رأيًا‭ ‬ثاقبًا،‭ ‬وذكاءً‭ ‬وقّادًا،‭ ‬فالشّاعر‭ ‬أبو‭ ‬علي‭ ‬البصير‭ ‬يرى‭ ‬أنّ‭ ‬قومه‭ ‬يستهدون‭ ‬برأيه‭ ‬وفكره‭ ‬حتّى‭ ‬وإن‭ ‬خبا‭ ‬بصره،‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬بعضهمْ‭ ‬يهديه‭ ‬في‭ ‬سيره‭:‬

لئِنْ‭ ‬كــــان‭ ‬يهْدينـــي‭ ‬الغــلام‭ ‬لِوِجْهتـي‭ ‬

‭ ‬ويقْتادني‭ ‬فــي‭ ‬السّيْرِ‭ ‬إِذْ‭ ‬أنـا‭ ‬راكِب

فقدْ‭ ‬يسْتضيء‭ ‬القوْم‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬أمورِهِمْ‭ ‬

‭ ‬ويخْبو‭ ‬ضِياء‭ ‬العيْنِ‭ ‬والرّأْي‭ ‬ثاقِـب

 

أمّا‭ ‬الشّاعر‭ ‬بشار‭ ‬بن‭ ‬برد‭ (‬96-168هـ‭) ‬الّذي‭ ‬أطفئ‭ ‬بصره‭ ‬منذ‭ ‬صغره،‭ ‬والّذي‭ ‬غرق‭ ‬في‭ ‬الملذّات‭ ‬والمسرّات‭ ‬وحاول‭ ‬ألّا‭ ‬يدع‭ ‬اليأس‭ ‬يتسلّل‭ ‬إلى‭ ‬نفسه،‭ ‬فيفتخر‭ ‬بعماه‭ ‬الّذي‭ ‬صحبته‭ ‬بدائل‭ ‬تميّزه‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الذّكاء‭ ‬العجيب،‭ ‬والقدرة‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬اكتساب‭ ‬العلم‭ ‬وقول‭ ‬الشّعر‭ ‬بإحكام‭:‬

عَمِيت‭ ‬جَنينًا‭ ‬وَالذَّكــــاء‭ ‬مِنَ‭ ‬العَمى‭ 

فَجِئْت‭ ‬عَجيبَ‭ ‬الظَّـــنِّ‭ ‬لِلْعِلْـمِ‭ ‬مَوْئِلا

وَغـــاضَ‭ ‬ضِيـــاء‭ ‬العَيْنِ‭ ‬لِلْعِلْمِ‭ ‬رافِدًا‭ ‬

‭ ‬لِقَلْب‭ ‬إِذا‭ ‬مــا‭ ‬ضَيَّعَ‭ ‬النّاس‭ ‬حَصَّلا

وَشِعْر‭ ‬كَنَوْرِ‭ ‬الرَّوْضِ‭ ‬لاءَمْت‭ ‬بَيْنَه‭ ‬

‭ ‬بِقَوْل‭ ‬إِذا‭ ‬ما‭ ‬الشِّعْر‭ ‬أَحْزَنَ‭ ‬أَسْهَلا

وتكاد‭ ‬تتردَّد‭ ‬المعاني‭ ‬نفسها‭ ‬حول‭ ‬المكابرة‭ ‬والتَّجلّد‭ ‬ومغالبة‭ ‬العذاب‭ ‬لدى‭ ‬الشّاعر‭ ‬أبي‭ ‬الحسن‭ ‬عليّ‭ ‬بن‭ ‬الغنيّ‭ ‬الحصريّ‭ ‬القيروانيّ‭ (‬420-488هـ‭) ‬حين‭ ‬يقول‭:‬

وَقالوا‭ ‬قَدْ‭ ‬عَمِيْتَ‭ ‬فَقلْت‭ ‬كَلّا‭ 

فَإِنّي‭ ‬اليَوْمَ‭ ‬أَبْصَر‭ ‬مِنْ‭ ‬بَصيرِ

سَواد‭ ‬العَيْنِ‭ ‬زادَ‭ ‬سَوادَ‭ ‬قَلْبي‭ ‬

لِيَجْتَمِعـــا‭ ‬عَلـــــى‭ ‬فَهْمِ‭ ‬الأمورِ

 

غير‭ ‬أنَّ‭ ‬مرارة‭ ‬الأيّام‭ ‬وشدَّة‭ ‬المعاناة‭ ‬كانتا‭ ‬أشدّ‭ ‬فتكًا‭ ‬بنفوس‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشّعراء،‭ ‬فكانتا‭ ‬تنجحان‭ ‬أيّما‭ ‬نجاح‭ ‬في‭ ‬فضح‭ ‬هشاشة‭ ‬تعاليهم‭ ‬المصطنع‭ ‬وترفّعهم‭ ‬المؤقَّت‭ ‬عن‭ ‬الجرح‭ ‬الموغل‭ ‬في‭ ‬دواخلهم‭ ‬بفعل‭ ‬خبو‭ ‬نور‭ ‬البصر،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تكشفه‭ ‬بعض‭ ‬قصائدهم،‭ ‬وخير‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كلام‭ ‬ابن‭ ‬برد‭ ‬الَّذي‭ ‬نختتم‭ ‬به،‭ ‬والَّذي‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬عذابه‭ ‬وضعفه؛‭ ‬إذ‭ ‬يشعر‭ ‬بأنَّ‭ ‬الظّلام‭ ‬الحالك‭ ‬يحاصره‭ ‬ولا‭ ‬يتزحزح‭ ‬مدى‭ ‬الدّهر،‭ ‬وأنَّ‭ ‬الصّبح‭ ‬كأنَّه‭ ‬ضلّ‭ ‬سبيله‭ ‬إليه،‭ ‬حتّى‭ ‬طال‭ ‬أرقه‭ ‬ومكابدته‭ ‬أشدَّ‭ ‬صنوف‭ ‬الألم‭: 

خَليلَـــــيَّ‭ ‬مـــا‭ ‬بــال‭ ‬الدّجــى‭ ‬لا‭ ‬تَزَحْزَح‭ 

وَما‭ ‬بال‭ ‬ضَوْءِ‭ ‬الصّبْحِ‭ ‬لا‭ ‬يَتَوَضَّح

أَضَـــلَّ‭ ‬الصَّبـــــاح‭ ‬المسْتَنير‭ ‬سَبيلَــــه‭ 

أَمِ‭ ‬الدَّهْــــــر‭ ‬لَيْـــــلٌ‭ ‬كلّـه‭ ‬لَيْسَ‭ ‬يَبْرَح؟

كَأَنَّ‭ ‬الدّجى‭ ‬زادَتْ‭ ‬وَما‭ ‬زادَتِ‭ ‬الدّجـى

  ‬وَلَكِنْ‭ ‬أَطــــــالَ‭ ‬اللَّيْــــــلَ‭ ‬هَـــــمٌّ‭ ‬مبْــرِّح

فَيا‭ ‬طولَ‭ ‬هَذا‭ ‬اللَّيْلِ‭ ‬لا‭ ‬أَعْرِف‭ ‬الكَرى‭ ‬

‭ ‬وَلا‭ ‬الصّبْــــــح‭ ‬فيــــــهِ‭ ‬راحَــــةٌ‭ ‬فَأروَّح‭ ‬

 

بناءً‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تقدَّم،‭ ‬نستنتج‭ ‬أنَّ‭ ‬فنّ‭ ‬رثاء‭ ‬العيون‭ ‬الَّذي‭ ‬أخذ‭ ‬مداه‭ ‬في‭ ‬الاتّساع‭ ‬والفرادة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العبّاسيّ‭ ‬كان‭ ‬مرآةً‭ ‬حقيقيَّةً‭ ‬صادقةً‭ ‬لما‭ ‬يخالج‭ ‬نفوس‭ ‬الشّعراء‭ ‬المكفوفين،‭ ‬فكتبوا‭ ‬القصيدة‭ ‬الرّثائيّة‭ ‬الوجدانيَّة‭ ‬من‭ ‬أجلهم‭ ‬هم‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬غايات‭ ‬خارج‭ ‬ذواتهم،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أغراض‭ ‬التَّكسّب‭ ‬والمحاباة،‭ ‬وكتبوا‭ ‬في‭ ‬ليل‭ ‬الهمّ‭ ‬المنكسر‭ ‬ما‭ ‬ينفّس‭ ‬عن‭ ‬كآبتهم‭ ‬المرّة،‭ ‬ووحدتهم‭ ‬الموحشة،‭ ‬لا‭ ‬سيّما‭ ‬أنَّ‭ ‬انطفاء‭ ‬البصر‭ ‬كان‭ ‬مصحوبًا‭ ‬بعلامات‭ ‬الشَّيخوخة‭ ‬والهرم‭ ‬التي‭ ‬يتلصَّص‭ ‬الموت‭ ‬من‭ ‬خلفها‭ ‬على‭ ‬أيّامهم‭ ‬ليسلب‭ ‬استقرارهم،‭ ‬وليشعل‭ ‬الذّعر‭ ‬والقلق‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬صمتهم‭ ‬وعزلتهم؛‭ ‬لذلك‭ ‬جاء‭ ‬رثاؤهم‭ ‬عيونَهمْ‭ ‬بكاءً‭ ‬حارًّا‭ ‬ومريرًا‭ ‬على‭ ‬زمن‭ ‬شبابهم،‭ ‬وأشبهَ‭ ‬بتلويحة‭ ‬وداع‭ ‬شبه‭ ‬أخير‭ ‬لوجوه‭ ‬الحياة‭ ‬الغضَّة،‭ ‬ولضحكاتها‭ ‬التي‭ ‬هجرت‭ ‬شفاههم،‭ ‬حتّى‭ ‬وإن‭ ‬أبدوا‭ ‬بعض‭ ‬عناد‭ ‬وإنكار‭ ‬لضعفهم،‭ ‬أو‭ ‬حاولوا‭ ‬الثّبات‭ ‬إزاء‭ ‬صفعات‭ ‬الدّهر‭ ‬وتناسي‭ ‬أنَّ‭ ‬الموت‭ ‬سكن‭ ‬قد‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬وجوههم‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭. ‬

‭ ‬وعليه،‭ ‬فإنَّ‭ ‬مراثي‭ ‬العيون‭ ‬كانت‭ ‬انحيازًا‭ ‬مطلقًا‭ ‬إلى‭ ‬الذّات‭ ‬وشجونها،‭ ‬وإلى‭ ‬التَّعبير‭ ‬الصَّريح‭ ‬عن‭ ‬هشاشة‭ ‬الإنسان‭ ‬وضعفه،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬معجم‭ ‬الفحولة‭ ‬والتَّعالي‭ ‬يكاد‭ ‬يحاصر‭ ‬عمود‭ ‬الشّعر‭ ‬بمفرداته‭ ‬ودلالاته‭ ‬وظلاله‭ ‬الوجدانيَّة‭ ‬■