مراثي العيون في العصر العباسيّ

لا شك أن الإنسان مفطورٌ على حب الكمال والاقتدار والسيطرة على ما يحيط به في هذا الكون المجهول. في المقابل، لاريب أنه كلما فقد حاسة من حواسه شعر باختلال وجوده على مسرح الحياة، وأحس بانقطاع أحد جسور تواصله مع العالم؛ فكيف إذا كان شاعرًا مرهفًا قد سلبه الزمن نعمة البصر؟!
تنبئنا العودة إلى قصائد المكفوفين ورثائهم عيونهم المفقودة، وتحديدًا في الحقبة العباسية، بفداحة إحساسهم بحجم الخسارة والانكسار إزاء تقلبات الحياة التي انقلبت لديهم إلى محنة، أو إلى ما يشبه اختبار الهزيمة اليومية، والتدريب القسري والمجاني على معايشة رعب الغياب والموت، حتى وإن حاولوا إظهار التجلد والتصبر الممضيين.
ولا يخفى أن للعين لدى الشاعر حساسيةً خاصةً؛ فهي نافذته الأولى لإدراك العالم بتعدده واختلافه وتنوعه، والكوة العجيبة التي يطل منها على الوجود متصفحًا وجوهه المتباينة، ليخزن في ذاكرته رصيدًا لا ينفد من الصور والظلال والألوان التي من شأنها أن تشحذ مخيلته بطاقة الابتكار والتوليد الدلالي الفذ، ومن ثم فلا عجب أن رأينا أن الأيام استحالت ظلامًا عابسًا وليلًا دامسًا عند الشاعر العباسي أبي الشيص الخزاعي (196-130هـ) الذي فقد بصره في أخريات حياته، فانصرف إلى رثاء عينه وبكائها بدمع هتان بعد أن كانت دليله في الحياة، والمصباح الذي يبصره الأشياء:
يا نَفْس بَكّــي بِأَدْمـــع هُتُنِ
وَواكِف كالجمّانِ فـــــي سَنَنِ
على دَليلي وَقائِـــدي وَيَدي
وَنورِ وَجْهي وَسائِسِ البَدَنِ
أَبْكي عَلَيْها بِها مَخافَةَ أَنْ
يَقْرنَني وَالظَّلام في قَرَنِ
وليس غريبًا أن تزدحم مرثيّات المكفوفين لعيونهم بمفردات البكاء والدّموع والحزن والثّكل والتّحسّر، وأن تفيض بصدق حرارة العذاب، وبإحساس قويّ بالألم الوجوديّ؛ تدفعهم إلى ذلك رغبتهمْ الحثيثة في التّعبير عن أعمق ما يلتهب في ذواتهم من إحباط وفاجعة، والتّطلّع إلى التّفريج عن كروبهم الجوّانيّة بإشراك الآخرين في عذاباتهم وأحزانهم الموجعة، كما يدفعهم إليه أيضًا الصّبو إلى استعطاف النّاس المحيطين بهم ونيل رعايتهم؛ نتلمّس هذه المعاني في قول الشّاعر أبي يعقوب الخريميّ (276-231هـ) المفجوع بعينه:
لله عيْنـــــي الّتـــي فُجِعْت بِها
لـوْ أنّ دهْرًا بِها يواتيني
لوْ كنْت خيِّرْت ما أخذْت بِها
تعْمير نوح في ملْكِ قارونِ
حقّ أخِلّائي أنْ يعودوني
وأنْ يعزّوا عنّــــي ويبْكوني
فهو يتمنّى لو أنّ الدّهر كان يطيعه فيعيد إليه بصره، كما يتمنّى لو أنّه كان قد خيّر بين عينه وعمر نوح الطّويل مقرونًا بكنوز قارون، لاتخذ عينه مطمعًا من غير تردّد، ولكن لات حين تمنّ! فهو والحال كذلك يحقّ له أن يرجو من أصدقائه عيادته وتعزيته والتّخفيف من لوعته. ونلحظ في مراثي المكفوفين، أنّ المصيبة أعظم، والمحنة أفجع لدى الشّعراء الّذين أطفِئت عيونهم على كبر، فهم قد خبروا نعمة الإبصار من قبل، ورأوا مباهج الدّنيا المرئيّة، وتفاعلوا مع ألوانها الفرحة، واقتنصوا ملذّاتها؛ لذلك نجد رزيّة الشّاعر ابن التّعاويذيّ
(519 - 583هـ) كبيرةً إلى درجة أنّه كان يحسب وجوده في هذه الدّنيا زائدًا، وأنّه يحيا فيها مرغمًا على العيش المضني الذي سلبه معنى الوجود، وأحال حياته أسرًا ورثاء يطفح بالبكاء؛ فهو يشبّه عينه بالجوهرة النّفسية الّتي لا تقدّر قيمتها بثمن، والتي كان يضنّ بها ويحرص عليها؛ لذا يتعجّب إن لم يرثِها رثاءً مريرًا، أو إن لم يبكِها بالدّم لا بالدّمع، فيقول:
جوْهــرةٌ كنْـت ضنينًا بِهـا
نفـيسة القيمـةِ والقــدْرِ
إِنْ أنا لـــمْ أبْكِ عليْهــا دمًا
فضْلًا عنِ الدّمْعِ فما عذْري؟
وكيف لا يبكي، وقد اجتمع عليه ثالوثٌ يعجز عن احتماله، ثالوث يتمثّل في العمى والشّيب والفقر، حتّى كأنّه يعقوب في حزنه، وأيّوب في مأساته وصبره؛ لأنّه بات سجين عزلته وعتمته كأنّه ميت فاته الدّفن، إذ يقول:
فيــــا لهـــــا طـــــــارِقةً هدّنــــــي
طروقها فـــي آخِرِ العــمْرِ
طارِقـــــةً مثّــــــل بـــــي مسّهـــا
يعْجز عنْ أمْثالِها صبْري
فلا رعــــــاهـــا الله مِــــنْ حالة
ثالِثــــــــة للشّيْـــبِ والفقْـــــــرِ
كأنّني يعْقوب في الحزْنِ بلْ
أيّوب في البأْساءِ والضّرِّ
أسيـــــر هـــــــمّ لا أرى فـــــادِيًا
يفكّ مِــــــنْ قبْضتِـــهِ أسْري
حبيس بيْت مفْــــردًا مسْلَمًا
فيه إلـــــى الأحْـــزانِ والفِكْرِ
تضيق عنْ خطْـــــوي أقْطاره
وهْو رحيبٌ واسِــع القطْـــرِ
كأنّنـــي فــــي قعْـــــرِهِ جاثِمًا
ميْتٌ ومــــا ألْحِــد فـــي قبْـرِ
ولئن رأى هذا الشّاعر أنّ حياته وموته سيّان في دنيا يعجز فيها عن أن يبصرها، فإنّ الشّاعر أبا بكر ابن العلّاف النّهروانيّ (318-218هـ) يؤكّد هذا المعنى؛ إذ يتوجّه بكلامه إلى امرأة شبّهته بالموتى حين وقع في حفرة، فيقرّر صحّة كلامها، ويجيبها بأن الموت ما هو إلّا ذهاب البصر؛ لأنّ عينيه كانتا له ككفّين يذلّل بهما صعوبات الحياة، ويتوكّأ عليهما في رعاية شؤونه وأموره الحياتيّة، لكن اليوم كيف له أن يفرح وكفّاه مفقودتان، فلا يتمكّن من اتّقاء الوقوع في فخاخ الدّنيا وأشراكها المخادعة؟! ومن ثمّ لا يبقى له إلّا الحزن والهمّ متّكأً وعكّازًا لقطع دروب الزّمن الموحشة، وتصريف الأيّام المضنية الزّائدة في حساب العمر، فيقول:
قالتْ كأنّك في الموْتى فقلْت لها
قدْ مات منْ ذهبتْ واللهِ عيْناه
عيْنــــــاي كفّــــاي لا طرْفٌ ألـذّ بِهِ
وكيْف يفْرح مـــنْ عيْنـاه كفّـــاه؟!
وبنغمة رثائيّة شجيّة إلى حدّ الإفراط في اليأس والقنوط من الدّنيا وأهلها، يعود ابن التّعاويذيّ فيصوّر حالته المهزومة، وهو مرميّ في بيته، من خلال صورة قاسية تبعث على التّعاطف معه ومشاركته انكساره، فيشبّه نفسه بالميت في رمسه أو بالمقبور، ولنا أن نتبيّن حجم معاناته ووحدته من هذه الكلمة القاسية بما تختزنه من وجع وعنف نفسيّ مرعب، فتتساوى لديه الأوقات من صبح ومساء، حتّى إنّ حاسده ليرقّ لحاله ويبكي لضعفه وهوانه رأفةً ورحمةً به:
فها أنا كالمقْبورِ في كِسْرِ منْزِلي
سواءٌ صباحي عِنْده ومسائي
يرِقّ ويبْكـي حاسِــدي لي رحْمةً
وبعْدًا لها مِـــنْ رِقّـــــة وبكــاءِ
وحين يعمد الشّعراء الّذين أعشى العمى أبصارهم في خريف العمر إلى مقارنة أحوالهم البائسة التّعسة الرّاهنة بالخوالي من أيّام القدرة والامتلاء، تتجلّى محنتهم أكثر وجعًا؛ فالحاضر يبدو كليلٍ حالك رتيب طويل، أمّا الماضي المنصرم فهو زمن الإبصار الذي يبدو ربيعًا تزيّنه ألوان الدّنيا ومتعها المختلفة، كما تتعمّق مأساتهم باقتران زمن فقدان العيون بانحلال زمن الشّباب، وارتباطها بإفراغ الدّهر ساعاتِ اللّهو والهوى من ذرّات الحركة والطّاقة والحيويّة. وبذلك يؤسر الشّاعر الكفيف خلف قضبان الأسى والتّذكّر الموجع ينتظر الموت، بيد أنّه لا يلقاه. تظهر هذه المعاني في قصيدة أخرى لابن التّعاويذيّ الذي أكثر من الشّعر في رثاء زوال بصره، وفي التّعبير عن الفجيعة الّتي حلّت بعينه حين خبت في آخر حياته، وجعلته عاجزًا ضعيفًا ينتظر الآخرين لمساعدته على تلبية حاجاته وشؤونه الشّخصيّة، حتّى كأنّه من دونهم أشبه بـ«حجر» عديم الفائدة، وسليب الإحساس بالحياة ومسرّاتها، ليس له غير ذاكرته وما سجّلته من ظلال أيّام الشّباب واللّهو لتسعفه في التّغلّب على شقاء العمر، ولا له غير الرّجاء بأن يصل سريعًا إلى عتبة الوداع الأخير، ليعانق موته الّذي بدا له خلاصًا نهائيًّا وإن كان فاجعًا، ومع ذلك كان يرى هذا الموت يمعن في مراوغته كلّما بزغ فجر جديد حتّى يظلّ مؤجّلًا منتظرًا، إذ يقول مناجيًا ليله الخاصّ به متحسّرًا على ما فاته من زمن المرح والحبّ:
يا لك مِنْ ليْلِ حِجـــا
بٍ جنْحِـــــــهِ معْتكِــــــرُ
ظلامـــــه لا ينْجلــــــي
وصبْحــــه لا يُسْفِــــــرُ
ليْس لـه إِلـــــى الممـا
تِ آخِــــــــرٌ يُنْتظــــــــرُ
ما فـــــي حيـــــاة معـه
لِــــــذي حصــاة وطــرُ
غـــادرنــــــــي كأنّنـــــــي
في كِسْرِ بيْتي حَجرُ
لا أهْتـــــدي لِحاجتـــي
وفــــي اللّيـــالي عِبرُ
أيْـــن الشّبـــــاب والمِرا
ح والهـــوى والأشرُ
لمْ يبْق لي إِلّا الأسى
مِنْهـــــــنّ والتّذكّـــــــر
وعلى المنوال نفسه، يحاول الشّاعر صالح بن عبد القدّوس (77-167هـ)، في إحدى مراثيه، أن يغترف من معين الذّاكرة ليقوى على صفعة الأيّام، فيصوّر سيرته الماضية صحبة عينه الّتي كانت كريمته والنّور الّذي به تستحب الحياة وتطيب، لذلك تراه يقع في شرك الحزن والرّثاء والثّكل، غير أنّه يحاول إبداء بعض من رباطة الجأش متمسّكًا بخيط رفيع من التّصبّر والتّعزية والتّسلية عن نفسه بأنّ كلّ قرين لا بدّ يومًا أن يفارق مَنْ يألفه، فحالته حال كلّ قرين:
عــــزاؤكِ أيّها العيْن السّكـوب
ودمْعـــــكِ أنّهـــــا نوبٌ تنـــــوب
وكنْتِ كريمتي وسِراج وجْهي
وكانتْ لـــــي بِكِ الدّنْيا تطيب
فإِنْ أك قدْ ثكِلْتكِ في حياتـــي
وفارقنـــي بِكِ الإِلْف الحبيب
فكلّ قرينة لابــدّ يـــــــوْمًا
سيشْعَبُ إِلْفها عنْها شَعوبُ
وعلى الرّغم من هذا التّماسك الظّاهريّ، فإنّه سرعان ما يقطع هذا الخيط، فيسلّم على الدّنيا وأهلها سلام المودّعين غير الآسفين عليها (على الدّنيا السّلام)؛ لأنّه رأى أنّه يختبر الموت يوميًّا بموت عيونه، ولأنّه حسب كلام الطّبيب حول احتمال الشّفاء مجرّد أمانٍ كاذبة يمنّيه إيّاها، لذلك نجده يطلق زفراته الملتاعة مستسلمًا للبكاء على بعضه الّذي مات منه، فيقول:
على الدّنْيا السّلام فمـــا لِشيْخ
ضريرِ العيْنِ في الدّنْيا نصيب
يمـــــوت المرْء وهْــــو يعــــدّ حيًّا
ويخْلِف ظنّــه الأمـــــل الكذوب
يمنّينـــي الطّبيب شِفـــاء عيْني
ومــــا غيْـــر الإِلـــهِ لها طـبيب
إِذا ما مات بعْضك فابْكِ بعْضًا
فإِنّ البعْض مِنْ بعْض قريب
لكنْ، إزاء هذه النّزعة الرّثائيّة المنكسرة الغارقة في الشّجن والنّدب لفقدان العيون، يلفتنا أنّ أبا يعقوب الخريميّ في بعض قصائده يلجأ إلى مناجاة عينه المطفأ نورها وإلى مخاطبتها، ليخفّف من جزعها وبكائها متجلببًا رداء العزاء والتّجلّد، بيد أنّ باطن خطابه يظهر أنّه لا يفلح في تجاوز حزنه، أو تخطّي دائرة الهموم والأسى الّتي طوّقه بها ثكله بصره في أواخر أيّامه، فيدعو عينه إلى عدم الإسراف في الجزع والدّمع؛ لأنّ الأسى كثير وكبير وأوقاته مديدة، كأنّه يحاول أن يوزّع بكاءه على دورة الزّمن المتوالية، لتأخذ أيّام حياته جميعًا حقّها من الرّثاء والحسرة والدّموع، فيقول:
عزاءكِ يا عيْن لا تجْزعي
وضنًّا بِمائِكِ لا تدْمعي
عزاءً وصبْرًا فإِنّ الأسى
كثيرٌ، وإِنّ حياتي معي
ومع ذلك، تبرز في قصائد بعض الشّعراء من المكفوفين نزعة إلى التّجمّل بالصّبر، والنّظر إلى العمى من منظور مختلف يراه نعمةً وليس محنةً أو رزيّة عظمى لا تحتمل معها الحياة، فقد حرص هؤلاء على إظهار المكابرة والإنكار وبيان أنّ البصر المسلوب يعوّض الإنسان به رأيًا ثاقبًا، وذكاءً وقّادًا، فالشّاعر أبو علي البصير يرى أنّ قومه يستهدون برأيه وفكره حتّى وإن خبا بصره، أو كان بعضهمْ يهديه في سيره:
لئِنْ كــــان يهْدينـــي الغــلام لِوِجْهتـي
ويقْتادني فــي السّيْرِ إِذْ أنـا راكِب
فقدْ يسْتضيء القوْم بي في أمورِهِمْ
ويخْبو ضِياء العيْنِ والرّأْي ثاقِـب
أمّا الشّاعر بشار بن برد (96-168هـ) الّذي أطفئ بصره منذ صغره، والّذي غرق في الملذّات والمسرّات وحاول ألّا يدع اليأس يتسلّل إلى نفسه، فيفتخر بعماه الّذي صحبته بدائل تميّزه من قبيل الذّكاء العجيب، والقدرة الفائقة على اكتساب العلم وقول الشّعر بإحكام:
عَمِيت جَنينًا وَالذَّكــــاء مِنَ العَمى
فَجِئْت عَجيبَ الظَّـــنِّ لِلْعِلْـمِ مَوْئِلا
وَغـــاضَ ضِيـــاء العَيْنِ لِلْعِلْمِ رافِدًا
لِقَلْب إِذا مــا ضَيَّعَ النّاس حَصَّلا
وَشِعْر كَنَوْرِ الرَّوْضِ لاءَمْت بَيْنَه
بِقَوْل إِذا ما الشِّعْر أَحْزَنَ أَسْهَلا
وتكاد تتردَّد المعاني نفسها حول المكابرة والتَّجلّد ومغالبة العذاب لدى الشّاعر أبي الحسن عليّ بن الغنيّ الحصريّ القيروانيّ (420-488هـ) حين يقول:
وَقالوا قَدْ عَمِيْتَ فَقلْت كَلّا
فَإِنّي اليَوْمَ أَبْصَر مِنْ بَصيرِ
سَواد العَيْنِ زادَ سَوادَ قَلْبي
لِيَجْتَمِعـــا عَلـــــى فَهْمِ الأمورِ
غير أنَّ مرارة الأيّام وشدَّة المعاناة كانتا أشدّ فتكًا بنفوس هؤلاء الشّعراء، فكانتا تنجحان أيّما نجاح في فضح هشاشة تعاليهم المصطنع وترفّعهم المؤقَّت عن الجرح الموغل في دواخلهم بفعل خبو نور البصر، وهذا ما تكشفه بعض قصائدهم، وخير شاهد على ذلك كلام ابن برد الَّذي نختتم به، والَّذي يكشف عن مدى عذابه وضعفه؛ إذ يشعر بأنَّ الظّلام الحالك يحاصره ولا يتزحزح مدى الدّهر، وأنَّ الصّبح كأنَّه ضلّ سبيله إليه، حتّى طال أرقه ومكابدته أشدَّ صنوف الألم:
خَليلَـــــيَّ مـــا بــال الدّجــى لا تَزَحْزَح
وَما بال ضَوْءِ الصّبْحِ لا يَتَوَضَّح
أَضَـــلَّ الصَّبـــــاح المسْتَنير سَبيلَــــه
أَمِ الدَّهْــــــر لَيْـــــلٌ كلّـه لَيْسَ يَبْرَح؟
كَأَنَّ الدّجى زادَتْ وَما زادَتِ الدّجـى
وَلَكِنْ أَطــــــالَ اللَّيْــــــلَ هَـــــمٌّ مبْــرِّح
فَيا طولَ هَذا اللَّيْلِ لا أَعْرِف الكَرى
وَلا الصّبْــــــح فيــــــهِ راحَــــةٌ فَأروَّح
بناءً على ما تقدَّم، نستنتج أنَّ فنّ رثاء العيون الَّذي أخذ مداه في الاتّساع والفرادة في العصر العبّاسيّ كان مرآةً حقيقيَّةً صادقةً لما يخالج نفوس الشّعراء المكفوفين، فكتبوا القصيدة الرّثائيّة الوجدانيَّة من أجلهم هم لا من أجل غايات خارج ذواتهم، أو من أجل أغراض التَّكسّب والمحاباة، وكتبوا في ليل الهمّ المنكسر ما ينفّس عن كآبتهم المرّة، ووحدتهم الموحشة، لا سيّما أنَّ انطفاء البصر كان مصحوبًا بعلامات الشَّيخوخة والهرم التي يتلصَّص الموت من خلفها على أيّامهم ليسلب استقرارهم، وليشعل الذّعر والقلق في مساحة صمتهم وعزلتهم؛ لذلك جاء رثاؤهم عيونَهمْ بكاءً حارًّا ومريرًا على زمن شبابهم، وأشبهَ بتلويحة وداع شبه أخير لوجوه الحياة الغضَّة، ولضحكاتها التي هجرت شفاههم، حتّى وإن أبدوا بعض عناد وإنكار لضعفهم، أو حاولوا الثّبات إزاء صفعات الدّهر وتناسي أنَّ الموت سكن قد أجمل ما في وجوههم إلى الأبد.
وعليه، فإنَّ مراثي العيون كانت انحيازًا مطلقًا إلى الذّات وشجونها، وإلى التَّعبير الصَّريح عن هشاشة الإنسان وضعفه، في وقت كان فيه معجم الفحولة والتَّعالي يكاد يحاصر عمود الشّعر بمفرداته ودلالاته وظلاله الوجدانيَّة ■