السيليكون .. هل يشكل بيوكيمياء بديلة ومخلوقات فضائية غريبة؟
بفضل عنصر السيليكون (Si) (سيليسيوم بالفرنسية)، تقلصت المسافة بين الكائنات الحية والآلات ومنتجات التكنولوجيا. والكائنات الحية على كوكب الأرض كائنات عضوية يدخل عنصر الكربون (C) في أساسها البيوكيميائي. وقد طور باحثون أوربيون «شرائح عصبية» تقترن فيها خلايا المخ العضوية بدوائر السيليكون الذكية. ولإنتاج الرقاقة العصبية قام الباحثون بضغط أكثر من 16 ألف ترانزستور إلكتروني ومئات المكثفات على رقاقة من السيليكون حجمها 1 مليمتر مربع فقط. ويمكن لهذا الإنجاز أن يمكّن يومًا ما من إنشاء بدائل عصبية متطورة لعلاج الاضطرابات العصبية أو تطوير أجهزة كمبيوتر عضوية باستخدام الخلايا العصبية الحية. وقد جاء في تصريح لعضو في الفريق البحثي «ستيفانو فاسانيللي» من جامعة بادوا في إيطاليا: «يمكن لشركات الأدوية استخدام الشريحة لاختبار تأثير الأدوية على الخلايا العصبية لاكتشاف سُبل البحث الواعدة بسرعة».
ويعتبر السيليكون والكربون «أولاد عمّ» لدودَيْن، كلاهما ينتميان إلى العائلة نفسها، عائلة المجموعة الرابعة في جدول مندليف الدوري للعناصر الكيميائية. وكلاهما ينتهي بأربعة إلكترونات في طبقة الغلاف الخارجي لذرته، ما يتيح له وظيفة أنصاف الموصّلات المهمة في عالم الإلكترونيك. لكن، في حين يتّحد الكربون بالماء بسهولة ليخلق عالمًا من الجزيئات العضوية التي تتطور إلى حياة نباتية أو حيوانية مختلفة، يرتمي السيليكون في رمال الشواطئ الدافئة والبيضاء دون أن يشكّل أية مساهمة في البنى الحية، كائنًا ما كانت هذه البنى.
والسيليكون هو العنصر الثامن في مجرّة درب التبانة من حيث الكتلة الإجمالية بعد الهيدروجين والهيليوم والأكسجين والكربون والنيون والحديد والنيتروجين. وهو العنصر السابع في المنظومة الشمسية. لكن في قشرة الأرض يشكّل السيليكون العنصر الثاني من حيث الكتلة بعد الأكسجين. ويفوق حضوره في الأرض الكربون بنسبة 924 مرة. لكن السيليكون، بخلاف الكربون، لا نجده في الطبيعة كعنصر كمستقل، بل كـ«سيليكا»، متحدًا غالبًا مع الأكسجين في جزيئات الغبار والرمال والصخور، ويشكل أكثر من 80 بالمئة من كتلة القشرة الأرضية.
والسيليكا، أو ثاني أكسيد السيليكون، (SiO2)، هو المكون الأكثر شيوعًا للرمل، كما أنه يتيح تشكّل الكوارتز من السيليكا غير المتبلورة. وتأتي السيليكا أيضًا بأشكال معدنية أخرى، مثل الصوان والياشب والعقيق. وعندما يختلط السيليكون والأكسجين مع المعادن التفاعلية تكون النتيجة عبارة عن فئة من المعادن تسمى السيليكات، التي تشكّل صخور الغرانيت والفلسبار والطين والميكا والأسبستوس.
على المستوى الذري، السيليكون هو العنصر الرابع عشر على الجدول الدوري، ويحتوي في نواته على 14 بروتونًا و14 نيوترونًا، إضافة الى 14 إلكترونًا في أغلفته الخارجية. وللسيليكون 5 نظائر أساسية، بين 24 نظيرًا معروفًا في الطبيعة والمختبرات، لكن النظير الأكثر شيوعًا والأكثر وفرةً في الطبيعة (92 بالمئة من كل نظائر السيليكون مجتمعة) هو صاحب الوزن الذري المعروف 28.
استخرج السيليكون لأول مرة في السويد عام1824، وهو عنصر صلب فيزيائيًا، تبلغ كثافته 2.3296 غرام لكل سنتيمتر مكعب. وهو يذوب على درجة 1414 مئوية، ويغلي على درجة 3265 مئوية.
ويعتبر السيليكون من أشباه الفلزات. إنه معدن ولا معدن. إنه متشابك، عنصر يقع في مكان ما بين الاثنين. لكن الفلزات تحتوي بوجه عام على خصائص المعادن وغير المعادن. والسيليكون هو أحد أشباه الموصّلات، ما يعني أنه يقوم بتوصيل الكهرباء باتجاه واحد. وعلى عكس المعدن النموذجي، فإن السيليكون تتحسن إيصاليته بمرور الكهرباء من خلاله، وزيادة درجة حرارته (بينما تسوء إيصالية المعادن الحقيقية عند ازدياد درجة حرارتها).
استخدامات السيليكون
السيليكون هو واحد من أكثر العناصر المفيدة التي نستخدمها لأشياء كثيرة على الأرض، وهي مادة رخيصة وافرة وبمتناول الجميع. أشياء بالسيليكون نستخدمها في حياتنا اليومية: في سياراتنا، أغراض شخصية مثل مزيلي الروائح، ممتصي العرق، كوزمتيكس، مرطبات الجلد، أشياء تستخدم لخدمة الغذاء.
كما يستخدم السيليكون في الرمل والطين للبناء مثل الخرسانة والطوب (أحجار القرميد والطوب) والفخار والزجاج والسيراميك، كما يستخدم في صنع السبائك المعدنية، والصابون. كما أن الأحجار الكريمة هي شكل من أشكال السيليكا المرتبطة بجزيئات الماء، وكربير السيليكون (SiC) يكاد يكون صلبًا مثل الماس، وفقًا لمعهد المواد والمعادن والتعدين.
السيليكون في أساس تكنولوجيا الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي
لكن الاستخدام الأهم على الإطلاق للسيليكون هو في عالم الكمبيوتر، وفي صناعة الخلايا الشمسية، إذ إنه العنصر الحاسم في الدوائر الإلكترونية والرقائق الحاسوبية، وهو لاعب رئيسي في الإلكترونيات الحديثة لأنه شبه موصل مثالي للكهرباء. وعند تسخينه في حالة منصهرة، يمكن تكوين السيليكون في رقائق شبه موصلة، لتكون بمنزلة قاعدة للدارات الإلكترونية المتكاملة. هذا الدور جعل السيليكون مميزًا بحيث كُرّست له مؤسسة كبرى في كاليفورنيا تمت تسميتها باسمه: «وادي السيليكون» أو «سيليكون فالي». وقد ظهر هذا الاسم لأول مرة عام 1971 في صحيفة «Electronic News».
التقنية العالية لاستخراج السليكون وتصنيعه واستخدامه هي التي تجعل لهذا العنصر قيمة حقيقية، فخاصيته التي تتيح تصنيفه بين أشباه الموصلات، بحيث يتم استخدامه لصنع ترانزستورات تضخّم أو تغير التيارات الكهربائية المنخفضة التوتر، هي العمود الفقري للإلكترونيات من أجهزة الراديو والتلفزة والكمبيوتر إلى الهواتف الخلوية.
في الطب
ارتبط معدن السيليكون في الآونة الأخيرة بعمليات التجميل، لكن هل يحتاج الإنسان إلى معدن السيليكون للحفاظ على صحة جيدة؟
يحتوي جسم الإنسان على السيليكون في بعض الأنسجة ويلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على نمو العظام. ويمكن الحصول على السيليكون من مصادره الطبيعية والأخرى الصناعية، ويحتاج جسم الإنسان البالغ يوميًا إلى 70 ملغم من هذا المعدن كي يحظى بصحة جيدة.
وللسيليكون فوائد عديدة، وليس صحيحًا ما يعرف عنه أنه يستخدم فقط في العمليات التجميلية، وإنما هو مفيد لصحة الإنسان إذا تم تناوله بشكل صحيح، فهو يعتبر ضروريًا في تكوين الكولاجين، كما يلعب دورًا مهمًا في تصلّب العظام ويحسّن من جهاز المناعة، كما يعمل على تقوية الأظافر والجلد والشعر ويخفف من أمراض الأوعية القلبية وضغط الدم.
ولم تُظهر الأبحاث والدراسات الحديثة حتى الآن الأعراض التي قد تظهر على الإنسان جراء نقص السيليكون، لكونه متوافرًا في العديد من الأطعمة والأغذية، لكن نقصه ينعكس بالطبع على نمو العظام.
لكن يمكن أن يكون السيليكون خطيرًا عند استنشاقه كرذاذ على مدى فترات طويلة من الزمن، إذ قد يتسبّب في مرض الرئة الذي يعرف باسم السيليكية.
هل من بيوكيمياء بديلة قائمة
على السيليكون؟
قد لا تكون الحياة المؤسسة على السيليكون، مثل «هورتا» في مسلسل «ستار تريك»، خيالًا علميًا بالكامل، وفقًا لباحثين من جامعة «كالتيك». فقد أظهرت الأبحاث المبكرة هناك أنه يمكن دمج السلييكون في الجزيئات المعتمدة على الكربون مثل البروتينات. ومن دون السيليكون، كانت الحياة على الأرض ستصبح مختلفة تمامًا، حتى إن الكون برمته كان سيغدو مختلفًا تمامًا من دونه.
لقد عرف العلماء منذ فترة طويلة أن الحياة على الأرض قادرة على التلاعب كيميائيًا بالسيليكون. على سبيل المثال، يمكن العثور على الجسيمات المجهرية لثاني أكسيد السيليكون في بعض الحشائش والنباتات والطحالب الضوئية التي تحوي ثنائي أكسيد السيليكون في هيكليتها البيوكيميائية. ومع ذلك لا توجد حالات طبيعية معروفة للحياة على الأرض تجمع بين السيليكون والكربون معًا في جزيئات.
وقد قام الكيميائيون بتصنيع جزيئات تتكون بشكل مصطنع من كل من السيليكون والكربون. توجد هذه المركبات العضوية السيليكونية في مجموعة واسعة من المنتجات، بما في ذلك المستحضرات الصيدلانية، والمواد اللاصقة، والدهانات، ومبيدات الأعشاب، ومبيدات الفطريات، وشاشات الكمبيوتر والتلفزيون. هكذا إذن، يكون العلماء قد اكتشفوا طريقة لتمكين علم الأحياء من ربط الكربون والسيليكون كيميائيًا معًا.
وحول الآثار المترتبة على هذا الأمر، والكيمياء الغريبة البديلة الممكنة في عوالم بعيدة في الكون، يقول فرانسيس أرنولد، باحث ومهندس كيميائي بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا، «شعوري هو أنه إذا استطاع الإنسان أن يطوّع الحياة لبناء روابط بين السيليكون والكربون، فإن الطبيعة تستطيع أن تفعل ذلك أيضًا». وأضاف أرنولد: «أردنا أن نرى ما إذا كان بإمكاننا استخدام ما تفعله البيولوجيا بالفعل للتوسع في مجالات كيمياء جديدة بالكامل لم تستكشفها الطبيعة عندنا بعد». وقد قام العلماء في هذا المعهد بتفصيل النتائج التي توصلوا إليها مؤخرًا في مجلة العلوم.
وقد توقع الباحثون منذ فترة طويلة، أن نوعًا من الحياة الغريبة في عوالم فضائية مختلفة يمكن أن يكون لها أساس كيميائي مختلف تمامًا عن الحياة على الأرض. على سبيل المثال، بدلًا من الاعتماد على الماء كمذيب يخدم الجزيئات البيولوجية، ربما تعتمد كائنات حية هناك على الأمونيا أو الميثان. وبدلًا من الاعتماد على الكربون لإنشاء جزيئات الحياة، ربما يمكن لتلك الكائنات استخدام السيليكون. فذرات السيليكون يمكن أيضًا أن تشكل روابط مع ما يصل إلى أربع ذرات أخرى في وقت واحد، وهي الخاصية التي تجعل الكربون مناسبًا لتشكيل سلاسل طويلة من الجزيئات التي تشكل أساسًا للحياة كما نعرفها، مثل البروتينات والحمض النووي. فضلًا عن ذلك، فإن السيليكون هو أحد أكثر العناصر شيوعًا في الكون. على سبيل المثال، يشكل السيليكون ما يقرب من 30 في المئة من كتلة قشرة الأرض، ويزيد بنسبة 150 مرة تقريبًا عن الكربون في القشرة الأرضية.
وقد قام الباحثون بتوجيه الميكروبات إلى خلق جزيئات لم يسبق لها مثيل في الطبيعة من خلال استراتيجية تعرف باسم «التطور الموجّه»، والتي كان أرنولد رائدًا لها أوائل التسعينيات. ومثلما يقوم المزارعون بتعديل المحاصيل والماشية منذ أمد طويل عن طريق تربية أجيال من الكائنات الحية من أجل السمات التي يريدون ظهورها، كذلك يقوم العلماء بتوليد الميكروبات لإنتاج الجزيئات التي يرغبون فيها.
وقد ركز أرنولد وفريقه (الذي يتضمن الكيميائي العضوي التخليقي جينيفر كان، والمهندس البيولوجي روسل لويس، والكيميائي كاي تشن) على الإنزيمات، وهي البروتينات التي تحفز أو تسرع التفاعلات الكيميائية. كان هدفهم هو إنشاء إنزيمات يمكن أن تولد مركبات سيليكونية - عضوية. وفي هذا الصدد قال أرنولد لمجلة «علم الأحياء الفلكية»، في فبراير 2017: «إن مختبرنا يستخدم التطور لتصميم إنزيمات جديدة، لا أحد يعرف حقًا كيفية تصميمها - فهي معقدة للغاية، لكننا نتعلم كيف نستخدم التطور لصنع إنزيمات أخرى جديدة» ■