حول الثقافة الغائبة

حول الثقافة الغائبة
        

          في حديثه الشهري في مجلة العربي (العدد 622 - سبتمبر 2010)، تناول الدكتور سليمان إبراهيم العسكري اللقاء التحضيري الأول للقمة الثقافية العربية‏,‏ الذي شارك فيه ممثلون عن مؤسسات ثقافية رسمية‏,‏ وجمعيات أهلية ثقافية‏ وتحدث عن توصيات اللقاء التحضيري للقمة المقترحة للطريق الذي ستسلكه القرارات التي ستصدرها القمة الثقافية العربية‏ الأولى، كما تناول مجموعة من الأفكار المهمة في مسيرة مجتمعاتنا الثقافية، وعنون مقالته بـ «الثقافة الغائبة».

          ولعلنا لا نتجنى على مجتمعاتنا، ولا على أنفسنا حينما ننعتها بالمغيبة ثقافيًا، بل إن القاعدة الثقافية المتينة المكونة لحالة المجتمعات المتطورة تكاد تكون غائبة، ومن أهم عوائق التغييب وأعمقها أثرًا وجود قوانين تعيق العمل الثقافي، تلك التي تحمل قدسية التقاليد المتأصلة في نهج التقيد المطلق بما هي عليه، وعدم الانفتاح على فضاءات التجديد، والتغيير وإغفالها احتياجها إلى تأسيس نهج توعوي، يُخرج الثقافة من قمقم الغيبة والاستهلاكية إلى العلمية الممنهجة، على أسس واستراتيجيات ورؤى خاصة، تتفاعل مع المحيط، بل وتؤثر فيه وتنفتح على الآخر، وتدخل تحت سقف انفتاحها على المتغيرات، ضمن حملة التطوير لواقع يتهافت على نفسه، ويغفو على «تابوهات» تمدها بروح المنهيات، والمسكوت عنها، وتدفع الأشياء دفعًا باتجاه انقضائها فقط دون تحريك العقل باتجاه متنور لا يملك روح الإنتاج، ولا الإبداع، ولا التشارك في صناعة الحضارة الإنسانية، بل أحيانًا يلجأ إلى استقدام نماذج ثقافية جاهزة ليس لمجتمعاتنا أي دور في إنتاجها، وخصوصًا أننا ننتمي إلى تاريخ وحضارة تمتلك إبداعًا يمد البشرية بمفردات تكوينها، وصعودها الحضاري لتفاعلها معه، ويحتجب عن أهلها الغائبين عنها.

          ويضيف الدكتور العسكري: «ولابد من ضمانات لحماية هذه العين الساهرة لتؤدي دورها في حماية وتطوير المجتمع‏,‏ لأن المثقفين هم صمام أمان حماية المجتمع من الانحراف والسقوط‏.‏

          هذا الدور الذي يقوم به المثقفون يحتاج إلى تشريعات حكومية وبرلمانية لحمايته وصونه من المنع والاعتداء‏,‏ وإلا فلن يجدي حديث عن الثقافة والمثقفين في بيئة لا تحمي الفكر ومنتجيه‏».

          وبما أن المثقف هو الذي ينتج الثقافة، فحماية المثقف أهم بكثير من حماية الثقافة، كما أن التركيز يجب أن يكون على إنتاج المثقف، واعتماد صناعة المثقف، وفتح سقف الإمكانات والاهتمامات، وتقديم الممكن الغائب في صناعة المثقف داخل أجواء تسيطر عليها ثقافة المصادرة والمنع والتغييب، ثم ما المانع من تثمين أعمال أي مبدع أو منتج أو مثقف، بل وتكريمه؟ لماذا ننظر إلى المثقف كأنه شحاذ يتسول أثمان إبداعاته؟ ولماذا نجعله أدنى من المنح والجوائز؟ في حين أنه من الواجب جعله أسمى من ذلك، بل وتجاوز ذلك إلى صناعة فضاء لا يفكر فيه المبدع إلا بإبداعه الثقافي، وليس بإبداعه بتأمين لقمة عيشه، ومصادرة فكره، وجره باتجاه فضاءات يجب أن يكون أبعد ما يكون عنها.

          ويقول الدكتور العسكري: «وهكذا بعد ربع قرن من صدور الخطة الشاملة للثقافة العربية نعود لنجتمع ‏,‏ ونصدر التوصيات ذاتها‏;‏ أو أغلبها‏,‏ كأننا نعترف أننا لم نحقق ما كنا نصبو إليه‏,‏ وكنت أطمح إلى أن تكون هناك نظرة لتجربة الخطة الشاملة للثقافة العربية‏,‏ لكي نعي من نجاحاتها وإخفاقاتها ما يكفي لبناء تغيير ثقافي حقيقي».

مشاريع غائبة

          فنحن أمام حالة مشاريع غائبة، وأهمها مشروع إنتاج مثقف، ومواطن واعٍ، أكثر إيمانًا بإمكانات أمته، بل ودفعه إلى التشكيك في لحظات ما، وأمام حالة اليأس والعزلة بكل التاريخ الناصع الذي أثبت نفسه في حقبة ما كانت تؤمن بالإنسان وإمكاناته وتهتم بكراماته.

          ثم ماذا يعني أن يوصي المجتمعون بضرورة تحديث القوانين التي ترعى انتشار الثقافة، بعد أن تمكنت البشرية من تجاوز الأساسيات في كل شيء والانطلاق باتجاه تصاعدي، في حين أننا لم نزل نراوح في مكان المحاولات من حكايا يكاد الآخر يكون قد مسحها من ذاكرته؟ وهنا لا يجدي فعليًا التحدث عن البيئة التي تغيب عنها القوانين والتشريعات أو وجود التشريعات والتغييرات والقوانين والإصلاحات، التي تحمل شكلية الأسلوب والمحتوى، كما أن هناك بونًا شاسعًا ما بين النظريات وتطبيقها، تلك القوانين التي تصون المثقف ومنتجه، بل نقف على حدود فوضى تعمل على انقضاء الأوقات، والتباكي على عدم إنجاز حضاري لأمة يستهلكها الأصدقاء قبل الأعداء، ويتركونها عرضة لمؤتمراتها وتقاريرها وتوصياتها وتأبين مبدعيها ونسيانهم.

          إن الحد الفاصل ما بين الماضي بكامل مخططاته التنموية، وبين الحاضر الذي كان فيما مضى من زمن يسمى بالمستقبل، هو الأمنيات بحدوث التغيير، ويصل الوضع إلى حالة دفع الأشياء إلى نهاياتها لعل شيئًا ما يحدث.

          كما يجب التوقف عن الهتافات الداعية إلى اللحاق بالآخر المتطوّر، والالتفات إلى معوقات التأخير، إذ أن ما كان يُدّعى من أن الاهتمام بالتوازنات الإستراتيجية مع أعداء الأمة أخّر كثيرًا المشروع الثقافي العربي، بل وأخّر كل المشاريع التي يطمح إليها المواطن العربي، والتي غض الطرف عنها لمصلحة مشروع إستراتيجي لم يتحقق، ولم يسمح لغيره من المشاريع الأخرى - بغض النظر عن صفة هذه المشاريع وأهدافها - من أن تتحقق.

          ويشير الدكتور العسكري إلى نقطة مهمة، يمكن تسميتها بسمة العصر وهي الثقافة العلمية «ومن أخطر ما غاب عن توصيات اللقاء التحضيري الأول كان مفهوم الثقافة العلمية».

          وهذا يدل على حالة أخرى من التغييب والتغريب، خصوصا أن الفضاء العلمي يحيط بحياتنا إحاطة السوار بالمعصم، ونشهد حالة فصل بين الثقافة والعلم، فهناك حالة صناعة اطر ثقافية عامة - لا تخصصية - تمتهن العمل في الثقافة، وذلك للتعمية على حالة الخواء الثقافي العلمي الحقيقية.

          كما أن الحملات الأخيرة لبعض المتخاذلين للإقلال من قيمة اللغة العربية، بل والتأكيد على عجزها متناسين أن العجز ليس في اللغة، فكل الدول التي دخلت ساحة الإبداع العلمي - قبل الثقافي - اعتمدت على لغتها الأم، وأصرّت على فرض إيقاعها على الآخرين، واللغة العربية ليست أقل قدرة من الصينية والكورية والألمانية وغيرها.

          ومع كل ما يحدث وما حدث، فإننا لا نقلل من الدور الكبير للحركة الثقافية العربية، ومقرراتها ومؤسساتها وبرامجها، ولكننا أمام واقع، بامتداد الوطن العربي، لا نجد له الدور المعقول، والمتوقع مع تنامي الدور الكبير للآخر الذي سيطر على كل مناحي الحضارة والعلم والتقدم، إننا نحاجج الآخر بما نملكه من ماضٍ أعطانا هذه الفسحة الكبيرة في الوجود، ولم يستطع أي مشروع عربي أن يستحصل على إمكانات يستطيع بها أن يكون في مصاف ما يحدث في العالم من انطلاقة بشرية باتجاهات علمية وثقافية وأدبية وإنسانية، للخروج من حالة الخواء، وإبداع مفهوم حواري تشاركي قائم على الوعي بواقع الأمة للوصول بالحوار إلى ساحة الأهداف المرجوة، وخلق الأجواء الثقافية المتوازنة، وتفعيل الميراث الحضاري الطويل لصناعة الفضاء الثقافي المأمول، ويعيد لأمة الإبداع، دورها الإبداعي الإنساني الذي غاب وغُيّب، ليكون منطلقنا باتجاه مستقبل لا يرحم الغافلين.

عمار حمزة الجمعة
القامشلي سورية