لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

عدد غير قليل من القصص التي تقدم بها أصحابها إلى مسابقة «العربي» يعتمد على محاولة إدهاش القارئ بالغرائبيات، مجاراة للموضة الأدبية، كأن نقرأ مثلًا عن انتحار آلة تليفون! بينما يلجأ عدد آخر من القصص إلى عالم الأسطورة فيستقي منها موضوعه. الثلث الأخير المتبقي يحوم حول القضايا الاجتماعية مثل الفقر، أو معاناة البشر في ظل جائحة كورونا. بشكل عام تجسد القصص طموح الأدباء إلى تملك ناصية الفن القصصي وتقنياته المتنوعة، البعض ينجح في ذلك ويظل للبعض شرف الطموح والمغامرة. 

المرتبة الأولى: قصة «زوجتي تتحول» لمحمد الودير/المغرب 
يعرض الكاتب على لسان الراوي لحظة من حياة رجل أعزب وحيد تلح عليه فكرة الزواج ثم يتصل به صديق تزوج حديثا ويشكو له من بؤس الزواج ومن أن زوجته كانت غاية في الرقة تحولت بعد الزواج إلى كائن آخر: «بجسم رجل بشعر متشعث» يهون الراوي على صديقه لكن ذلك الحديث يصرفه عن فكرة الزواج، إلا أنه ما إن تتاح له فرصة التعرف إلى امرأة عبر برنامج إذاعي حتى يبادر إليها ناسيًا كل حكايات صديقه عن تعاسة الزواج . يصلنا أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بمفرده مهما كانت شروط الألفة صعبة. القصة تستوفي متطلبات البناء الفني، فهي تبدأ بحدث بسيط، مكالمة هاتفية، ثم قرار الراوي الأعزب ألا يتزوج، ويلي ذلك تراجعه واندفاعه إلى الارتباط، ما يضعنا أمام شخصية حية، يتغير موقفها من السعي إلى الحب، إلى الانصراف عنه، ثم العودة إليه، أي إن لدينا شخصية وحدثًا يتطوران ويتفاعلان ويسفران عن نتيجة ثم أخرى، فضلًا عن ذلك تخلو القصة - تقريبًا - من الأخطاء اللغوية، وهو إنجاز لم يعد بوسعنا الاستهانة به في الوقت الراهن. 

المرتبة الثانية: «الجد» لـ الحسن آيت العامل/المغرب 
يتخذ الكاتب لقصته «عنوان الرحلة» وهي إحدى أفضل الطرق الأدبية المختبرة، لأن الرحلة تحمل في طياتها وعودًا مجهولة تثير لهفة القارئ لمتابعة العمل. في القصة جد عجوز يمضي على الطريق مع حفيده الصغير. يستريحان تحت شجرة. يقوم الجد بإعداد الشاي، وفي تلك الأثناء يقص على حفيده حكايات الأنبياء، ويختتمها بقوله: «إن البشر خلقوا من تراب وإلى التراب هم عائدون، ومنه سيبعثون». يهيم الصبي الصغير بطعم التراب، ويقول في ذلك: «كنت مولعًا بتناوله أينما حللت وارتحلت... حتى وأنا نائم أغمس يدي تحت الفراش فأستخرج التراب منه وأضعه في فمي». ويعلق الجد على ذلك: «أحسنت إذ تأكل نصيبك من التراب والأرض لتسد به أعطاب جسدك وترمّ به شقوقه». تستولي القصة على انتباه القارئ لأن الرحلة بحد ذاتها حركة نحو المجهول، أو حدث يضمر ما لا نعرفه، فضلًا عن ذلك فإن شخصبة الحفيد تتطور في الرحلة من التمعّن في مغزى حكايات جده إلى عشق التراب، وبذلك يصل القاص بموضوعه إلى لحظة التنوير أو الإضاءة، كأنه يريد أن يقول لنا إن على البشر جميعًا أن يعشقوا الحقيقة السرمدية، أن يعشقوا الأصل الذي جاؤوا منه، أن يتأملوا مغزى وجودهم وحياتهم وزوالهم. قصة جميلة ومحكمة. 

المرتبة الثالثة: «من طين» لمحمد عبدالجواد/مصر
من العجيب أن نجد قصتين، من بلدين مختلفين (المغرب ومصر) تعرضان الفكرة نفسها لكن بطريقتين مختلفتين تمامًا، الأولى هي «الجد» والثانية هي «من طين» التي تصور رجلًا يطوف ببيت الله الحرام وهناك يلفت نظره شخص آخر ببشرة بيضاء وعينين زرقاوين، فيسأله عن البلد الذي جاء منه، فيجيبه الآخر: «أنا من طين»! نفس فكرة قصة «الجد» التي تدعونا للتمعن في جذورنا، وبينما اختار القاص المغربي «الرحلة» طريقة، والحوار وسيلة، تخير القاص محمد عبدالجواد مكانًا أكثر قداسة ربما أقوى ارتباطًا بفكرة أصل الإنسان، وفكرة أن البشر جميعًا من أصل واحد وأنه لا بلدان لنا جميعًا سوى «الطين»، أو «التراب» الذي عشقه الحفيد. ومن الممتع تأمل كيف تتخذ فكرة واحدة مسارين مختلفين بطرق مختلفة.