العولمة تحديات مستجدة!
منذ عقود، وربما تحديدًا منذ ثمانينيات القرن العشرين، بدأ العالم يتعامل مع مصطلح العولمة الاقتصادية. وقد تأسست منظمة التجارة الدولية لتضم الدول التي تلتزم بقواعد وشروط العولمة الاقتصادية. وتؤكد هذه القواعد والشروط، على ضرورة تبني الدول حرية التجارة وتدفق السلع من دون عوائق أو تعرفات قد تؤدي إلى التمييز بين السلع المنتجة محليًا وتلك المستوردة من الخارج. وقد هدفت العولمة إلى إيلاء أهمية للميزات النسبية للصناعات والخدمات بحيث تتوطن الصناعات في المواقع التي تتوفر فيها ميزات وعوامل تمكنها من التحكم في التكاليف، وفي الوقت نفسه بلوغ أحسن درجات الجودة لذلك تصل إلى المستهلك بأسعار مناسبة وميزات مفيدة.
ويذكر عدد من المختصين بالتاريخ الاقتصادي أن التجارة الدولية نشأت في الصين قبل 2000 سنة عندما بدأت فكرة «طريق الحرير»، وهؤلاء يؤكدون أن فكرة العولمة ليست جديدة أو عصرية، على الرغم من تطورات أنظمة التجارة الدولية، بل هي قديمة قدم التاريخ الإنساني. هناك مَن يزعم أن العولمة الحقيقية بدأت مع رحلة كريستوفر كولومبس إلى العالم الجديد، الأمريكتين، في عام 1492. ربما سافر وهاجر البشر قبل ذلك، أي قبل رحلة كولومبس الشهيرة، وتبادلوا السلع والمنتجات الأولية أو المصنعة وكذلك تبادلوا الأفكار. ظلت التجارة بين الشعوب والأمم أهم الصلات التي حققت التوافق بين البلدان وعززت المصالح المشتركة.
تحولات تنظيمية
بطبيعة الحال تبدلت أنماط وأشكال الأعمال على مدى القرون والعقود الماضية، وتطورت التجارة بين البلدان بموجب المتغيرات الصناعية والتقنية وتحسن أوضاع المعرفة بما يعزز من عمليات التبادل التجاري وتحسين العلاقات الاقتصادية بين دول العالم. وقعت اتفاقية الـ «Gatt» في الثلاثين من أكتوبر عام1947، وهي الاتفاقية الخاصة بالتعرفات والتجارة. وقعت الاتفاقية في جنيف بسويسرا وشملت 23 دولة آنذاك. لحقت بتلك الاتفاقية جولات عديدة لتحسين شروط التجارة وشمول مواد وسلع مختلفة. كانت جولات التفاوض تدوم لمدد طويلة، عدة أشهر، وعقدت الجولات اللاحقة منـذ أبريل 1949 إلى آخر جولة عقدت بالدوحة - قطر في نوفمبر 2001. جولة الأوروغواي التي عقدت في سبتمبر 1986 واستمرت لأمد طويل شملت 123 دولة وأنجزت تأسيس منظمة التجارة الدولية WTO، التي أصبحت أهم تنظيم دولي للعناية بأمور وقضايا التجارة. أدت تلك الجولة وبعد قيام منظمة التجارة الدولية، إلى تخفيضات مهمة في التعرفات الجمركية وتخفيض دعومات الزراعة وفتح أبواب الاستيراد للسلع المصدرة من البلدان النامية مثل منتجات النسيج والألبسة.
دور منظمة التجارة الدولية
أصبحت منظمة التجارة الدولية ناديًا لكل الدول الساعية لتحسين أوضاعها الاقتصادية من خلال تنشيط صادراتها والتمكن من كسب الأسواق. وبموجب الشروط والضوابط انضمت العديد من الدول لمنظمة التجارة الدولية وعدلت من القوانين الحاكمة للاستيراد والتصدير وعالجت مسائل الحمائية التي يمكن أن تعوق انضمامها لعضوية المنظمة. وهكذا انضمت الصين والهند ومعهما عدد من الدول التي كانت محكومة بأنظمة الاقتصاد الشمولي وحماية الصناعات الوطنية أو تعطيل الاستثمارات الأجنبية. وقد ساعدت العضوية على تدفق الاستثمارات بدول عديدة ومكّنتها من تطوير أنشطتها الصناعية والخدمات وخلق فرص العمل للمواطنين، هذا فضلًا عن الاستفادة من نقل التكنولوجيا والشراكة مع شركات صناعية كبرى من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان. لابد من التأكيد على أن اتفاقيات الجات ثم قيام منظمة التجارة الدولية وانضمام الدول الرئيسية لعضويتها قد نقلا الاقتصاد العالمي إلى مستويات متقدمة جديدة ساهمت في رفع الناتج القومي بعدد من الدول مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية. وهنا لابد من الإشارة إلى أهمية الميزات النسبية في الارتقاء بقدرات هذه الاقتصادات، حيث تمكنت من تعزيز المنافسة الحرة والتمكن من توفير السلع والخدمات بتكاليف مناسبة تحقق للمستهلك النهائي الحصول عليها بأسعار مقبولة وبجودة متميزة.
اعتراضات ومقاومة
لكن العولمة ومنظمة التجارة الدولية التي أخضعت الدول لأنظمة قد تقود إلى مقاضاتها، إذا ما تورطت بممارسات قد لا تتفق مع الشروط التي اعتمدت للعضوية، ومنها التحيز للمنتجات الوطنية أو رفع التعرفة الجمركية أو الإغراق السلعي، واجهت مقاومة من منظمات سياسية متنوعة، يمينية ويسارية. ادعى اليساريون أن العولمة ستحرم العمالة في بلدان عديدة من الوظائف عندما تقرر الشركات الكبرى الانتقال بأعمالها إلى بلدان تجدها أكثر جاذبية بشروطها وتكاليفها، خصوصًا تكاليف العمالة، وادّعت أن هناك بلدانًا تقوم أنظمة التوظيف فيها على أسس قد لا تفرق عن السخرة أو توظيف القاصرين والأطفال. مقابل ذلك، اشتكت شركات من المنافسة غير المتوازنة، ومن هذه الشركات شركات الحديد والصلب في الولايات المتحدة. أهم الاعتراضات وجهت من المزارعين الذين اعتمدوا لزمن طويل على الدعم الحكومي الذي وفر لهم إمكانات تسويق منتجات الألبان والخضار والفواكه في الأسواق العالمية، على الرغم من ارتفاع تكاليف الإنتاج، لذلك ظلت المسائل المتعلقة بالإنتاج الزراعي والحيواني قيد البحث حتى يومنا هذا، ولم تتمكن الدورات التي عقدت من حلحلة الإشكالات ذات الصلة. اليمين الشعبوي، والذي مثّله الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أثار قضايا تتعلق بحماية الصناعات الوطنية والحفاظ على وظائف العمالة الوطنية.
العولمة والهجرة
لا يمكن قصر العولمة على التجارة بين البلدان، وإن كانت ذات أهمية قصوى في منظومة العولمة. هناك جوانب أخرى، وقد تكون مرتبطة بالاقتصاد العالمي، ومنها الهجرة المستمرة من قبل البشر من مناطق إلى أخرى، أحيانًا هجرات محلية داخل البلدان أو إلى بلدان أخرى وربما قارات أخرى، سعيًا وراء الرزق. يذكر المختصون أن الهجرة تعرف بأنها هي حركة البشر من مكان أو منطقة إلى أخرى... ومنذ أن بدأ الإنسان في الانتقال والارتحال من أفريقيا في الزمن القديم فإن البشر ظلوا يرتحلون على مدى القرون والعقود الماضية. في زمننا الحاضر هناك نحو 258 مليونًا من سكان الأرض يعيشون خارج أوطانهم الأصلية. الهجرة قد تكون طوعية عندما يشعر الإنسان بأن أوضاعه الاقتصادية والمعيشية قد تتحسن إذا ما انتقل من موطنه إلى بلد آخر، أو تكون قسرية نتيجة لأوضاع اقتصادية صعبة في الأوطان أو نتيجة للتعسف السياسي الذي قد يواجهه الفرد أو أفراد أسرته في الوطن. لاشك أن الهجرة مظهر أو سمة من سمات العولمة في هذا العصر. وقد تشكّلت بلدان خلال القرون الماضية من قبل المهاجرين ومن هذه البلدان أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية، وربما تشكلت على حساب المواطنين الأصليين مثل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية. ويجب أن نشير إلى أن بلدان الخليج تشكلت خلال القرنين الماضيين من مهاجرين من الجزيرة العربية وإيران والعراق.
الهجرة، وبما فيها من فوائد للمهاجرين وللبلدان المضيفة، أصبحت من المسائل السياسية الشائكة منذ بداية القرن الحالي. هناك تيارات سياسية يمينية أخذت تتغذى بالعداء للهجرة والمهاجرين في بلدان أوربية عديدة وتمكنت هذه التيارات من الوصول إلى السلطة أو تشكيل معارضة مهمة في بلدانها، ومنها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وهولندا والمجر. لاشك أن الأزمات والحروب الأهلية في بلدان مثل إيران وأفغانستان والعراق وسورية والصومال دفعت عدة ملايين للهجرة إلى أوربا، وقد استوعبت بلدان، خصوصا ألمانيا، ما يزيد على مليون مهاجر. وعندما يقيم المرء الأوضاع الديمغرافية في عدد من البلدان الأوربية لابد أن يجد منافع للهجرة لهذه البلدان التي أخذ معدل النمو السكاني فيها بالتراجع وحدوث انخفاض في أعداد المواطنين من فئة سن العمل. لكن التيارات المعادية للهجرة ظلت مسمومة ومتمكنة من تشكيل الثقافة السياسية الهادفة للحد من الهجرة ووضع حد للمنافع التي قد تتوفر للمهاجرين مثل تسهيل الحصول على الجنسية، أو المواطنة، أو توفير فرص العمل أو الأعمال أو الحصول على منافع الخدمات الاجتماعية. بيد أن هذه التيارات على الرغم من تأثيراتها وقسوتها لم تمنع وصول العديد من أبناء المهاجرين إلى مواقع متميزة في قطاعات الأعمال أو المؤسسات الحكومية أو الوصول إلى مواقع في البرلمانات أو تبوء مناصب الوزراء.
طروحات جديدة
منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في الثلث الأخير من شهر فبراير 2022 برزت مقولات حول تأثير تلك الحرب على مبادئ العولمة. لكن لم يلاحظ أصحاب تلك المقولات أن الحرب ذاتها أبرزت أهمية العولمة للاقتصاد العالمي. شكلت المقاطعة الاقتصادية الصارمة التي انتهجتها الدول الغربية ضد روسيا وتعطل تدفق النفط والغاز من روسيا مصاعب مهمة للعديد من الدول والشركات والصناعات والبنوك. ومن المؤكد أن التأثيرات ناتجة عن شبكة العلاقات الاقتصادية والتجارية والخدمية التي بنيت على مدى عقود منذ سقوط نظام الاتحاد السوفييتي. ربما تدفع العقوبات العديد من الدول إلى البحث عن بدائل، للنفط والغاز وغيرها من صادرات روسية، لكنها في الوقت نفسه تؤكد أهمية العلاقات بين الدول، حيث لن تدتمكن أي دولة- أو اقتصاد وطني من التعافي - دون أن تتوفر لها المدخلات اللازمة، وفي أغلب الأحوال تكون تلك المدخلات مستوردة من خارج الحدود. لاشك أن العولمة ما زالت تواجه العديد من العراقيل، وهناك حواجز تعيق تدفق التجارة نتيجة القوانين والأنظمة التي تتحكم بالعمل الاقتصادي وأنظمة الاستيراد والتصدير، وربما لا تزال هناك دول تفرض تعريفات جمركية من أجل حماية الصناعات الوطنية أو غيرها من الأنشطة.
أهمية العولمة
غني عن البيان أن التحدي الرئيسي أمام سلاسة العولمة وتطبيقاتها يتمثل في التوترات السياسية التي تؤثر على العلاقات الاقتصادية مثل تلك التي نشبت بين الصين والولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. وبطبيعة الحال فإن الأوضاع التي نتجت عن الحرب الروسية - الأوكرانية سوف تترك بصماتها على العلاقات بين الاتحاد الأوربي وروسيا، وكذلك بين الولايات المتحدة وروسيا. أيضًا، يمكن أن تؤدي الاستقطابات التي قد تشمل الصين وتحالفها مع روسيا إلى توتر في العلاقات السياسية بين الصين والغرب ومن ثم تواجه الصين مصاعب في تصدير السلع إلى العديد من البلدان. مثلت التجارة الخارجية 35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2020. وقد بلغ فائض التجارة بين الصين والولايات المتحدة في ذلك العام 256 مليار دولار لصالح الصين. ويمكن الزعم أن السوق الاستهلاكية في الولايات المتحدة أصبحت تعتمد كثيرًا على الواردات السلعية والبضائع الوسطية القادمة من الصين. توارت العديد من الصناعات الثقيلة والاستهلاكية في الولايات المتحدة من خلال العقود والسنوات الماضية نتيجة لفقدان الجدوى وارتفاع التكاليف ومن ثم عدم القدرة على المنافسة مع الواردات القادمة من الخارج، خصوصًا من الصين. مقابل ذلك، وظفت الصين مبالغ مهمة من الفوائض في شراء السندات الحكومية الأمريكية بما جعلها من أكبر الدائنين للخزانة الأمريكية.
عند تقدير العلاقات بين الدول على الرغم مما يكتنفها، أحيانًا أو لوقت طويل، من توترات سياسية في ظل الإدارات المختلفة، فإن المرء لابد أن يقتنع بأن ظاهرة العولمة لن تتراجع بل ستستمر وتتعزز على مدى السنوات والعقود القادمة. هناك حركات سياسية ستستمر في معارضتها أو مقاومتها للعولمة وسماتها ونتائجها، لكن التقدم التكنولوجي لن يمكن هؤلاء من وقف تطورات العولمة الاقتصادية. كيف يمكن لهم تعطيل العلاقات الاقتصادية، والتجارية على وجه الخصوص، إذا كانت صناعات مهمة مثل صناعة السيارات أو الطائرات أو الأجهزة الإلكترونية تعتمد على منتجات وسيطة لإنجاز منتجاتها النهائية وتلك المنتجات الوسيطة تصنع في بلدان أخرى؟ لن تتوقف مظاهر العولمة إلا إذا اعتمد كل بلد على القدرات الذاتية وهذا أصبح خيالًا مستحيلًا، وربما لم يكن ممكنًا حتى في الأنظمة الشمولية التي سادت في القرن العشرين وما سبقه من قرون. تطرح الأفكار المعادية للعولمة من أجل تحقيق مصالح انتخابية في المجتمعات الديمقراطية لكسب محدودي التعليم والثقافة، كما فعل ترامب في الولايات المتحدة عام 2016 أو ما فعله المحافظون البريطانيون عندما طرحوا الاستفتاء للخروج من عضوية الاتحاد الأوربي، كما أن الأنظمة الديكتاتورية تبرر تسلطها أو إغلاق بلدانها أمام التجارة والاستثمار بحجة أن أنظمة العولمة سوف تهدد مؤسساتها أو عمالتها الوطنية.
الاستثمار المباشر
الاستثمار المباشر يمثل سمة من سمات العولمة، وهناك تدفقات مالية بين الدول FDI بلغت في عام 2021 ما يقارب 1.6 تريليون دولار وقدر ما حصدته دول العالم النامي، أو العالم الثالث، 837 مليار دولار أو 50 في المئة من تدفقات الاستثمار المباشر العالمية. وقد ارتفعت هذه الاستثمارات بعد التعافي النسبي من جائحة كورونا Covid 19. أسهم في ارتفاع قيمة الاستثمارات تزايد عمليات الاستحواذ والاندماج بين الشركات والمؤسسات المالية وغيرها. بطبيعة الحال فإن شروط منظمة التجارة الدولية للأعمال الاستثمارية وتسهيل عمليات التملك في مختلف الدول وتراجع النهج الشمولي في الإدارة الاقتصادية كل هذا عزز التدفقات. لا ريب أن هناك من لا يزال يطرح أفكارًا غير واقعية عن مخاطر الاستثمار الأجنبي أو التخوف من بيع المؤسسات المملوكة للدولة بما يعطل التدفق الاستثماري في بلدان عديدة، وهناك من يمنع الاستثمار الأجنبي في عدد من القطاعات الاقتصادية مثل الصناعات التحويلية أو الزراعة أو العقار أو البنوك بما يعرقل التطور الاقتصادي وإمكانات خلق فرص العمل في بلدان تعاني من النمو السكاني وتدفق الشباب إلى سوق العمل.
أهمية التصدي للتحديات
العولمة وجدت لتبقى، قد تكون هناك مجادلات بشأن عدد من سمات العولمة أو التجاوز على المصالح الوطنية أو تخريب البيئة الطبيعية، لكن هذه الأمور يجب حسمها من خلال قناعات عالمية ترتبط بالاتفاقات التجارية أو اتفاقيات حماية البيئة والمناخ والحقوق المشروعة للعمالة في كل من البلدان، خصوصًا البلدان الأعضاء في منظمة التجارة الدولية. لاشك أن العمل الاقتصادي مازال يعاني بسبب تصرفات غير مسؤولة من أصحاب الأعمال أو نتيجة غياب الرقابة الحكومية على مختلف الأنشطة الاقتصادية، وهناك القصور في التطبيقات المتعلقة بحماية البيئة والعناصر الأيكولوجية. ويبدو أن هذه هي تحديات العولمة في العقود القادمة، حيث يفترض أن تعمل الحكومات على تطوير النظام الاقتصادي بما يعزز مواجهة متغيرات المناخ ووقف التدهور في الحياة الطبيعية نتيجة للممارسات البشرية ■