العولمة تحديات مستجدة!

العولمة تحديات مستجدة!

منذ‭ ‬عقود،‭ ‬وربما‭ ‬تحديدًا‭ ‬منذ‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بدأ‭ ‬العالم‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬مصطلح‭ ‬العولمة‭ ‬الاقتصادية‭. ‬وقد‭ ‬تأسست‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬لتضم‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تلتزم‭ ‬بقواعد‭ ‬وشروط‭ ‬العولمة‭ ‬الاقتصادية‭. ‬وتؤكد‭ ‬هذه‭ ‬القواعد‭ ‬والشروط،‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬تبني‭ ‬الدول‭ ‬حرية‭ ‬التجارة‭ ‬وتدفق‭ ‬السلع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬عوائق‭ ‬أو‭ ‬تعرفات‭ ‬قد‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬السلع‭ ‬المنتجة‭ ‬محليًا‭ ‬وتلك‭ ‬المستوردة‭ ‬من‭ ‬الخارج‭. ‬وقد‭ ‬هدفت‭ ‬العولمة‭ ‬إلى‭ ‬إيلاء‭ ‬أهمية‭ ‬للميزات‭ ‬النسبية‭ ‬للصناعات‭ ‬والخدمات‭ ‬بحيث‭ ‬تتوطن‭ ‬الصناعات‭ ‬في‭ ‬المواقع‭ ‬التي‭ ‬تتوفر‭ ‬فيها‭ ‬ميزات‭ ‬وعوامل‭ ‬تمكنها‭ ‬من‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬التكاليف،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬بلوغ‭ ‬أحسن‭ ‬درجات‭ ‬الجودة‭ ‬لذلك‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬المستهلك‭ ‬بأسعار‭ ‬مناسبة‭ ‬وميزات‭ ‬مفيدة‭. ‬

ويذكر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المختصين‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الاقتصادي‭ ‬أن‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬قبل‭ ‬2000‭ ‬سنة‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬الحرير‮»‬،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬يؤكدون‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬العولمة‭ ‬ليست‭ ‬جديدة‭ ‬أو‭ ‬عصرية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تطورات‭ ‬أنظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬قديمة‭ ‬قدم‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني‭. ‬هناك‭ ‬مَن‭ ‬يزعم‭ ‬أن‭ ‬العولمة‭ ‬الحقيقية‭ ‬بدأت‭ ‬مع‭ ‬رحلة‭ ‬كريستوفر‭ ‬كولومبس‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الجديد،‭ ‬الأمريكتين،‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1492‭. ‬ربما‭ ‬سافر‭ ‬وهاجر‭ ‬البشر‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬رحلة‭ ‬كولومبس‭ ‬الشهيرة،‭ ‬وتبادلوا‭ ‬السلع‭ ‬والمنتجات‭ ‬الأولية‭ ‬أو‭ ‬المصنعة‭ ‬وكذلك‭ ‬تبادلوا‭ ‬الأفكار‭. ‬ظلت‭ ‬التجارة‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم‭ ‬أهم‭ ‬الصلات‭ ‬التي‭ ‬حققت‭ ‬التوافق‭ ‬بين‭ ‬البلدان‭ ‬وعززت‭ ‬المصالح‭ ‬المشتركة‭.‬

 

تحولات‭ ‬تنظيمية

بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬تبدلت‭ ‬أنماط‭ ‬وأشكال‭ ‬الأعمال‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬القرون‭ ‬والعقود‭ ‬الماضية،‭ ‬وتطورت‭ ‬التجارة‭ ‬بين‭ ‬البلدان‭ ‬بموجب‭ ‬المتغيرات‭ ‬الصناعية‭ ‬والتقنية‭ ‬وتحسن‭ ‬أوضاع‭ ‬المعرفة‭ ‬بما‭ ‬يعزز‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري‭ ‬وتحسين‭ ‬العلاقات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بين‭ ‬دول‭ ‬العالم‭. ‬وقعت‭ ‬اتفاقية‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬Gatt‮»‬‭ ‬في‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬عام1947،‭ ‬وهي‭ ‬الاتفاقية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالتعرفات‭ ‬والتجارة‭. ‬وقعت‭ ‬الاتفاقية‭ ‬في‭ ‬جنيف‭ ‬بسويسرا‭ ‬وشملت‭ ‬23‭ ‬دولة‭ ‬آنذاك‭. ‬لحقت‭ ‬بتلك‭ ‬الاتفاقية‭ ‬جولات‭ ‬عديدة‭ ‬لتحسين‭ ‬شروط‭ ‬التجارة‭ ‬وشمول‭ ‬مواد‭ ‬وسلع‭ ‬مختلفة‭. ‬كانت‭ ‬جولات‭ ‬التفاوض‭ ‬تدوم‭ ‬لمدد‭ ‬طويلة،‭ ‬عدة‭ ‬أشهر،‭ ‬وعقدت‭ ‬الجولات‭ ‬اللاحقة‭ ‬منـذ‭ ‬أبريل‭ ‬1949‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬جولة‭ ‬عقدت‭ ‬بالدوحة‭ - ‬قطر‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬2001‭. ‬جولة‭ ‬الأوروغواي‭ ‬التي‭ ‬عقدت‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬1986‭ ‬واستمرت‭ ‬لأمد‭ ‬طويل‭ ‬شملت‭ ‬123‭ ‬دولة‭ ‬وأنجزت‭ ‬تأسيس‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬WTO،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬أهم‭ ‬تنظيم‭ ‬دولي‭ ‬للعناية‭ ‬بأمور‭ ‬وقضايا‭ ‬التجارة‭. ‬أدت‭ ‬تلك‭ ‬الجولة‭ ‬وبعد‭ ‬قيام‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية،‭ ‬إلى‭ ‬تخفيضات‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬التعرفات‭ ‬الجمركية‭ ‬وتخفيض‭ ‬دعومات‭ ‬الزراعة‭ ‬وفتح‭ ‬أبواب‭ ‬الاستيراد‭ ‬للسلع‭ ‬المصدرة‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬النامية‭ ‬مثل‭ ‬منتجات‭ ‬النسيج‭ ‬والألبسة‭.‬

 

دور‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية

أصبحت‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬ناديًا‭ ‬لكل‭ ‬الدول‭ ‬الساعية‭ ‬لتحسين‭ ‬أوضاعها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تنشيط‭ ‬صادراتها‭ ‬والتمكن‭ ‬من‭ ‬كسب‭ ‬الأسواق‭. ‬وبموجب‭ ‬الشروط‭ ‬والضوابط‭ ‬انضمت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬لمنظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬وعدلت‭ ‬من‭ ‬القوانين‭ ‬الحاكمة‭ ‬للاستيراد‭ ‬والتصدير‭ ‬وعالجت‭ ‬مسائل‭ ‬الحمائية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعوق‭ ‬انضمامها‭ ‬لعضوية‭ ‬المنظمة‭. ‬وهكذا‭ ‬انضمت‭ ‬الصين‭ ‬والهند‭ ‬ومعهما‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬محكومة‭ ‬بأنظمة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الشمولي‭ ‬وحماية‭ ‬الصناعات‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬تعطيل‭ ‬الاستثمارات‭ ‬الأجنبية‭. ‬وقد‭ ‬ساعدت‭ ‬العضوية‭ ‬على‭ ‬تدفق‭ ‬الاستثمارات‭ ‬بدول‭ ‬عديدة‭ ‬ومكّنتها‭ ‬من‭ ‬تطوير‭ ‬أنشطتها‭ ‬الصناعية‭ ‬والخدمات‭ ‬وخلق‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬للمواطنين،‭ ‬هذا‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬نقل‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬والشراكة‭ ‬مع‭ ‬شركات‭ ‬صناعية‭ ‬كبرى‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬مثل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وألمانيا‭ ‬واليابان‭. ‬لابد‭ ‬من‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬اتفاقيات‭ ‬الجات‭ ‬ثم‭ ‬قيام‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬وانضمام‭ ‬الدول‭ ‬الرئيسية‭ ‬لعضويتها‭ ‬قد‭ ‬نقلا‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬متقدمة‭ ‬جديدة‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬الناتج‭ ‬القومي‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬مثل‭ ‬الصين‭ ‬والهند‭ ‬وكوريا‭ ‬الجنوبية‭. ‬وهنا‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬الميزات‭ ‬النسبية‭ ‬في‭ ‬الارتقاء‭ ‬بقدرات‭ ‬هذه‭ ‬الاقتصادات،‭ ‬حيث‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬تعزيز‭ ‬المنافسة‭ ‬الحرة‭ ‬والتمكن‭ ‬من‭ ‬توفير‭ ‬السلع‭ ‬والخدمات‭ ‬بتكاليف‭ ‬مناسبة‭ ‬تحقق‭ ‬للمستهلك‭ ‬النهائي‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭ ‬بأسعار‭ ‬مقبولة‭ ‬وبجودة‭ ‬متميزة‭.‬

 

اعتراضات‭ ‬ومقاومة

لكن‭ ‬العولمة‭ ‬ومنظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬أخضعت‭ ‬الدول‭ ‬لأنظمة‭ ‬قد‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬مقاضاتها،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تورطت‭ ‬بممارسات‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تتفق‭ ‬مع‭ ‬الشروط‭ ‬التي‭ ‬اعتمدت‭ ‬للعضوية،‭ ‬ومنها‭ ‬التحيز‭ ‬للمنتجات‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬رفع‭ ‬التعرفة‭ ‬الجمركية‭ ‬أو‭ ‬الإغراق‭ ‬السلعي،‭ ‬واجهت‭ ‬مقاومة‭ ‬من‭ ‬منظمات‭ ‬سياسية‭ ‬متنوعة،‭ ‬يمينية‭ ‬ويسارية‭.  ‬ادعى‭ ‬اليساريون‭ ‬أن‭ ‬العولمة‭ ‬ستحرم‭ ‬العمالة‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬الوظائف‭ ‬عندما‭ ‬تقرر‭ ‬الشركات‭ ‬الكبرى‭ ‬الانتقال‭ ‬بأعمالها‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬تجدها‭ ‬أكثر‭ ‬جاذبية‭ ‬بشروطها‭ ‬وتكاليفها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬تكاليف‭ ‬العمالة،‭ ‬وادّعت‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬بلدانًا‭ ‬تقوم‭ ‬أنظمة‭ ‬التوظيف‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تفرق‭ ‬عن‭ ‬السخرة‭ ‬أو‭ ‬توظيف‭ ‬القاصرين‭ ‬والأطفال‭. ‬مقابل‭ ‬ذلك،‭ ‬اشتكت‭ ‬شركات‭ ‬من‭ ‬المنافسة‭ ‬غير‭ ‬المتوازنة،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الشركات‭ ‬شركات‭ ‬الحديد‭ ‬والصلب‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬أهم‭ ‬الاعتراضات‭ ‬وجهت‭ ‬من‭ ‬المزارعين‭ ‬الذين‭ ‬اعتمدوا‭ ‬لزمن‭ ‬طويل‭ ‬على‭ ‬الدعم‭ ‬الحكومي‭ ‬الذي‭ ‬وفر‭ ‬لهم‭ ‬إمكانات‭ ‬تسويق‭ ‬منتجات‭ ‬الألبان‭ ‬والخضار‭ ‬والفواكه‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬العالمية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ارتفاع‭ ‬تكاليف‭ ‬الإنتاج،‭ ‬لذلك‭ ‬ظلت‭ ‬المسائل‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالإنتاج‭ ‬الزراعي‭ ‬والحيواني‭ ‬قيد‭ ‬البحث‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬ولم‭ ‬تتمكن‭ ‬الدورات‭ ‬التي‭ ‬عقدت‭ ‬من‭ ‬حلحلة‭ ‬الإشكالات‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭. ‬اليمين‭ ‬الشعبوي،‭ ‬والذي‭ ‬مثّله‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬السابق‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬أثار‭ ‬قضايا‭ ‬تتعلق‭ ‬بحماية‭ ‬الصناعات‭ ‬الوطنية‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬وظائف‭ ‬العمالة‭ ‬الوطنية‭.‬

 

العولمة‭ ‬والهجرة

‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قصر‭ ‬العولمة‭ ‬على‭ ‬التجارة‭ ‬بين‭ ‬البلدان،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬أهمية‭ ‬قصوى‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬العولمة‭. ‬هناك‭ ‬جوانب‭ ‬أخرى،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬العالمي،‭ ‬ومنها‭ ‬الهجرة‭ ‬المستمرة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬أحيانًا‭ ‬هجرات‭ ‬محلية‭ ‬داخل‭ ‬البلدان‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى‭ ‬وربما‭ ‬قارات‭ ‬أخرى،‭ ‬سعيًا‭ ‬وراء‭ ‬الرزق‭. ‬يذكر‭ ‬المختصون‭ ‬أن‭ ‬الهجرة‭ ‬تعرف‭ ‬بأنها‭ ‬هي‭ ‬حركة‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬أو‭ ‬منطقة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭... ‬ومنذ‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬والارتحال‭ ‬من‭ ‬أفريقيا‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬القديم‭ ‬فإن‭ ‬البشر‭ ‬ظلوا‭ ‬يرتحلون‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬القرون‭ ‬والعقود‭ ‬الماضية‭. ‬في‭ ‬زمننا‭ ‬الحاضر‭ ‬هناك‭ ‬نحو‭ ‬258‭ ‬مليونًا‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬الأرض‭ ‬يعيشون‭ ‬خارج‭ ‬أوطانهم‭ ‬الأصلية‭. ‬الهجرة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬طوعية‭ ‬عندما‭ ‬يشعر‭ ‬الإنسان‭ ‬بأن‭ ‬أوضاعه‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمعيشية‭ ‬قد‭ ‬تتحسن‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬موطنه‭ ‬إلى‭ ‬بلد‭ ‬آخر،‭ ‬أو‭ ‬تكون‭ ‬قسرية‭ ‬نتيجة‭ ‬لأوضاع‭ ‬اقتصادية‭ ‬صعبة‭ ‬في‭ ‬الأوطان‭ ‬أو‭ ‬نتيجة‭ ‬للتعسف‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يواجهه‭ ‬الفرد‭ ‬أو‭ ‬أفراد‭ ‬أسرته‭ ‬في‭ ‬الوطن‭. ‬لاشك‭ ‬أن‭ ‬الهجرة‭ ‬مظهر‭ ‬أو‭ ‬سمة‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬العولمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭. ‬وقد‭ ‬تشكّلت‭ ‬بلدان‭ ‬خلال‭ ‬القرون‭ ‬الماضية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المهاجرين‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬البلدان‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬وأمريكا‭ ‬اللاتينية،‭ ‬وربما‭ ‬تشكلت‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المواطنين‭ ‬الأصليين‭ ‬مثل‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬وأمريكا‭ ‬الجنوبية‭. ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بلدان‭ ‬الخليج‭ ‬تشكلت‭ ‬خلال‭ ‬القرنين‭ ‬الماضيين‭ ‬من‭ ‬مهاجرين‭ ‬من‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬وإيران‭ ‬والعراق‭.‬

الهجرة،‭ ‬وبما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬فوائد‭ ‬للمهاجرين‭ ‬وللبلدان‭ ‬المضيفة،‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬المسائل‭ ‬السياسية‭ ‬الشائكة‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الحالي‭. ‬هناك‭ ‬تيارات‭ ‬سياسية‭ ‬يمينية‭ ‬أخذت‭ ‬تتغذى‭ ‬بالعداء‭ ‬للهجرة‭ ‬والمهاجرين‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أوربية‭ ‬عديدة‭ ‬وتمكنت‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬أو‭ ‬تشكيل‭ ‬معارضة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬بلدانها،‭ ‬ومنها‭ ‬فرنسا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬وألمانيا‭ ‬وهولندا‭ ‬والمجر‭. ‬لاشك‭ ‬أن‭ ‬الأزمات‭ ‬والحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬مثل‭ ‬إيران‭ ‬وأفغانستان‭ ‬والعراق‭ ‬وسورية‭ ‬والصومال‭ ‬دفعت‭ ‬عدة‭ ‬ملايين‭ ‬للهجرة‭ ‬إلى‭ ‬أوربا،‭ ‬وقد‭ ‬استوعبت‭ ‬بلدان،‭ ‬خصوصا‭ ‬ألمانيا،‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬مليون‭ ‬مهاجر‭.  ‬وعندما‭ ‬يقيم‭ ‬المرء‭ ‬الأوضاع‭ ‬الديمغرافية‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬الأوربية‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬منافع‭ ‬للهجرة‭ ‬لهذه‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬أخذ‭ ‬معدل‭ ‬النمو‭ ‬السكاني‭ ‬فيها‭ ‬بالتراجع‭ ‬وحدوث‭ ‬انخفاض‭ ‬في‭ ‬أعداد‭ ‬المواطنين‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬سن‭ ‬العمل‭. ‬لكن‭ ‬التيارات‭ ‬المعادية‭ ‬للهجرة‭ ‬ظلت‭ ‬مسمومة‭ ‬ومتمكنة‭ ‬من‭ ‬تشكيل‭ ‬الثقافة‭ ‬السياسية‭ ‬الهادفة‭ ‬للحد‭ ‬من‭ ‬الهجرة‭ ‬ووضع‭ ‬حد‭ ‬للمنافع‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تتوفر‭ ‬للمهاجرين‭ ‬مثل‭ ‬تسهيل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الجنسية،‭ ‬أو‭ ‬المواطنة،‭ ‬أو‭ ‬توفير‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬الأعمال‭ ‬أو‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬منافع‭ ‬الخدمات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تأثيراتها‭ ‬وقسوتها‭ ‬لم‭ ‬تمنع‭ ‬وصول‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬المهاجرين‭ ‬إلى‭ ‬مواقع‭ ‬متميزة‭ ‬في‭ ‬قطاعات‭ ‬الأعمال‭ ‬أو‭ ‬المؤسسات‭ ‬الحكومية‭ ‬أو‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مواقع‭ ‬في‭ ‬البرلمانات‭ ‬أو‭ ‬تبوء‭ ‬مناصب‭ ‬الوزراء‭.‬

 

طروحات‭ ‬جديدة

منذ‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬الثلث‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬فبراير‭ ‬2022‭ ‬برزت‭ ‬مقولات‭ ‬حول‭ ‬تأثير‭ ‬تلك‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬العولمة‭. ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يلاحظ‭ ‬أصحاب‭ ‬تلك‭ ‬المقولات‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬ذاتها‭ ‬أبرزت‭ ‬أهمية‭ ‬العولمة‭ ‬للاقتصاد‭ ‬العالمي‭. ‬شكلت‭ ‬المقاطعة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الصارمة‭ ‬التي‭ ‬انتهجتها‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬ضد‭ ‬روسيا‭ ‬وتعطل‭ ‬تدفق‭ ‬النفط‭ ‬والغاز‭ ‬من‭ ‬روسيا‭ ‬مصاعب‭ ‬مهمة‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬والشركات‭ ‬والصناعات‭ ‬والبنوك‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬التأثيرات‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬شبكة‭ ‬العلاقات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والتجارية‭ ‬والخدمية‭ ‬التي‭ ‬بنيت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود‭ ‬منذ‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭. ‬ربما‭ ‬تدفع‭ ‬العقوبات‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬بدائل،‭ ‬للنفط‭ ‬والغاز‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬صادرات‭ ‬روسية،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تؤكد‭ ‬أهمية‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الدول،‭ ‬حيث‭ ‬لن‭ ‬تدتمكن‭ ‬أي‭ ‬دولة‭- ‬أو‭ ‬اقتصاد‭ ‬وطني‭ ‬من‭ ‬التعافي‭ - ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتوفر‭ ‬لها‭ ‬المدخلات‭ ‬اللازمة،‭ ‬وفي‭ ‬أغلب‭ ‬الأحوال‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬المدخلات‭ ‬مستوردة‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‭. ‬لاشك‭ ‬أن‭ ‬العولمة‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تواجه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العراقيل،‭ ‬وهناك‭ ‬حواجز‭ ‬تعيق‭ ‬تدفق‭ ‬التجارة‭ ‬نتيجة‭ ‬القوانين‭ ‬والأنظمة‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬بالعمل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وأنظمة‭ ‬الاستيراد‭ ‬والتصدير،‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬هناك‭ ‬دول‭ ‬تفرض‭ ‬تعريفات‭ ‬جمركية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حماية‭ ‬الصناعات‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأنشطة‭.‬

 

أهمية‭ ‬العولمة

غني‭ ‬عن‭ ‬البيان‭ ‬أن‭ ‬التحدي‭ ‬الرئيسي‭ ‬أمام‭ ‬سلاسة‭ ‬العولمة‭ ‬وتطبيقاتها‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬التوترات‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تؤثر‭ ‬على‭ ‬العلاقات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬نشبت‭ ‬بين‭ ‬الصين‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭. ‬وبطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬فإن‭ ‬الأوضاع‭ ‬التي‭ ‬نتجت‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ - ‬الأوكرانية‭ ‬سوف‭ ‬تترك‭ ‬بصماتها‭ ‬على‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬وروسيا،‭ ‬وكذلك‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وروسيا‭. ‬أيضًا،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬الاستقطابات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تشمل‭ ‬الصين‭ ‬وتحالفها‭ ‬مع‭ ‬روسيا‭ ‬إلى‭ ‬توتر‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬السياسية‭ ‬بين‭ ‬الصين‭ ‬والغرب‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تواجه‭ ‬الصين‭ ‬مصاعب‭ ‬في‭ ‬تصدير‭ ‬السلع‭ ‬إلى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭. ‬مثلت‭ ‬التجارة‭ ‬الخارجية‭ ‬35‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬الإجمالي‭ ‬للصين‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2020‭.  ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬فائض‭ ‬التجارة‭ ‬بين‭ ‬الصين‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬256‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬لصالح‭ ‬الصين‭. ‬ويمكن‭ ‬الزعم‭ ‬أن‭ ‬السوق‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أصبحت‭ ‬تعتمد‭ ‬كثيرًا‭ ‬على‭ ‬الواردات‭ ‬السلعية‭ ‬والبضائع‭ ‬الوسطية‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬الصين‭. ‬توارت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الصناعات‭ ‬الثقيلة‭ ‬والاستهلاكية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬والسنوات‭ ‬الماضية‭ ‬نتيجة‭ ‬لفقدان‭ ‬الجدوى‭ ‬وارتفاع‭ ‬التكاليف‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬عدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬المنافسة‭ ‬مع‭ ‬الواردات‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬خصوصًا‭ ‬من‭ ‬الصين‭. ‬مقابل‭ ‬ذلك،‭ ‬وظفت‭ ‬الصين‭ ‬مبالغ‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬الفوائض‭ ‬في‭ ‬شراء‭ ‬السندات‭ ‬الحكومية‭ ‬الأمريكية‭ ‬بما‭ ‬جعلها‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬الدائنين‭ ‬للخزانة‭ ‬الأمريكية‭.‬

عند‭ ‬تقدير‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬مما‭ ‬يكتنفها،‭ ‬أحيانًا‭ ‬أو‭ ‬لوقت‭ ‬طويل،‭ ‬من‭ ‬توترات‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإدارات‭ ‬المختلفة،‭ ‬فإن‭ ‬المرء‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يقتنع‭ ‬بأن‭ ‬ظاهرة‭ ‬العولمة‭ ‬لن‭ ‬تتراجع‭ ‬بل‭ ‬ستستمر‭ ‬وتتعزز‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭ ‬والعقود‭ ‬القادمة‭. ‬هناك‭ ‬حركات‭ ‬سياسية‭ ‬ستستمر‭ ‬في‭ ‬معارضتها‭ ‬أو‭ ‬مقاومتها‭ ‬للعولمة‭ ‬وسماتها‭ ‬ونتائجها،‭ ‬لكن‭ ‬التقدم‭ ‬التكنولوجي‭ ‬لن‭ ‬يمكن‭ ‬هؤلاء‭ ‬من‭ ‬وقف‭ ‬تطورات‭ ‬العولمة‭ ‬الاقتصادية‭. ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لهم‭ ‬تعطيل‭ ‬العلاقات‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬والتجارية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬صناعات‭ ‬مهمة‭ ‬مثل‭ ‬صناعة‭ ‬السيارات‭ ‬أو‭ ‬الطائرات‭ ‬أو‭ ‬الأجهزة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬منتجات‭ ‬وسيطة‭ ‬لإنجاز‭ ‬منتجاتها‭ ‬النهائية‭ ‬وتلك‭ ‬المنتجات‭ ‬الوسيطة‭ ‬تصنع‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى؟‭ ‬لن‭ ‬تتوقف‭ ‬مظاهر‭ ‬العولمة‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬اعتمد‭ ‬كل‭ ‬بلد‭ ‬على‭ ‬القدرات‭ ‬الذاتية‭ ‬وهذا‭ ‬أصبح‭ ‬خيالًا‭ ‬مستحيلًا،‭ ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ممكنًا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬الشمولية‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬وما‭ ‬سبقه‭ ‬من‭ ‬قرون‭. ‬تطرح‭ ‬الأفكار‭ ‬المعادية‭ ‬للعولمة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬مصالح‭ ‬انتخابية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لكسب‭ ‬محدودي‭ ‬التعليم‭ ‬والثقافة،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬ترامب‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عام‭ ‬2016‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬المحافظون‭ ‬البريطانيون‭ ‬عندما‭ ‬طرحوا‭ ‬الاستفتاء‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬عضوية‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الأنظمة‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬تبرر‭ ‬تسلطها‭ ‬أو‭ ‬إغلاق‭ ‬بلدانها‭ ‬أمام‭ ‬التجارة‭ ‬والاستثمار‭ ‬بحجة‭ ‬أن‭ ‬أنظمة‭ ‬العولمة‭ ‬سوف‭ ‬تهدد‭ ‬مؤسساتها‭ ‬أو‭ ‬عمالتها‭ ‬الوطنية‭.‬

 

الاستثمار‭ ‬المباشر

الاستثمار‭ ‬المباشر‭ ‬يمثل‭ ‬سمة‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬العولمة،‭ ‬وهناك‭ ‬تدفقات‭ ‬مالية‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬FDI‭ ‬بلغت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2021‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬1‭.‬6‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬وقدر‭ ‬ما‭ ‬حصدته‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬النامي،‭ ‬أو‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬837‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬أو‭ ‬50‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬تدفقات‭ ‬الاستثمار‭ ‬المباشر‭ ‬العالمية‭.  ‬وقد‭ ‬ارتفعت‭ ‬هذه‭ ‬الاستثمارات‭ ‬بعد‭ ‬التعافي‭ ‬النسبي‭ ‬من‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬Covid‭ ‬19‭.  ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬ارتفاع‭ ‬قيمة‭ ‬الاستثمارات‭ ‬تزايد‭ ‬عمليات‭ ‬الاستحواذ‭ ‬والاندماج‭ ‬بين‭ ‬الشركات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬وغيرها‭. ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬فإن‭ ‬شروط‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬للأعمال‭ ‬الاستثمارية‭ ‬وتسهيل‭ ‬عمليات‭ ‬التملك‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الدول‭ ‬وتراجع‭ ‬النهج‭ ‬الشمولي‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬عزز‭ ‬التدفقات‭. ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يطرح‭ ‬أفكارًا‭ ‬غير‭ ‬واقعية‭ ‬عن‭ ‬مخاطر‭ ‬الاستثمار‭ ‬الأجنبي‭ ‬أو‭ ‬التخوف‭ ‬من‭ ‬بيع‭ ‬المؤسسات‭ ‬المملوكة‭ ‬للدولة‭ ‬بما‭ ‬يعطل‭ ‬التدفق‭ ‬الاستثماري‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬عديدة،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يمنع‭ ‬الاستثمار‭ ‬الأجنبي‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬القطاعات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬مثل‭ ‬الصناعات‭ ‬التحويلية‭ ‬أو‭ ‬الزراعة‭ ‬أو‭ ‬العقار‭ ‬أو‭ ‬البنوك‭ ‬بما‭ ‬يعرقل‭ ‬التطور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وإمكانات‭ ‬خلق‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬النمو‭ ‬السكاني‭ ‬وتدفق‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭.‬

 

أهمية‭ ‬التصدي‭ ‬للتحديات

العولمة‭ ‬وجدت‭ ‬لتبقى،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬مجادلات‭ ‬بشأن‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬العولمة‭ ‬أو‭ ‬التجاوز‭ ‬على‭ ‬المصالح‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬تخريب‭ ‬البيئة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬يجب‭ ‬حسمها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قناعات‭ ‬عالمية‭ ‬ترتبط‭ ‬بالاتفاقات‭ ‬التجارية‭ ‬أو‭ ‬اتفاقيات‭ ‬حماية‭ ‬البيئة‭ ‬والمناخ‭ ‬والحقوق‭ ‬المشروعة‭ ‬للعمالة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬البلدان،‭ ‬خصوصًا‭ ‬البلدان‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭. ‬لاشك‭ ‬أن‭ ‬العمل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬مازال‭ ‬يعاني‭ ‬بسبب‭ ‬تصرفات‭ ‬غير‭ ‬مسؤولة‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الأعمال‭ ‬أو‭ ‬نتيجة‭ ‬غياب‭ ‬الرقابة‭ ‬الحكومية‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الأنشطة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وهناك‭ ‬القصور‭ ‬في‭ ‬التطبيقات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بحماية‭ ‬البيئة‭ ‬والعناصر‭ ‬الأيكولوجية‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬تحديات‭ ‬العولمة‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬القادمة،‭ ‬حيث‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬تعمل‭ ‬الحكومات‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬النظام‭ ‬الاقتصادي‭ ‬بما‭ ‬يعزز‭ ‬مواجهة‭ ‬متغيرات‭ ‬المناخ‭ ‬ووقف‭ ‬التدهور‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الطبيعية‭ ‬نتيجة‭ ‬للممارسات‭ ‬البشرية‭ ‬■