قصتي مع مجلة العربي

قصتي مع مجلة العربي

كان‭ ‬عدد‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬رقم‭ (‬273‭) ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬أغسطس1981م‭ ‬هو‭ ‬عدد‭ ‬التعارف‭ ‬بيننا‭. ‬أخذني‭ ‬أبي‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬الحديدة‭ ‬بعد‭ ‬ممانعة‭ ‬وتفكير‭. ‬تبعد‭ ‬المدينة‭ ‬الساحلية‭ ‬عن‭ ‬الجيلانية‭ ‬85‭ ‬كيلومترًا‭ ‬باتجاه‭ ‬الجنوب‭ ‬الغربي،‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬الدولي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬الحديدة‭ ‬بمدينة‭ ‬جيزان‭ ‬السعودية،‭ ‬لم‭ ‬تستغرق‭ ‬الرحلة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬الساعة‭.‬

كان‭ ‬أبي‭ ‬وقتها‭ ‬يخوض‭ ‬معركة‭ ‬نفوذ‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬منافسيه‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬‮«‬العزلة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يتوزع‭ ‬أبناؤها‭ ‬على‭ ‬عديد‭ ‬القرى‭ ‬والأديرة‭ ‬والمحلات‭. ‬صحبته‭ ‬إلى‭ ‬مقابلة‭ ‬مقررة‭ ‬مع‭ ‬محافظ‭ ‬الحديدة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يلبس‭ ‬ملابس‭ ‬العلماء‭ ‬‮«‬بعد‭ ‬15‭ ‬سنة‭ ‬عرفته‭ ‬جيدًا،‭ ‬فهو‭ ‬القاضي‭ ‬علي‭ ‬أحمد‭ ‬أبوالرجال‭ ‬عالم‭ ‬وأديب‭ ‬ويعد‭ ‬أشهر‭ ‬المهتمين‭ ‬بالوثائق‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬اليمن‮»‬‭. ‬تحولت‭ ‬مقابلة‭ ‬أبي‭ ‬للمحافظ‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬جدلي‭ ‬حاد‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انضم‭ ‬منافسه‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المقابلة‭. ‬وقد‭ ‬استغرق‭ ‬الأمر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ساعتين‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يصلا‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق،‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬خرجا‭ ‬ومعهما‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬أتباعهما‭ ‬لتشارك‭ ‬الغداء‭ ‬في‭ ‬مُغْدْاية‭ ‬مهدي‭ ‬‮«‬كان‭ ‬المطعم‭ ‬يسمّى‭ ‬مُغْدَاية‮»‬‭ ‬كأن‭ ‬شيئًا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭. ‬

لم‭ ‬أبال‭ ‬بأطايب‭ ‬مُغْدَاية‭ ‬مهدي‭ ‬التي‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬وجبة‭ ‬الغداء‭ ‬التهامية‭ ‬الشهيرة؛‭ ‬فتة‭ ‬البُرِّ‭ ‬بالسمن‭ ‬والعسل‭ ‬مع‭ ‬مقلي‭ ‬السمك‭ ‬الطازج‭ ‬واللحم‭ ‬الحنيذ‭ ‬والأرز‭. ‬كان‭ ‬تفكيري‭ ‬كله‭ ‬ينحصر‭ ‬في‭ ‬تخيّل‭ ‬مكتبة‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬وصفها‭ ‬لي‭ ‬خالي‭ ‬ووصفها‭ ‬لي‭ ‬الأساتذة‭ ‬المصريون‭ ‬والسودانيون‭ ‬خلال‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭.‬

كنا‭ ‬نغادر‭ ‬المطعم‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬منافس‭ ‬أبي‭ ‬يعدد‭ ‬له‭ ‬خيارات‭ ‬القات‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتشاركا‭ ‬شراءه،‭ ‬وضع‭ ‬أبي‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬رأسي،‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬دعنا‭ ‬أولًا‭ ‬نعرف‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬طلبات‭ ‬علوان‭.‬

دق‭ ‬قلبي‭ ‬بعنف،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭: ‬مكتبة‭ ‬الثقافة‭. ‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬أبي‭ ‬يعرف‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة؛‭ ‬فسألني‭: ‬أين‭ ‬هي؟‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬مكانها‭.‬

قلت‭ ‬له‭: ‬قالوا‭ ‬إنها‭ ‬في‭ ‬المطراق‭.‬

قال‭ ‬بنبرة‭ ‬متفاجئة‭: ‬المطراق؟‭ ‬هو‭ ‬قريب‭ ‬منا‭. ‬هيا‭ ‬بنا‭. ‬

سلكنا‭ ‬الشارع‭ ‬إليها‭ ‬مشيًا،‭ ‬وبعد‭ ‬قليل‭ ‬شاهدت‭ ‬اللافتة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬المكتبة‭ ‬فسبقت‭ ‬خطواتي‭ ‬خطوات‭ ‬أبي‭ ‬وصحبه‭ ‬وأنا‭ ‬أصيح‭: ‬ها‭ ‬هي‭.‬

كنت‭ ‬كمن‭ ‬انتابته‭ ‬حالة‭ ‬جنون‭. ‬كانت‭ ‬الكتب‭ ‬تصطف‭ ‬على‭ ‬الأرفف‭ ‬حتى‭ ‬السقف‭. ‬وتتكدّس‭ ‬في‭ ‬أكوام‭ ‬متجاورة‭ ‬على‭ ‬الأرضية‭. ‬وبقرب‭ ‬الباب‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مصطبة‭ ‬مرتفعة‭ ‬مساحتها‭ ‬بحدود‭ ‬متر‭ ‬في‭ ‬متر‭. ‬تتجاور‭ ‬فوقها‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬الأسبوعية‭ ‬والشهرية‭ ‬والدورية‭. ‬كانت‭ ‬أغلفة‭ ‬المجلات‭ ‬بصورها‭ ‬الملونة‭ ‬تسلب‭ ‬الألباب‭. ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أكثرها‭ ‬بالسماع‭ ‬فقط‭. ‬كان‭ ‬اسم‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬أكثر‭ ‬أسماء‭ ‬المجلات‭ ‬الشهرية‭ ‬رسوخًا‭ ‬في‭ ‬ذهني،‭ ‬فلطالما‭ ‬تردد‭ ‬ذكرها‭ ‬في‭ ‬الإذاعات‭ ‬التي‭ ‬أدمن‭ ‬سماعها‭. ‬وفي‭ ‬مثاقفات‭ ‬الأساتذة‭ ‬السودانيين‭ ‬والمصريين‭ ‬الذين‭ ‬بدأت‭ ‬الجيلانية‭ ‬تستقبلهم‭ ‬كمدرسين‭ ‬في‭ ‬مدرستها‭ ‬الابتدائية‭ ‬التي‭ ‬تأسست‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭. ‬

تناولتُ‭ ‬‮«‬العربي‮»‬،‭ ‬كانت‭ ‬تزين‭ ‬غلافها‭ ‬رسمة‭ ‬لسوق‭ ‬شعبي،‭ ‬وكان‭ ‬مكتوبًا‭ ‬فوق‭ ‬الصورة‭ ‬‮«‬لوحات‭ ‬فنية‭ ‬
متكررة‭ ... ‬معرض‭ ‬حي‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق،‭ ‬إنه‭ ‬الشارع‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬أما‭ ‬اسم‭ ‬المجلة‭ ‬فكان‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬الغلاف‭ ‬عريضًا‭ ‬وبلون‭ ‬وردي،‭ ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬تاريخ‭ ‬الإصدار‭ ‬تحته‭ ‬بخط‭ ‬أسود‭ ‬صغير‭ ‬‮«‬شوال‭ ‬1401هـ‭ - ‬أغسطس‭ ‬1981م‮»‬‭. ‬

مكثت‭ ‬بضع‭ ‬ثوان‭ ‬أتأمل‭ ‬الغلاف‭ ‬الأنيق،‭ ‬ثم‭ ‬فتحت‭ ‬المجلة‭ ‬ورفعتها‭ ‬إلى‭ ‬وجهي‭ ‬وشممتها‭ ‬بعمق‭. ‬فعلت‭ ‬ذلك‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬ينظر‭ ‬إليّ‭ ‬سعيدًا،‭ ‬ثم‭ ‬تناولت‭ ‬مجلات‭ ‬أخرى‭ ‬سمعت‭ ‬عنها‭ ‬أيضًا‭ ‬‮«‬الهلال‭ ‬والدوحة‭ ‬والمختار‭ ‬من‭ ‬دايجست‮»‬‭ ‬ومعها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬الأسبوعية‭ ‬مصرية‭ ‬ولبنانية‭ ‬وكويتية،‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬العقاد‭ ‬ونجيب‭ ‬ومحفوظ‭ ‬وطه‭ ‬حسين‭.‬

كانت‭ ‬أناقة‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬توازنُ‭ ‬قطعها‭ ‬وروعة‭ ‬ألوانها‭ ‬ورخص‭ ‬ثمنها‭ ‬أيضًا،‭ ‬تمثل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬روعتها‭ ‬وجاذبيتها‭ ‬المضافة‭ ‬للثناء‭ ‬المتواصل‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أسمعه‭ ‬عنها‭. ‬لكني‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬حتى‭ ‬غرقت‭ ‬في‭ ‬عالمها‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬أكثر‭ ‬روعة‭ ‬مما‭ ‬كنت‭ ‬أتخيل‭.‬

سعادتي‭ ‬بها‭ ‬لم‭ ‬تدعني‭ ‬أقرأها‭ ‬بالترتيب‭. ‬بدأت‭ ‬بمقال‭ ‬الكاتب‭ ‬فتحي‭ ‬رضوان‭ ‬‮«‬الديمقراطية‭ ‬على‭ ‬الهواء‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬مقال‭ ‬يناقش‭ ‬دعوة‭ ‬بعض‭ ‬الكتّاب‭ ‬والمشرّعين‭ ‬البريطانيين‭ ‬لبث‭ ‬جلسات‭ ‬مجلس‭ ‬العموم‭ ‬على‭ ‬الهواء‭.  ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬أمرًا‭ ‬جديدًا،‭ ‬ما‭ ‬دعا‭ ‬رضوان‭ ‬إلى‭ ‬استعراض‭ ‬تاريخ‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬منذ‭ ‬قيام‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬سنة‭ ‬1789م‭. ‬ثم‭ ‬قرأت‭ ‬من‭ ‬منتصف‭ ‬المجلة‭ ‬مقالًا‭ ‬للكاتب‭ ‬عجاج‭ ‬نويهض‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬رأي‭ ‬المنفلوطي‭ ‬في‭ ‬كتّاب‭ ‬مصر‭ ‬والشام‮»‬‭ ‬ومن‭ ‬آخرها‭ ‬قرأت‭ ‬مقالًا‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬بين‭ ‬عملاقين‭ ‬تولستوي‭ ‬وتشيخوف‮»‬‭ ‬لكاتب‭ ‬اسمه‭ ‬هاشم‭ ‬حمادي‭. ‬وهكذا،‭ ‬رحت‭ ‬أتنقل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحديقة‭ ‬الغناء‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬للشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالمعطي‭ ‬حجازي‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬يوتوبيا‭ ‬إلى‭ ‬جاك‭ ‬بيرك‮»‬‭ ‬مطلعها‭ ‬هكذا‭:‬

فلنقل‭ ‬نحن‭ ‬هنا‭ ‬أندلسيون

فلا‭ ‬نطلب‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬

سوى‭ ‬ما‭ ‬يطلب‭ ‬الحجاج‭ ‬أبناء‭ ‬السبيل

أما‭ ‬عنوانها‭ ‬فقد‭ ‬كُتبَ‭ ‬بلونين‭ ‬وبنطين‭ ‬مختلفين؛‭ ‬‮«‬يوتوبيا‮»‬‭ ‬كتبت‭ ‬ببنط‭ ‬كبير‭ ‬ولون‭ ‬أخضر‭ ‬ليموني،‭ ‬أما‭ ‬جملة‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬جاك‭ ‬بيرك‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬كتبت‭ ‬تحتها‭ ‬ببنط‭ ‬صغير‭ ‬ولون‭ ‬أسود‭. ‬وفيما‭ ‬قبع‭ ‬اسم‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬أسفل‭ ‬الصفحة‭ ‬على‭ ‬اليسار‭ ‬هكذا‭ ‬‮«‬باريس‭ - ‬أحمد‭ ‬عبد‭ ‬المعطي‭ ‬حجازي‮»‬‭. ‬فقد‭ ‬سبق‭ ‬النص‭ ‬وعنوانه‭ ‬تعريف‭ ‬بـ«جاك‭ ‬بيرك‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يتوجه‭ ‬النص‭ ‬إليه‭ ‬وفحواه‭: ‬جاك‭ ‬بيرك‭ ‬أبو‭ ‬المستشرقين‭ ‬المعاصرين،‭ ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬والعروبة،‭ ‬تقاعد‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬كأستاذ‭ ‬في‭ ‬الكوليج‭ ‬دي‭ ‬فرانس،‭ ‬وأقيمت‭ ‬له‭ ‬حفلة‭ ‬كبرى،‭ ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬الشاعر‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬تحية‭ ‬له‭.‬

 

التعرف‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬العربي‮»‬

بعد‭ ‬قصيدة‭ ‬حجازي‭ ‬قرأت‭ ‬مقالة‭ ‬المفكر‭ ‬الكبير‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬‮«‬الكتاب‭ ‬أولًا‭...  ‬والكتاب‭ ‬آخرًا‮»‬‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬حجازي‭ ‬وزكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬وفتحي‭ ‬رضوان‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬كتّاب‭ ‬ذلك‭ ‬العدد‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬مثل‭ ‬أكرم‭ ‬زعيتر‭ ‬وعاتكة‭ ‬الخزرجي‭ ‬وفهمي‭ ‬هويدي‭ ‬وعبدالوهاب‭ ‬الأفندي‭ ‬ويوسف‭ ‬الشاروني‭ ‬ومحمد‭ ‬خليفة‭ ‬التونسي‭ ‬سيتحولون‭ ‬إلى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬وجداني‭. ‬وأن‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬ستقودني‭ ‬عبر‭ ‬أعدادها‭ ‬القادمة‭ ‬وأعدادها‭ ‬السابقة‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬عشرات‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬العرب‭ ‬والأجانب‭. ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬أتعرّف‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬سأبدأ‭ ‬بملاحقة‭ ‬مؤلفاتهم‭ ‬وسأدخل‭ ‬عوالمهم‭ ‬ولن‭ ‬أخرج‭ ‬منها‭ ‬أبدًا‭. ‬

ذكرت‭ ‬أن‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬ستقودني‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬عبر‭ ‬أعدادها‭ ‬القادمة‭ ‬والسابقة‭ ‬أيضًا،‭  ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬فعلًا،‭ ‬فقد‭ ‬واظبت‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬العدد‭ ‬على‭ ‬ترصّد‭ ‬وصول‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬أول‭ ‬كل‭ ‬شهر‭. ‬وكانت‭ ‬اللهفة‭ ‬لرؤية‭ ‬العدد‭ ‬القادم‭ ‬والتمتع‭ ‬بمباهجه‭ ‬تجعل‭ ‬أيام‭ ‬الشهر‭ ‬تبدو‭ ‬طويلة،‭ ‬كنت‭ ‬أنهي‭ ‬قراءة‭ ‬العدد‭ ‬كاملًا‭ ‬خلال‭ ‬يومين‭ ‬أو‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬أو‭ ‬يوم‭ ‬ونصف‭. ‬ثم‭ ‬أظل‭ ‬بقية‭ ‬أيام‭ ‬الشهر‭ ‬أكرر‭ ‬قراءته،‭ ‬بعض‭ ‬المقالات‭ ‬أكرر‭ ‬قراءتها‭ ‬عشر‭ ‬مرات‭ ‬على‭ ‬الأقل‭. ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تساءلت‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬أسبوعية؟‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬مجلات‭ ‬أخرى‭ ‬تصدر‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬مواضيعها‭ ‬خفيفة‭ ‬وسريعة‭ ‬وليست‭ ‬في‭ ‬أهمية‭ ‬وعمق‭ ‬ما‭ ‬تستضيفه‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬كتابات؟‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬فإن‭ ‬تساؤلاتي‭ ‬كانت‭ ‬وجيهة‭ ‬رغم‭ ‬سذاجتها‭ ‬كونها‭ ‬لا‭ ‬تفرّق‭ ‬بين‭ ‬طبيعة‭ ‬المجلة‭ ‬الأسبوعية‭ ‬والمجلة‭ ‬الشهرية‭.‬

بعد‭ ‬أشهر‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬صرت‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬قراء‭ ‬العربي‭ ‬المثابرين،‭ ‬أتأمل‭ ‬ثروتي‭ ‬من‭ ‬أعدادها‭ ‬السبعة‭ ‬وهي‭ ‬تتجاور‭ ‬في‭ ‬الرف‭ ‬ويخالجني‭ ‬شعور‭ ‬بامتلاك‭ ‬ثروة‭ ‬لا‭ ‬يمتلكها‭ ‬أحد‭ ‬غيري‭ ‬في‭ ‬الجيلانية‭ ‬والقرى‭ ‬والأديرة‭ ‬المجاورة‭ ‬لها‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬اعتقادي‭ ‬بعدم‭ ‬وجود‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬ميزة‭ ‬متابعة‭ ‬العربي‭ ‬غيري‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬معلومات‭ ‬مؤكدة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يملؤني‭ ‬بالفخر،‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬يشعرني‭ ‬بالأسف‭ ‬لحرمان‭ ‬الآخرين‭ ‬مما‭ ‬أتمتع‭ ‬به‭. ‬

مع‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬ثمة‭ ‬غصة‭ ‬تنغص‭ ‬عليّ‭ ‬ذلك‭ ‬الاعتزاز‭ ‬الفَارِهَ‭ ‬الذي‭ ‬أتيه‭ ‬به‭ ‬وتتبختر‭ ‬مشيتي‭ ‬بسببه‭. ‬

 

التدبيرات‭ ‬الإلهية

كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬رسائل‭ ‬القراء‭ ‬تشيد‭ ‬بأعداد‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬السابقة‭. ‬كانت‭ ‬استطلاعات‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬المميزة‭ ‬الأكثر‭ ‬استحواذًا‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الإشادات‭. ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬رسائل‭ ‬ينشد‭ ‬أصحابها‭ ‬مساعدة‭ ‬إدارة‭ ‬المجلة‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استكمال‭ ‬مجموعاتهم‭ ‬من‭ ‬أعدادها‭. ‬وشهرًا‭ ‬إثر‭ ‬شهر‭ ‬صار‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أعداد‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬السابقة‭ ‬حلمًا‭ ‬يساورني‭ ‬دون‭ ‬انقطاع‭.  ‬لكن‭ ‬كيف‭ ‬سأحصل‭ ‬عليها؟‭ ‬لقد‭ ‬فاتني‭ ‬من‭ ‬أعدادها‭ (‬272‭) ‬عددًا‭. ‬وهذه‭ ‬أعداد‭ ‬توالت‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬23‭ ‬عامًا‭ ‬سبقت‭ ‬تعرفي‭ ‬عليها‭. ‬إن‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فتى‭ ‬صغير‭ ‬وعديم‭ ‬المعرفة‭ ‬بوسائل‭ ‬المراسلات‭ ‬مثلي‭ ‬لأمر‭ ‬بالغ‭ ‬الاستحالة‭. ‬

لكن‭ ‬غرائب‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التدبيرات‭ ‬الإلهية‭ ‬تقف‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬وراء‭ ‬أحداث‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬نفهمها‭.‬

 

أعز‭ ‬الأحلام‭ ‬وأغلاها

ذات‭ ‬يوم‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬منزلة‭ ‬والدي‭ ‬‮«‬مكان‭ ‬في‭ ‬واجهة‭ ‬البيت‭ ‬متصل‭ ‬به‭ ‬ومنفصل‭ ‬عنه‭ ‬يستقبل‭ ‬فيه‭ ‬الشيخ‭ ‬أو‭ ‬كبير‭ ‬القوم‭ ‬ضيوفه‮»‬،‭ ‬كنت‭ ‬وحدي‭ ‬منغمسًا‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬عدد‭ ‬أبريل‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1982م‭. ‬بالضبط‭ ‬كنت‭ ‬أقرأ‭ ‬مقالة‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬صالح‭ ‬‮«‬مهرجانات‭ ‬من‭ ‬ضياء‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬السماء‮»‬،‭ ‬حين‭ ‬دخل‭ ‬عليّ‭ ‬رجل‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬الزيدية‭ ‬وهي‭ ‬حاضنة‭ ‬علمية‭ ‬مشهورة‭ ‬وفيها‭ ‬مركز‭ ‬قضاء‭ ‬المنطقة‭. ‬وضعت‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬جانبًا‭ ‬وقدمت‭ ‬له‭ ‬الماء‭ ‬ثم‭ ‬دخلت‭ ‬كي‭ ‬آتي‭ ‬بالشاي،‭ ‬وحين‭ ‬عدت‭ ‬وجدته‭ ‬يتصفح‭ ‬المجلة‭. ‬

قال‭ ‬لي‭: ‬منذ‭ ‬متى‭ ‬تتابع‭ ‬‮«‬العربي‮»‬؟‭ ‬

أجبت‭ ‬متباهيًا‭: ‬لدي‭ ‬منها‭ ‬سبعة‭ ‬أعداد‭ ‬سابقة‭.‬

وباستهانة‭ ‬قال‭: ‬بس؟‭ ‬

فتحت‭ ‬فمي‭ ‬مصدومًا،‭ ‬فقد‭ ‬توقعت‭ ‬أن‭ ‬يثني‭ ‬عليّ‭ ‬نظرًا‭ ‬لصغر‭ ‬سني‭. ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أنطق‭ ‬استأنف‭ ‬قائلًا‭: ‬أعرف‭ ‬رجلًا‭ ‬لديه‭ ‬مئة‭ ‬وخمسون‭ ‬عددًا‭ ‬منها‭. ‬ويريد‭ ‬بيعها‭... ‬هل‭ ‬تشتريها؟‭ ‬

شعرت‭ ‬بأن‭ ‬الدنيا‭ ‬تدور‭ ‬بي؛‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬أسمعه‭ ‬حقيقة‭ ‬أم‭ ‬خيال؟‭ ‬أيعقل‭ ‬أن‭ ‬تأتيك‭ ‬أعز‭ ‬الأحلام‭ ‬وأغلاها‭ ‬سائرة‭ ‬على‭ ‬قدميها‭ ‬هكذا؟‭ ‬

وبسبب‭ ‬حالة‭ ‬اللهفة‭ ‬التي‭ ‬استولت‭ ‬على‭ ‬حواسي‭ ‬لم‭ ‬أتنبه‭ ‬إلى‭ ‬دخول‭ ‬أبي،‭ ‬لقد‭ ‬دخل‭ ‬أبي‭ ‬أثناء‭ ‬تلفظ‭ ‬الرجل‭ ‬بذلك‭ ‬العرض‭ ‬‮«‬أعرف‭ ‬رجلًا‭ ‬لديه‭ ‬مئة‭ ‬وخمسون‭ ‬عددًا‭ ‬منها‭. ‬ويريد‭ ‬بيعها‭. ‬هل‭ ‬تشتريها؟‮»‬‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬يتحدث‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬المجلة‭ ‬ويقلب‭ ‬أوراقها‭. ‬

فاجأني‭ ‬التقاط‭ ‬أبي‭ ‬طرف‭ ‬الخيط؛‭ ‬نظر‭ ‬إليّ‭ ‬مبتسمًا‭ ‬كأنه‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬‮«‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬نفسك‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬بلهجة‭ ‬قاطعة‭ ‬خاطب‭ ‬ضيفه‭: ‬غدًا‭ ‬تأتي‭ ‬ومعك‭ ‬الرجل‭ ‬وأعداد‭ ‬المجلة‭. ‬

نظرت‭ ‬إلى‭ ‬أبي‭ ‬نظرة‭ ‬امتنان‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬كلام‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقال،‭ ‬ثم‭ ‬صارت‭ ‬معضلتي‭: ‬كيف‭ ‬سأتحمل‭ ‬بطء‭ ‬أربع‭ ‬وعشرين‭ ‬ساعة‭ ‬تفصل‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬تحقق‭ ‬حلمي؟

‭ ‬بقيت‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬لم‭ ‬أوزع‭ ‬وقتي‭ ‬بين‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬ومجلات‭ ‬وكتب‭ ‬أخرى‭ ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬أفعل‭ ‬دائمًا،‭ ‬قضيت‭ ‬وقتي‭ ‬كله‭ ‬أقلب‭ ‬في‭ ‬مجموعتي‭ ‬من‭ ‬أعداد‭ ‬الأشهر‭ ‬السبعة‭ ‬الماضية‭ ‬ومعها‭ ‬ثامنها‭ ‬العدد‭ ‬الجديد‭.  ‬بدا‭ ‬ما‭ ‬أفعله‭ ‬يشبه‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الامتنان‭ ‬لإشباعها‭ ‬لي‭ ‬خلال‭ ‬الأشهر‭ ‬الماضية‭. ‬لكن‭ ‬احتفائي‭ ‬بها‭ ‬كان‭ ‬يتضمن‭ ‬مضمرًا‭ ‬لم‭ ‬أعلنه‭ ‬لنفسي‭ ‬حتى،‭ ‬فأنا‭ ‬سأنشغل‭ ‬عن‭ ‬مجموعتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬بما‭ ‬أنا‭ ‬موعود‭ ‬به‭. ‬وما‭ ‬أنا‭ ‬موعود‭ ‬به‭ ‬يتجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الكمية‭ ‬بتسعة‭ ‬عشر‭ ‬ضعفًا‭ - ‬تقريبًا‭ - ‬إنها‭ ‬مائدة‭ ‬هائلة‭ ‬سيتغذى‭ ‬بها‭ ‬عقلي‭ ‬ويرتوى‭ ‬منها‭ ‬وجداني‭ ‬زمنًا‭ ‬طويلًا،‭ ‬وستستغرق‭ ‬قراءتها‭ ‬ثم‭ ‬تكرار‭ ‬قراءتها‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تكرار‭ ‬قراءة‭ ‬بعض‭ ‬موادها‭ ‬شهورًا‭ ‬طويلة‭. ‬

لم‭ ‬أدرِ‭ ‬كيف‭ ‬مضى‭ ‬الوقت؟‭ ‬شاركت‭ ‬السامرين‭ ‬أمام‭ ‬تلفزيون‭ ‬الأبيض‭ ‬والأسود‭ ‬مسلسل‭ ‬السهرة‭ ‬الذي‭ ‬تتحلق‭ ‬الأسرة‭ ‬كلها‭ ‬حوله،‭ ‬شاركتهم‭ ‬بنصف‭ ‬تركيز‭ ‬ونصف‭ ‬حضور‭. ‬وحين‭ ‬انطفأ‭ ‬مولد‭ ‬الكهرباء‭ ‬كعادته‭ ‬عند‭ ‬العاشرة‭ ‬والنصف‭ ‬مساء‭ ‬فتحت‭ ‬الراديو‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أسمعه‭. ‬كنت‭ ‬أسمع‭ ‬صوت‭ ‬أماني‭ ‬الغد‭ ‬وخيالاته‭ ‬فحسب‭. ‬

عند‭ ‬العاشرة‭ ‬صباحًا‭ ‬كنت‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬المنزلة،‭ ‬حين‭ ‬أقبل‭ ‬رجل‭ ‬الأمس‭ ‬ومعه‭ ‬رجل‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬الخمسين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬تقريبًا‭. ‬كانا‭ ‬يحملان‭ ‬كرتونين‭ ‬تم‭ ‬تربيطهما‭ ‬بالحبال‭. ‬كانت‭ ‬مسافة‭ ‬الـ200‭ ‬متر‭ - ‬تقريبًا‭ - ‬بين‭ ‬الطريق‭ ‬الإسفلتي‭ ‬الذي‭ ‬أنزلتهما‭ ‬السيارة‭ ‬على‭ ‬جانبه‭ ‬وبين‭ ‬المنزلة‭ ‬قد‭ ‬أتعبتهما‭. ‬وطفقا‭ ‬يسكبان‭ ‬من‭ ‬خزان‭ ‬الماء‭ ‬المثلج،‭ ‬ويزاوجان‭ ‬بين‭ ‬الشرب‭ ‬والرش‭ ‬على‭ ‬وجهيهما‭. ‬خلت‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬استغرق‭ ‬وقتًا‭ ‬طويلًا‭ ‬قياسًا‭ ‬بلهفتي‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬كنز‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭.  ‬لعل‭ ‬أبي‭ ‬أحس‭ ‬بما‭ ‬أقاسيه،‭ ‬فامتشق‭ ‬جنبيته‭ ‬الأنيقة‭ ‬الحادة‭ ‬وراح‭ ‬يلامس‭ ‬بها‭ ‬الجبال‭ ‬المشدودة‭ ‬فتطقطق‭ ‬متقطعة،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فاعتبرت‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬أبي‭ ‬إذنا‭ ‬لي‭ ‬بالمعاينة،‭ ‬رحت‭ ‬أخرج‭ ‬الأعداد‭ ‬وأصفها‭ ‬على‭ ‬الكراسي،‭ ‬فيما‭ ‬كل‭ ‬كياني‭ ‬يخفق‭ ‬بهجة‭ ‬بأعدادها‭ ‬الوفيرة‭ ‬وأغلفتها‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬مهرجانًا‭ ‬مبهرًا‭ ‬من‭ ‬الألوان‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬لحظتي‭ ‬الأسطورية‭ ‬لم‭ ‬تسلم‭ ‬من‭ ‬منغص‭ ‬سببه‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الأعداد‭ ‬كانت‭ ‬متضررة،‭ ‬عدد‭ ‬منها‭ ‬كان‭ ‬كعبه‭ ‬مفككًا‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬وعدد‭ ‬آخر‭ ‬تعرض‭ ‬غلافه‭ ‬للتشويه‭ ‬إما‭ ‬بتمزُّق‭ ‬طال‭ ‬جزءًا‭ ‬منه،‭ ‬وإما‭ ‬بتشويه‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬انسكاب‭ ‬الماء‭ ‬أو‭ ‬الشاي‭ ‬عليه،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬أعدادًا‭ ‬قليلة‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬العشرين‭ ‬عددًا‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬أقنعت‭ ‬نفسي‭ ‬بتجاوز‭ ‬هذا‭ ‬المنغص‭ ‬فلدي‭ ‬130‭ ‬عددًا‭ ‬سليمًا‭ ‬ونظيفًا،‭ ‬أما‭ ‬الأعداد‭ ‬المتضررة‭ ‬فلا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭ ‬مادام‭ ‬محتواها‭ ‬سليمًا‭ ‬وكاملًا‭.  ‬من‭ ‬دون‭ ‬فصال‭ ‬ولا‭ ‬مساومة‭ ‬دفع‭ ‬أبي‭ ‬المبلغ‭ ‬المطلوب‭ ‬وهو‭ ‬400‭ ‬ريال،‭ ‬فقد‭ ‬عرضا‭ ‬عليه‭ ‬العدد‭ ‬الواحد‭ ‬مقابل‭ ‬ريالين‭ ‬ونصف‭ ‬الريال،‭ ‬لكن‭ ‬أبي‭ ‬أعطاهما‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬مئة‭ ‬ريال‭ ‬إكرامية‭ ‬لهما‭. ‬فعل‭ ‬أبي‭ ‬ذلك‭ ‬فيما‭ ‬كنت‭ ‬أنا‭ ‬قد‭ ‬نسيت‭ ‬الدنيا‭ ‬كلها‭ ‬ورحت‭ ‬أحضن‭ ‬الأعداد‭ ‬مجموعة‭ ‬تلو‭ ‬مجموعة‭. ‬أشبعت‭ ‬بحضنها‭ ‬أضلاعي‭ ‬وجيشان‭ ‬صدري،‭ ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬رحلتي‭ ‬معها‭. ‬

كان‭ ‬أول‭ ‬عدد‭ ‬ألتحم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأعداد‭ ‬هو‭ ‬العدد‭ ‬رقم‭ (‬270‭) ‬مايو‭ ‬1981م،‭ ‬وضعت‭ ‬يدي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬قصد،‭ ‬وحين‭ ‬فتحته‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬غير‭ ‬مقصودة‭ ‬أيضًا‭ ‬صافحت‭ ‬عيني‭ ‬حوار‭ ‬الشهر،‭ ‬وهو‭ ‬حوار‭ ‬أجراه‭ ‬الكاتب‭ ‬المصري‭ ‬مصطفى‭ ‬نبيل‭ ‬مع‭ ‬الكاتب‭ ‬والدبلوماسي‭ ‬والمترجم‭ ‬السوداني‭ ‬صلاح‭ ‬هاشم‭ ‬عن‭ ‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭. ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬حب‭ ‬استطلاع،‭ ‬لكن‭ ‬أحد‭ ‬مانشيتات‭ ‬الحوار‭ ‬تحت‭ ‬العنوان‭ ‬مباشرة‭ ‬شد‭ ‬انتباهي‭ ‬‮«‬المتعلم‭ ‬الذي‭ ‬يقرأ‭ ‬مادة‭ ‬خفيفة‭ ‬أشد‭ ‬خطرًا‭ ‬من‭ ‬الأمي‮»‬‭. ‬نسيت‭ ‬أنني‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أنقل‭ ‬كنزي‭ ‬من‭ ‬أعداد‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الداخل،‭ ‬حيث‭ ‬سأضعها‭ ‬في‭ ‬الرف‭ ‬الكبير‭ ‬الواقع‭ ‬بالجهة‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬مربعة‭ ‬أمي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أباشر‭ ‬القراءة‭ ‬كما‭ ‬يحلو‭ ‬لي‭. ‬

نسيت‭ ‬نفسي‭ ‬وبقيت‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬كاملة‭ ‬أتنقل‭ ‬بين‭ ‬محتويات‭ ‬ذلك‭ ‬العدد‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬الأعداد‭ ‬وأكثرها‭ ‬ثراءً‭ ‬واكتمالًا‭. ‬كان‭ ‬موضوع‭ ‬الكاتب‭ ‬أحمد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭ ‬‮«‬رؤية‭ ‬من‭ ‬لندن،‭ ‬حضارة‭ ‬الغرب‭ ‬وسماحة‭ ‬الإباحة،‭ ‬وكان‭ ‬المفكر‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬في‭ ‬مقالته‭ ‬‮«‬رجع‭ ‬صدى‮»‬‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬افتقار‭ ‬واقعنا‭ ‬إلى‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬يثير‭ ‬قضية‭ ‬فكرية‭ ‬تتحدى‭ ‬العقل‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬الناقد‭ ‬شكري‭ ‬محمد‭ ‬عياد‭ ‬يتساءل‭ ‬‮«‬هل‭ ‬يصير‭ ‬العلم‭ ‬إلى‭ ‬كهنوتية‭ ‬جديدة؟‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يوسف‭ ‬بكار‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إحياء‭ ‬التراث‭ ‬لماذا‭ ‬وكيف؟‮»‬‭ ‬أما‭ ‬سليم‭ ‬الصويص‭ ‬فكانت‭ ‬مقالته‭ ‬عن‭ ‬‮«‬مأساة‭ ‬الإنسان‭ ‬عند‭ ‬ديستوفسكي‮»‬،‭ ‬وكتب
عبد‭ ‬الحليم‭ ‬البشلاوي‭ ‬عن‭ ‬‮«‬مسرح‭ ‬القسوة‮»‬‭ ‬عند‭ ‬جان‭ ‬جينيه‭. ‬وكتب‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬الشامي‭ ‬عن‭ ‬‮«‬التراث‭ ‬اليمني‭ ‬في‭ ‬المتحف‭ ‬البريطاني‮»‬،‭ ‬وكتب‭ ‬محمد‭ ‬عبدالله‭ ‬عنان‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭. ‬كان‭ ‬العدد‭ ‬حافلًا‭ ‬بنصوص‭ ‬شعرية‭ ‬وقصصية‭ ‬عربية‭ ‬ومترجمة‭ ‬ومواضيع‭ ‬طبية‭ ‬وعلمية‭ ‬وتاريخية‭ ‬واجتماعية‭ ‬ممتعة‭.‬

 

مدرسة‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬الفريدة

نبّهني‭ ‬صوت‭ ‬أمي‭ ‬وهي‭ ‬تناديني‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬نسيت‭ ‬نفسي،‭ ‬وأن‭ ‬موعد‭ ‬الغداء‭ ‬قد‭ ‬حان‭. ‬استعَنت‭ ‬بأخي‭ ‬إبراهيم‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬ذلك‭ ‬الكنز‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭. ‬كنت‭ ‬أنقله‭ ‬والدنيا‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تسعني،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬اعتبرت‭ ‬نفسي‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬مريدي‭ ‬مدرسة‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬الفريدة‭. ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬مساحة‭ ‬الكتابة‭ ‬هنا‭ ‬تتسع‭ ‬لتفاصيل‭ ‬ذكرياتي‭ ‬مع‭ ‬قراءاتي‭ ‬لتلك‭ ‬الأعداد،‭ ‬أو‭ ‬ذكرياتي‭ ‬مع‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬خلال‭ ‬سنين‭ ‬طويلة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تتسع‭ ‬حتى‭ ‬لسرد‭ ‬أسماء‭ ‬الكتّاب‭ ‬الذين‭ ‬عرّفتني‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬بهم‭. ‬

ذكرياتي‭ ‬مع‭ ‬العدد‭ ‬رقم‭ (‬295‭) ‬الصادر‭ ‬بتاريخ‭ ‬يونيو‭ ‬1983م‭ ‬تحتاج‭ ‬وحدها‭ ‬إلى‭ ‬مقال‭ ‬كامل،‭ ‬فما‭ ‬زلت‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬أسميه‭ ‬عدد‭ ‬‮«‬بشر‭ ‬الحافي‮»‬‭. ‬أما‭ ‬ذكرياتي‭ ‬مع‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬وأثرها‭ ‬في‭ ‬تفتيح‭ ‬وعيي‭ ‬وتوجيه‭ ‬قراءاتي‭ ‬وإذكائها‭ ‬لدوافع‭ ‬الكتابة‭ ‬عندي‭ ‬فتحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ ‬كامل‭ ‬■‭ ‬