حول «حديث الروح»

حول «حديث الروح»
        

          قرأت بإمعان مقال الدكتور شهاب غانم، المنشور بمجلة العربي الغراء بالعدد (621 - أغسطس 2010) بعنوان «محمد إقبال وأم كلثوم.. بين الشكوى وجوابها»، وهو مقال ممتع أورد فيه الكاتب باختصار نبذة عن حياة الفيلسوف محمد إقبال في صفحة كاملة، تلتها صفحتان عن ترجمة إقبال إلى العربية وعن قصيدتي «شكوى» و«جواب شكوى»، وما انتقته أم كلثوم منهما وشدت به في أغنيتها ذائعة الصيت «حديث الروح».

          وقد ذكر الدكتور شهاب أسماء ثلاثة ممن ترجموا بعضًا من أشعار إقبال من الأردية إلى العربية، وهم: الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري والأستاذ محمد حسن الأعظمي والدكتور عبدالوهاب عزام، وقال الدكتور شهاب في إحدى فقرات مقاله بالنص: «.. والحقيقة أن الأعظمي كان قد ترجم إلى العربية قصيدتي إقبال «شكوى» و«جواب شكوى» (ضمن قصائد أخرى) نظمًا راقيًا. فاختارت أم كلثوم أبياتًا من القصيدتين المذكورتين جعلتها كلمات لأغنيتها التي سمتها: حديث الروح».

          واندهشت أن تذكر قصيدة «حديث الروح» ولا يُذكر اسم العلاّمة الشيخ الصاوي شعلان الذي تنسب إليه وحده صياغتها شعرًا كما غنته أم كلثوم.. وتعجبت ألا يذكر المقال الذي أعدت قراءته أكثر من مرة اسم الشيخ الصاوي شعلان. ولابد أن الدكتور شهاب كاتب المقال لم يخطئ عندما ذكر ثلاثة من أعلام الأدب ممن ترجموا بعض أشعار محمد إقبال، لكن المؤكد أنه فاته أن يشير إلى الشيخ الصاوي شعلان وهو يتحدث عن «حديث الروح».

          وقد كان لكاتب هذه السطور الحظ أن يكون شاهد عيان على ما قام به الشيخ الصاوي شعلان من نظم للقصيدة، ولو أن مرور أكثر من أربعين عامًا قد يجعلني أنسى بعض الأسماء أو تفاصيل الأحداث، إلا أن ما أتذكره جيدًا بطبيعة الحال أنني كنت أعمل في الستينيات مشرفًا بمراقبة شرق إفريقيا بالبرامج الموجهة بالإذاعة المصرية، وفي عام 1966 - على ما أذكر - زارني صديق وزميل دراسة بمكتبي، هو ابن الشيخ الصاوي شعلان وكنا زميلين بكلية الآداب (جامعة عين شمس) وسألني عن إمكانية أن يكون بالبرامج الموجهة أحد أبناء باكستان، لغته الأم هي الأردية لأن والده الشيخ الصاوي شعلان - على الرغم من معرفته الأردية - يود الاستعانة بشخص تكون لغته الأم هي الأردية لشرح ما قد يخفى عليه من معان ودلالات لألفاظ الأردية، لأن السيدة أم كلثوم كانت تود أن تغني شيئًا لإقبال بعد النجاح المذهل لرباعيات الخيام التي ترجمها عن الفارسية الشاعر أحمد رامي.

          كانت البرامج الموجهة التي عملت بها زهاء عشر سنوات تضم عددًا كبيرًا من المذيعين الأجانب من كل الجنسيات، فطلبت من صديق باكستاني من المذيعين اسمه «عبدالباري أنجم» إن كان يمكن له أن يساعد في هذا المجال، فرحب ترحيبًا شديدًا وعرفته بابن الشيخ الصاوي شعلان، وذهبنا في اليوم نفسه (ثلاثتنا) إلى منزل الشيخ الصاوي بتاكسي من مبنى الإذاعة بماسبيرو إلى حي الحلمية بالقرب من ميدان السيدة زينب.

          واستقبلنا العلاّمة الشيخ الصاوي شعلان بترحاب وشكر مقدَّم، وشرح المطلوب من الصديق عبدالباري أنجم، وكانت أول جلسة حضرتها واستمتعت بها، فقد كان عبدالباري أنجم يمسك بالنص الأردي (لغته الأم) ويترجم ما يقرأه نثرًا إلى العربية، فيقوم الشيخ الصاوي شعلان بصياغة الكلام المنثور إلى شعر عبقري، وحضرت هذه الجلسات أكثر من مرة، وفي قليل من الأحيان كان الشاعرالكبير الصاوي شعلان يقوم بتعديل كلمة أو بيت من الشعر ويأخذ في ذلك - تواضعًا - برأي الحاضرين، وكنا أربعة: الشيخ الصاوي وعبدالباري وابن الشيخ الصاوي، وكاتب هذه السطور، وأتذكر بعد أكثر من أربعين عامًا ولادة الكلمات العربية الشاعرية:

          «إذا الإيمان ضاع فلا أمان
                                        ولا دنيا لمن لم يحي دينا
          ومن رضي الحياة بغير دين
                                        فقد جعل الفناء لها قرينا».

          وكان الشيخ الصاوي يستمع، ويقرأ ويكتب بطريقة برايل نظرًا لأنه كان كفيفًا رحمة الله عليه. وكنت سعيدًا بهذه الجلسات التي حضرتها أكثر من مرة مستمعًا ومستمتعًا، فقد كنت منذ صغري أحفظ بعض أشعار الشيخ الصاوي شعلان التي كانت مقررة علينا بالمدارس قبل حركة يوليو 52، وكان لي الحظ أن أرى الشيخ العبقري رأي العين على بساطته وعلمه وزهده وأجلس في حضرته وأتابع بأم عيني عملية تعريب ونظم «حديث الروح»، وبعد أن تم تلحينها شدت أم كلثوم بها، فكانت من أروع القصائد الدينية المغناة، وعرف القاصي والداني أن من صاغها شعرًا هو الشيخ الصاوي شعلان. وبعدها سافرت أنا إلى الكويت للعمل وباعدت الأيام والسنون بين الأصدقاء حتى أنني لا أعلم الآن أين أستدل على ابن الشيخ الصاوي شعلان الذي درس معنا بـ «آداب عين شمس» في الستينيات، ولا أين سارت الدنيا وكيف بالصديق المثقف عبدالباري أنجم؟ وهل عاد إلى باكستان أم لا؟ وربما تكون كلماتي هذه دعوة لهما بعد أكثر من أربعين عامًا للتواصل ويكون الفضل في ذلك بعد الله لـ «العربي».

          ولابد أن كثيرين غيري سيتعجبون ويعتبون على الدكتور شهاب غانم عدم ذكره لاسم الراحل العظيم الشيخ الصاوي شعلان في مقال كان نصفه عن «حديث الروح»، إلا أنها شهادة حق أردت أن أسجلها وفاء لشاعر كبير ملك العبقرية والإرادة والبصيرة بالرغم من قسوة الظروف وفقدان البصر، فلا أقل من أن يُذكر اسمه حين تُذكر «حديث الروح»، فهذا حقه. ولاشك أن هناك آخرين ممن ترجموا بعض أعمال إقبال إلى العربية نثرًا أو حتى نظمًا، أما «حديث الروح» فعلى وجه اليقين تعود صياغتها شعرًا إلى العبقري الراحل الشيخ الصاوي شعلان رحمه الله، الذي فات الدكتور شهاب غانم أن يذكره في مقاله.

محمد حسن أحمد
المعادي - القاهرة