الشاعر العراقي علي العلاق: الشعر فن نوعيّ بامتياز... وسيّد الآداب

أكد الشاعر العراقي الكبير الدكتور علي جعفر العلاق، أن المشهد الأدبي في العراق كان شديد الغنى والتنوع دائمًا وعلى مر التاريخ، حتى في أشد الظروف قتامة، كما الحال الآن، حيث ظل المشهد الأدبي والشعري في العراق يعمل بمعزل عن جبروت الدولة، بل يمكنني القول إن الشعرية العراقية هي بنت التراجيديا، والفرح الشحيح باستمرار.
يعد العلاق أحد كبار الشعراء العراقيين الذين أثروا الشعر العربي بأعمالهم، وناقدًا وأستاذًا جامعيًا، حصل على جائزة العويس للشعر، للعام 2019. ولد في محافظة واسط عام 1945، ونال الدكتوراه من جامعة إكستر في بريطانيا عام 1984. غادر العراق عام 1991، وعمل أستاذًا للأدب والنقد الحديث في جامعة صنعاء، ثم في جامعة الإمارات. وله العديد من الإصدارات في مجال الشعر منذ عام 1973 منها على سبيل المثال، ديوان «لا شيء يحدث…لا أحد يجيء»، و«وطن لطيور الماء»، و«شجر العائلة، بغداد»، و«فاكهة الماضي»، و«أيام آدم»، و«ممالك ضائعة»، و«سيد الوحشتين»، و«هكذا قلت للريح»، مرورًا بـ«عشبة الوهم»، و«ذاهب لاصطياد الندى»، و«نداء البدايات»، و«حتى يفيض الحصى بالكلام»، ثم «وطن يتهجى المطر» وصولًا إلى ديوانه «طائر يتعثر بالضوء 2018م». ومؤخرًا «تفاحة الضوء» مختارات شعرية، وتشتمل على قصائد مختارة من أربع عشرة مجموعة شعرية، وله مجموعة كبيرة من الإصدارات النقدية، بدأها بـ«مملكة الغجر» (1981)، ودماء القصيدة الحديثة (1988)، وصولاً إلى «في مديح النصوص» (2019)، و«المعنى المراوغ» (2020).
شاعر وناقد مبدع
ويميز العلاق لغة شعرية مكثفة عميقة، هادئة، شجية، صافية، غنية بالمفردات والصياغات الجديدة، ومثلما يتألق في دراساته النقدية، فهو شاعر وناقد مبدع متفرد صاحب رسالة، لا يشبه إلا نفسه، شعرًا ونقدًا وإبداعًا، عاش حياته منحازًا إلى الإنسان في كل الأحوال، وقلقًا من بؤسه ومعاناته. وكان هذا الحوار معه:
● لنبدأ بما قاله اليوناني إليتيس بأن الشعر يأتي في أوقات الشدة ليشهد على الأسرار والضوء في آن، هل تعتقد بأن وظيفة الشعر فعلًا هي رؤية الضوء في عتمات الذات والوجود؟
- الشعر أكثر فنون القول اشتباكًا بالذات الإنسانية، وأنا من المؤمنين بأن اقترانه بعذاب النفس وكدرها يفوق، في الغالب، ارتباطه بساعات الصفاء والمرح النادرين، وبذلك فالقصيدة هي ذلك المشعل من الضوء النحيل الذي يضيء ذات المتلقي من دون أن ينسيه حقائق وجوده الصادمة.
● هل يقلقك تراجع الشعر عن حضوره في المشهد؟
- لا أسمّيه تراجعًا، بل تخفف من حمولته النرجسية والإعلان المرضي عن الذات، حالة الشعر اليوم لا تبعث على القلق لكنها محزنة، والفرق بين الحالتين كبير، لا خوف على الشعر مما يجري، لكن ما يشهده الشعر من تناقص مساحة انتشاره أو دوره هو جزء من ظاهرة أوسع تتعلق بإعراض الجمهور عن الثقافة الجادة، وانصرافه إلى الاهتمامات السهلة، والمتع العابرة.
● حدّثنا عن ديوانك قبل الأخير «طائر يتعثر بالضوء» وعن التجربة الإبداعية التي يطرحها هذا الديوان؟
- في هذا الديوان، كما في الكثير من دواويني الأخرى، أواصل التعامل مع القصيدة، تصورًا وممارسة، باعتبارها فنًا، أو طريقة غير عادية للتعبير عن حالات قد تكون عادية. لم يكن ديوان «طائر يتعثر بالضوء» قطيعة مع دواويني السابقة، لكنه كان وليد لحظة من التمازج الجمالي والشكلي في الكتابة الشعرية، أو لحظة جمالية تتشكل على أرض زلقة. بعض القصائد أو النصوص تتوزع على جغرافية فنية متعددة: كان النثر والتفعيلة والبيت العمودي فضاءات لترتيب الأداء الشعري، لكنها فضاءات لم تتنازل عن شرطها الفني ومستواها اللغوي القادر على إنعاش الروح وتحريك الذاكرة.
● في قصائدك عمومًا، وفي «نهرُ الغياب»، «غموض»، «عكاز في الظلام» على سبيل الخصوص، حنين جارف إلى الأماكن الضائعة والمدن المنسية، فهي تبحث عن خارطة وجود جديدة وأزمنة جديدة، هل تفسر لنا ذلك، وهل عثرت عليها، أم ما زلت تبحث عنها؟
- محنة المكان، في قصائدي، تمثل عذابًا يتجدد باستمرار. منذ أكثر من ثلاثين عامًا وأنا أتحرّق ملهوفًا إلى فراديس مفقودة ومدن لا تُنسى. وكأنّ شعرية الكثير من قصائدي تتأسس على هذه الجدلية المرة: ذاتٌ تشهد على عذابها أمام الكون بأقل كلام جميل ممكن، وهي ذات لا تطيق الثرثرة ولا تقوى على النسيان.
● اشتُهرت قصائدك بتميزها باستخدام التشخيص الدرامي واليومي على وجه الخصوص، كما أن الشخصيات يلاحظ استحياؤها من عمق النسيج الاجتماعي. من البلد، لماذا هذا التميز؟
- كل قصيدة مهما كانت قصيرة تشتمل، كما يقول الناقد الأمريكي بروكس، على دراما صغيرة. وقد نوقشت في جامعة الموصل قبل سنوات رسالة دكتوراه كرّست لدراسة الظاهرة الدرامية في شعري. أحاول دائمًا أن تظل قصيدتي قلبية، تحفل بالحركة والقلق والتنامي، وتفتح حواسها جميعًا على ما في الحياة اليومية من فرح أو فجيعة وأحلام عصية على التحقق وعلى الاندثار أيضًا.
حداثة الشاعر
● ما منظورك للحداثة... هل تراها في اللغة أم في الفكر أم في الرؤية ومقوماتها؟
- الحداثة في الإبداع، كما هي في الحياة، لا تؤخذ بالمفرد، لا نختار بعضًا منها دون بعض، مثلما نختار السلع أو البضائع في الأسواق العامة، بل هي كلٌّ ثقافي ونفسي وفكري وسلوكي، يمس اللغة والرؤية والمزاج وطرق الإفصاح والتشكل الفني. قد يلامس الشاعر، أو يستعير أحدث التقنيات الفنية، من دون أن يكون حديثًا. حداثة الشاعر الحقة في روحه وعقله ولغته ونظرته إلى الحياة، وإلا فإنه كائن يتدحرج على السطوح الملساء للحداثة والتغذي على قشورها.
● كيف ترى المشهد الأدبي والثقافي العراقي حاليًا؟
- المشهد الأدبي في العراق كان شديد الغنى والتنوع دائمًا وعلى مر التاريخ. حتى في أشد الظروف قتامة، كما الحال الآن، لكن يظل المشهد الأدبي والشعري في العراق يعمل في معزل عن جبروت الدولة، بل يمكنني القول إن الشعرية العراقية هي بنت التراجيديا، والفرح الشحيح باستمرار، وهي بنت الحياة المشوبة دائمًا بالشجن والفقدان.
هناك جيل شعري جديد يتجه بقوة، لكن من دون انسجام أحيانًا، صوب النثر بمعناه الواسع، سيرة الذات، القصيدة، الرواية، اليوميات. وهناك شعراء يكتبون القصيدة العمودية بروح مختلفة: تحتفي بالصورة وحركة البيت الشعري ولغة المفارقة. لكن هذا المشهد الغزير والمزدحم بالأسماء سيفرز حتمًا شعراءه المهمّين في لحظة شعرية لا يطول انتظارها... أما قصيدة التفعيلة فربما لا يقتحم كتابتها اليوم إلا القليلون جدًا، باستثناء مَن بقي على قيد الكتابة من شعراء الستينيات.
الوعي والموهبة
● إلى أي مدى انعكس التغيير السياسي مؤخرًا على الشعر في العراق؟
- لا تنعكس التحولات السياسية في بيئة ما على الشعراء أو أعمالهم الشعرية بالطريقة ذاتها، وفي كل العصور، يعتمد ذلك إلى حد كبير على المبدع نفسه، وبما أن الشعراء يتفاوتون في الوعي والموهبة وفي النظر إلى الراهن وتحولاته، فإنهم لا يكونون تكرارًا لبعضهم بعضًا، وهكذا تنعكس التغيرات السياسية بطرق شتى، وبزوايا نظر فنية وثقافية مختلفة.
● وأين يقع العراق ضمن مصادر إلهامك الشعري؟
- كان العراق بالنسبة لي المنبع الأول للخليقة، وانبثاق أساطيرها الكبرى، وهو اليوم بلاد تنهار على رؤوس أبنائها دفعة واحدة، وبين هذين القوسين الكبيرين تختلط محنة الذات الفردية وشتاتها اليومي بمحنة البلاد وتشظيها الذي لا يتوقف، وكأن العراق، كما قلت في إحدى قصائدي، حلم لا يغيب ولا يتعافى... وقد زوّدتني أساطيره الرافدينية بخزين لا ينفد من السرديات التراجيدية للتعبير عن هذا الانهيار المريع.
● هل لا يزال للشعر دور في عالم مسكون بالتوحش؟
- قد لا يشغل الشعر الآن المساحة نفسها التي كانت له فيما مضى، ورغم أن مساحته تزداد ضيقًا في كل لحظة، لكن دوره اليوم أشد عمقًا، كما أرى، كأنه تخلى عن امتداده الأفقي لصالح تغلغله عموديًا في الأعماق. ويظل للقصيدة هذا الدور كلما تكسرت النهارات وتصادمت الأحلام وتعاظمت الخسارات واتسعت مساحة الوهم.
الشعر سيد الأنواع الأدبية
● هل تحن إلى تلك الأزمنة عندما كان الشعر فيها سيد الأنواع الأدبية، وكان الشاعر محاطًا بهالة من الأضواء؟
- رغم أن الشعر يمر بحالة واضحة من الضنك في النشر والتلقي، فإنه يظل فنًا نوعيًا بامتياز، إنه سيد الأنواع الأدبية حقًا، فلا فن سواه يؤسس مجده الحقيقي في اللغة ومن خلالها يعيد لها براءتها الأولى وتوحشها البكر، ويرتقي بها ومعها لتكون جزءًا من فتنته وسحره، لا خادمة لأغراضه.
● هل تعتقد بعدما مضت عقود من الزمن على كتابة قصيدة النثر، في العراق خاصة والوطن العربي عامة، أنها أثبتت وجودها وأصبحت بديلًا عن القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة، كما أن كتاب هذا النموذج الشعري الحديث منذ الستينيات حتى اليوم يعتبرون في طليعة الشعراء العرب، فثمة أنسي الحاج والماغوط وحسين مردان وشعراء جماعة كركوك وآخرون؟
- أخشى أن أسئلة كهذه،لا تقع تمامًا في دائرة الفعل الحقيقي لقصيدة النثر، ممثلة في نماذجها المتقدمة عبر مراحلها جميعًا. وليس في العودة إلى بدايات الأشكال الشعرية، قصيدة النثر أو قصيدة التفعيلة منفعة ترجى. إن في الفضاء الشعري متسعًا لهذا التنوع الشعري كله، وللتفاعل الحي بين مختلف أشكاله وتقنياته.
سحر الموهبة
● متى تكون الهجرة إلى الرواية من الشعراء هجرة ملحّة وليست بحثًا عن الأضواء والاهتمام؟
- حين يكون الشاعر صاحب موهبة سردية، عارفًا بلعبة الرواية، وتصريف الأحداث، والتحكم بحركة الشخوص، والوصول بها إلى مآلات فنية وإنسانية بارعة. ولا بد له في النهاية من قدرة لافتة على صهر تلك المكونات جميعًا في عمل روائي متجانس، وشديد التماسك والحيوية.
وبخلاف ذلك، فإن هذا التحول، أو الانتقال من القصيدة إلى الرواية لا يعدو كونه سباحة على سطوح الأشياء، أو مجاراة خارجية لمهارات لا جذر لها في وعي الكاتب أو إحساسه، كما أن العمل الروائي الذي ينتج عن ذلك سيكون بالضرورة مفتقرًا إلى سحر الموهبة الخلاقة، وغير قادر على التقاط الداخل الإنساني المحتشد بالأهواء والتوتر، وإعادة بنائه ضمن عمارة سردية مؤثرة.
● لك موقع إلكتروني على شبكة الإنترنت، فكيف أسهم الإنترنت في إيصال الشعر وتداوله بسرعة كبيرة؟ وهل أنت مع أن يسوق الشاعر إبداعه وإنتاجه عبر الإنترنت؟
- يمكن أن يسهم الإنترنت، كوسيط شديد التأثير، في تقريب جانبي الفجوة بين المتلقي والأعمال الشعرية، لكن هذه الإمكانية تظل أحيانًا مجرد افتراض لا يجد طريقه إلى قارئ جاد وذائقة مدربة.
● السلطة، المبدع والمثقف... علاقة تلاقٍ أم تضاد؟ والأمثلة كثيرة من الذاكرة الإبداعية العربية... هل من الضروري للفنان أن يعارض الأنظمة؟ أم إن الإبداع عندنا ارتبط بالمعارضة والمقاومة؟
- أعتقد أن ثمة خندقًا أزليًا يمتد بين السلطة وأعدائها التاريخيين، أعني صنّاع الشعر والجمال والفكر، هناك قوتان تعملان في اتجاهين متضادين، السلطة ترتكز في بقائها على جهل الناس، وانحطاط ذائقتهم، وذبول إحساسهم بالكرامة، بينما الإبداع يبني شعبًا حالمًا، وشديد الإحساس بكرامته، وحقه في الحياة. وهكذا، فالمبدع الحقيقي يقف دائمًا في مواجهة ضدية مع السلطة ومنظومتها الرمزية.
عيشة الاضطرار
● هل تظل هذه الثنائية سارية بغض النظر عن سطوة المكان أو الزمان؟
- أبدًا، فهذا القانون يتعرض للانتهاك باستمرار، خاصة في مجتمعاتنا العربية والشرقية. في الكثير من بلداننا المغلوبة على أمرها يعيش المبدع والمثقف عيشة الاضطرار، من عمله موظفًا لدى الدولة، حتى تتحول الوظيفة كل يوم إلى حالة من الإدمان، تفقده بعضًا من نضارة روحه ونزوعه إلى التمرد أو الحرية.
● ما الذي لم تقدمه إلى الآن وتسعى إلى تقديمه... أعمالًا لم تطبع، شعرًا، ونقدًا؟
- رضا الشاعر عن منجزه الشعري مطمح بعيد المنال وغاية لا تدرك، وهو إحساس معافى، لأن تحقق هذا الرضا هو حراثة في البحر، وبذلك فإن كل قصيدة جديدة، وكل ديوان جديد، هما إطلالة على بقية الطريق، أو ما ظلّ من ماء يفصل بين الشاعر والضفة الأخرى للكلام.
● ماذا عن تأثير الجوائز في إثراء تجربة الشاعر وتطويرها؟
- الجائزة ليست مرْتبة شعرية تتحقق للحاصل عليها وتنتفي عمن لم ينلها من الشعراء، فالكثير من الشعراء المرموقين في العالم لم يحصلوا على جائزة نوبل مثل بورخيس، ريلكه، إزرا باوند، جيمس جويس، تيد هيوز، بينما نالها شعراء أقل شأنًا منهم ربما. ومع ذلك، يمثل الحصول على الجائزة قيمة معنوية كبرى، فهي اعتراف لا يرقى إليه الشك بصواب اجتهاداته اللغوية والتخيلية على مدار عمر شعري بأكمله أحيانًا ■