البيان العربي - الإسلامي خصائصه والعوامل المؤثرة فيه

 البيان العربي - الإسلامي خصائصه والعوامل المؤثرة فيه

البيان‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬صدر‭ ‬عن‭ ‬الأعراب‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬شعري‭ ‬ونثري‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬وفي‭ ‬عصر‭ ‬الدعوة‭ ‬وصدر‭ ‬الإسلام،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬التالية‭ ‬حينما‭ ‬استقر‭ ‬المسلمون‭ ‬في‭ ‬الأمصار‭ ‬الجديدة،‭ ‬وقد‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬الأدبي‭ ‬بجميع‭ ‬أجناسه‭ ‬الشعرية‭ ‬والنثرية‭ ‬أفراد‭ ‬الأمم‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬الإسلام‭ ‬وتعلمت‭ ‬لغة‭ ‬العرب‭ ‬وحفظت‭ ‬أشعارهم‭ ‬وأمثالهم‭ ‬وأقوالهم‭ ‬المأثورة،‭ ‬واستوعبت‭ ‬معاني‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تبلى‭ ‬معانيه‭ ‬ولا‭ ‬ينضب‭ ‬معينه‭ ‬الفياض‭ ‬بالهدى‭ ‬واليقين،‭ ‬وكذا‭ ‬أحاديث‭ ‬رسول‭ ‬الهدى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬الذي‭ ‬أعدَه‭ ‬الله‭ ‬إعدادًا‭ ‬كاملًا‭ ‬ليواجه‭ ‬قومًا‭ ‬لدًا‭ ‬كانوا‭ ‬يصبحون‭ ‬ويمسون‭ ‬على‭ ‬الكلام‭ ‬البليغ‭ ‬الفصيح‭.‬

هذا‭ ‬البيان‭ ‬تغذّى‭ ‬من‭ ‬بيئة‭ ‬الأعراب‭ ‬ومن‭ ‬الكتاب‭ ‬المحكم‭ ‬وأحاديث‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬نطق‭ ‬بالضاد،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬صدر‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬تلك‭ ‬الأمم‭ ‬بلسان‭ ‬عربي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬الذي‭ ‬عمّ‭ ‬الكون‭ ‬بلغة‭ ‬عربية‭ ‬فصيحة‭ ‬بليغة‭ ‬وصور‭ ‬فنية‭ ‬بديعة‭ ‬تحمل‭ ‬نفحات‭ ‬القرآن‭ ‬العظيم‭ ‬والهدي‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف‭ ‬اللذين‭ ‬قادا‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬السعادة‭ ‬والاطمئنان‭ ‬الروحي‭ ‬والنفسي،‭ ‬ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬تجد‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬في‭ ‬مناهجهم‭ ‬الدراسية‭ ‬شعر‭ ‬الجاهليين‭ ‬وأمثالهم‭ ‬وحكمهم،‭ ‬والبيان‭ ‬القرآني‭ ‬والنبوي،‭ ‬فأصبح‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المجتمعات‭ ‬مجرى‭ ‬الدم‭ ‬في‭ ‬العروق،‭ ‬فازدادت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وبيانها‭ ‬مع‭ ‬الأيام‭ ‬صمودًا‭ ‬وثباتًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قارة‭ ‬أقام‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬يتقن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وآدابها؛‭ ‬وإذا‭ ‬استعرض‭ ‬الباحث‭ ‬أدب‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العصور‭ ‬التاريخية‭ ‬يجد‭ ‬خصبًا‭ ‬في‭ ‬العطاء‭ ‬ووفرة‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬سمّوه‭ ‬عصر‭ ‬الانحطاط،‭ ‬فقد‭ ‬ظهر‭ ‬فيه‭ ‬شعراء‭ ‬بارزون‭ ‬وكتاب‭ ‬ومبدعون‭ ‬ملكوا‭ ‬ناصية‭ ‬البيان‭ ‬فأبدعوا‭ ‬أدبًا‭ ‬رفيع‭ ‬المستوى،‭ ‬احتوى‭ ‬على‭ ‬معان‭ ‬طريفة‭ ‬وصور‭ ‬بديعة‭ ‬وحكم‭ ‬بالغة‭ ‬الدلالة‭ ‬مثلما‭ ‬أبدع‭ ‬شعراء‭ ‬وكتاب‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الذهبية‭.‬

 

ظروف‭ ‬نشأة‭ ‬البيان‭ ‬العربي

إن‭ ‬الدارس‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬جوهر‭ ‬البيان‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يطلع‭ ‬على‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬فيها‭ ‬والتطور‭ ‬الذي‭ ‬مرّ‭ ‬به‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬حتى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬إنها‭ ‬مرحلة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬والتأثير‭ ‬والتأثر‭ ‬بالبيئة‭ ‬والثقافات‭ ‬الدخيلة‭ ‬على‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬والصراعات‭ ‬السياسية‭ ‬وما‭ ‬عرفته‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬في‭ ‬العمران‭ ‬وتقدم‭ ‬في‭ ‬العلوم،‭ ‬عوامل‭ ‬كثيرة‭ ‬تداخلت‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬لتعطي‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬عليها‭ ‬البيان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬لأن‭ ‬البيان‭ ‬يصدر‭ ‬من‭ ‬الكائن‭ ‬البشري‭ ‬الذي‭ ‬يتفاعل‭ ‬مع‭ ‬بيئته‭ ‬الطبيعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والفكرية،‭  ‬فالدارس‭ ‬حين‭ ‬يقرأ‭ ‬شعر‭ ‬زهير‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سلمى‭ ‬الشاعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬يجد‭ ‬فلسفة‭ ‬وحكم‭ ‬الإنسان‭ ‬الجاهلي‭ ‬الذي‭ ‬كره‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تجني‭ ‬منها‭ ‬القبيلة‭ ‬إلا‭ ‬الخراب‭ ‬والقتل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينجو‭ ‬منه‭ ‬الصغير‭ ‬والكبير،‭ ‬فيدرك‭ ‬أن‭ ‬السلم‭ ‬محبّب‭ ‬للنفوس،‭ ‬وأن‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬أسمى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬الصراع‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ماديات‭ ‬مهما‭ ‬بلغت‭ ‬قيمتها،‭ ‬لذلك‭ ‬تجدنا‭ ‬نردّد‭ ‬شعره‭ ‬بإعجاب‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الازدهار‭ ‬الحضاري‭ ‬والتقني‭.‬

 

البيان‭ ‬العربي‭ ‬الجاهلي‭: ‬امتداد‭ ‬وتأثير‭ ‬

‭ ‬إذا‭ ‬وقف‭ ‬الدارس‭ ‬على‭ ‬مضامين‭ ‬البيان‭ ‬عند‭ ‬الشعراء‭ ‬والخطباء‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬وأدركوا‭ ‬الإسلام‭ ‬فإنه‭ ‬يجد‭ ‬أثر‭ ‬البيان‭ ‬الجاهلي‭ ‬قويًا‭ ‬في‭ ‬إنتاجهم‭ ‬الأدبي،‭ ‬فهذا‭ ‬الشاعر‭ ‬الحطيئة‭ ‬الذي‭ ‬خبر‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الجاهلي‭ ‬والإسلامي‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬جزالة‭ ‬في‭ ‬الألفاظ،‭ ‬وقوة‭ ‬في‭ ‬المعاني،‭ ‬وجمالًا‭ ‬في‭ ‬التصوير،‭ ‬وتقلبًا‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬والرؤى‭ ‬مثلما‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الجاهليين،‭ ‬فتراه‭ ‬يمدح‭ ‬أجود‭ ‬المدح‭ ‬إذا‭ ‬أغدق‭ ‬عليه‭ ‬الممدوح‭ ‬المال‭ ‬الغزير،‭ ‬ويهجو‭ ‬مرّ‭ ‬الهجاء‭ ‬إذا‭ ‬حرم‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬لأن‭ ‬الزمان‭ ‬كان‭ ‬أشد‭ ‬قسوة‭ ‬عليه،‭ ‬فالفضائل‭ ‬عنده‭ ‬تقاس‭ ‬بالغنى‭ ‬واليسر،‭ ‬ولم‭ ‬يسلك‭ ‬هذا‭ ‬المسلك‭ ‬إلا‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬نهمًا‭ ‬ومضطرب‭ ‬النفس‭ ‬لا‭ ‬يستقر‭ ‬على‭ ‬حال،‭ ‬فصورة‭ ‬البيان‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬الدارس‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬شاعر‭ ‬آخر‭ ‬ولو‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬زمانه‭ ‬وبيئته‭ ‬نتيجة‭ ‬قناعة‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهما‭ ‬بمثل‭ ‬وأخلاق‭ ‬وسلوك‭ ‬معين،‭ ‬وإذا‭ ‬اختلف‭ ‬الشاعران‭ ‬في‭ ‬تصورهما‭ ‬للحياة‭ ‬فقد‭ ‬يتفقان‭ ‬في‭ ‬جودة‭ ‬الإبداع‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬جزالة‭ ‬اللغة‭ ‬وسلامة‭ ‬المعاني‭ ‬وحسن‭ ‬التصوير‭ ‬لأن‭ ‬البيان‭ ‬الأصيل‭ ‬الذي‭ ‬تعلموه‭ ‬من‭ ‬بيئتهم‭ ‬متجذر‭ ‬في‭ ‬عقولهم‭ ‬ووجدانهم،‭ ‬فخصائص‭ ‬البيان‭ ‬الجيد‭ ‬تجعلك‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬ألوان‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬الأمزجة‭ ‬والعقليات‭ ‬عند‭ ‬الشعراء‭ ‬والأدباء‭ ‬والمفكرين‭ ‬ولو‭ ‬جمعهم‭ ‬عصر‭ ‬ومكان‭ ‬واحد‭ ‬لأن‭ ‬الأدب‭ ‬يصدر‭ ‬من‭ ‬كائن‭ ‬حيّ‭ ‬يتفاعل‭ ‬مع‭ ‬بيئته‭ ‬وثقافة‭ ‬عصره‭ ‬ونظرته‭ ‬للوجود‭.‬

إن‭ ‬البيان‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬الذي‭ ‬نشأت‭ ‬بذرته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬صحراوية‭ ‬لا‭ ‬تجود‭ ‬على‭ ‬أصحابها‭ ‬بمقومات‭ ‬الحياة‭ ‬إلا‭ ‬بالنزر‭ ‬اليسير‭ ‬من‭ ‬عشب‭ ‬وماء‭ ‬وخضرة‭ ‬وطعام،‭ ‬ولم‭ ‬ينعم‭ ‬فيها‭ ‬الإنسان‭ ‬بالأمن‭ ‬والاستقرار،‭ ‬ولم‭ ‬تسعفه‭ ‬بالمقومات‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬الحضارة‭ ‬بالبنيان‭ ‬والتعمير،‭ ‬لكنه‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬ظل‭ ‬يسعى‭ ‬لتخليد‭ ‬نفسه‭ ‬وتقاليد‭ ‬وأعراف‭ ‬مجتمعه‭ ‬بالكلمة‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬على‭ ‬لسانه‭ ‬كشلال‭ ‬عذب‭ ‬الماء،‭ ‬غزير‭ ‬العطاء،‭ ‬مليء‭ ‬بالحكم‭ ‬والتجارب‭ ‬التي‭ ‬استقاها‭ ‬من‭ ‬مجتمعه،‭ ‬فكانت‭ ‬تلك‭ ‬الكلمات‭ ‬معبّرة‭ ‬بصدق‭ ‬عن‭ ‬واقعه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬صور‭ ‬وأبدع‭ ‬لتريح‭ ‬أذنه‭ ‬التي‭ ‬تعشق‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬وتطمئن‭ ‬قلبه‭ ‬التواق‭ ‬للجمال،‭ ‬وتعينه‭ ‬للتغلب‭ ‬على‭ ‬مصاعب‭ ‬حياته‭ ‬الشاقة‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬قست‭ ‬عليه‭. ‬وسيزداد‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬تألقًا‭ ‬وبهاء‭ ‬حينما‭ ‬خاطب‭ ‬الله‭ ‬العرب‭ ‬بلغتهم‭ ‬وأسلوبهم‭ ‬وصورهم‭ ‬البيانية،‭ ‬فرأوا‭ ‬بيانًا‭ ‬أسمى‭ ‬من‭ ‬بيانهم‭ ‬ولغة‭ ‬أجزل‭ ‬من‭ ‬لغتهم‭ ‬ومعاني‭ ‬محكمة‭ ‬فاقت‭ ‬ما‭ ‬بلغوا‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬تجارب‭ ‬طويلة،‭ ‬وأخبارًا‭ ‬موثَقة‭ ‬ومواعظ‭ ‬بالغة‭ ‬الدلالة‭ ‬في‭ ‬الهدي‭ ‬والإرشاد‭ ‬والتنوير،‭ ‬لقد‭ ‬عرفوا‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يسيرون‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬مظلم،‭ ‬ثم‭ ‬اكتسى‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬حلة‭ ‬بديعة‭ ‬من‭ ‬بيان‭ ‬المصطفى‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬ينطق‭ ‬العرب‭ ‬بمثل‭ ‬منطقه‭ ‬وبيانه‭ ‬فصاحة‭ ‬وبلاغة‭ ‬وسموًا‭ ‬في‭ ‬الهدي‭ ‬والرشد،‭ ‬ذا‭ ‬التكامل‭ ‬الذي‭ ‬ازدان‭ ‬به‭ ‬البيان‭ ‬العربي‭ ‬ليجمع‭ ‬بين‭ ‬إبداعات‭ ‬الأعراب‭ ‬والكلام‭ ‬المعجز‭ ‬وأقوال‭ ‬من‭ ‬أوتي‭ ‬جوامع‭ ‬الكلم‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬الأعوام‭ ‬والدهور‭ ‬أن‭ ‬تطفئ‭ ‬بريقه،‭ ‬بل‭ ‬ازداد‭ ‬توهجًا‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬الأيام،‭ ‬وتفرعت‭ ‬أغصانه،‭ ‬ونضجت‭ ‬ثماره‭ ‬لتصير‭ ‬حلوة‭ ‬عذبة‭ ‬رائقة‭ ‬الجمال‭ ‬والبهاء،‭ ‬مخضرة‭ ‬على‭ ‬الدوام‭.‬

والدارس‭ ‬لهذا‭ ‬البيان‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬العصور‭ ‬ينهل‭ ‬عصارات‭ ‬من‭ ‬بيئات‭ ‬متعددة‭ ‬وعقليات‭ ‬متنوعة‭ ‬وثقافات‭ ‬مختلفة،‭ ‬فيجد‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتطلع‭ ‬إليه‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬كرم‭ ‬وشجاعة‭ ‬وإقدام‭ ‬وحلم،‭ ‬وما‭ ‬دعاهم‭ ‬إليه‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬تسامح‭ ‬ونبل‭ ‬وأخلاق‭ ‬وهدي‭ ‬وإرشاد،‭ ‬ويرى‭ ‬بين‭ ‬ثناياه‭ ‬ثقافات‭ ‬الأمم‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬الإسلام‭ ‬بعد‭ ‬الفتوحات‭ ‬الكبرى،‭ ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬فكر‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬والمنطق‭  ‬والطب‭ ‬والهندسة‭ ‬والسياسة‭ ‬والاقتصاد‭.‬

ولكي‭ ‬تتضح‭ ‬لنا‭ ‬صورة‭ ‬البيان‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬أتم‭ ‬كماله‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬مرحلة‭ ‬نشأته‭ ‬وتطوره‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬والعوامل‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬فيه‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحديث‭ ‬بواسطة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬ستظل‭ ‬محفوظة‭ ‬بفضل‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬وجهود‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬الناطقين‭ ‬بها‭ .‬

 

خصائص‭ ‬البيان‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي

هذا‭ ‬البيان‭ ‬أنتجه‭ ‬عرب‭ ‬الجاهلية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أبدعوا‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬وخُطب‭ ‬وحكم‭ ‬وأمثال‭ ‬وأقوال‭ ‬مأثورة‭ ‬بلغة‭ ‬عربية‭ ‬سليمة‭ ‬في‭ ‬تراكيبها‭ ‬ودلالتها‭ ‬ونحوها‭ ‬وصرفها‭ ‬وأوزانها،‭ ‬إنه‭ ‬إنتاج‭ ‬أدبي‭ ‬وفكري‭ ‬عبّروا‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬أحوالهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والنفسية،‭ ‬ووصفوا‭ ‬فيه‭ ‬طبيعتهم‭ ‬الصحراوية‭ ‬بوحشتها‭ ‬وأنسها‭ ‬وواحاتها‭ ‬وحيواناتها‭ ‬الأنيسة‭ ‬والضارية،‭ ‬فجاء‭ ‬كل‭ ‬ذاك‭ ‬الإنتاج‭ ‬معبِّرا‭ ‬بعفوية‭ ‬وصدق‭ ‬عما‭ ‬عانوا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البيئة‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬الطبيعة‭ ‬وظلم‭ ‬الأقوياء‭ ‬للمستضعفين،‭ ‬جاء‭ ‬بصور‭ ‬بديعة‭ ‬وعواطف‭ ‬جيّاشة‭ ‬بالحب‭ ‬والألم‭ ‬والحرمان‭ ‬انبعثت‭ ‬من‭ ‬نفوس‭ ‬مكلومة‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬العيش‭ ‬الرغيد‭ ‬والأمن‭ ‬والأمان‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬حرمته‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يسعده‭ ‬إلا‭ ‬ظلم‭ ‬الظلمة‭ ‬واعتداءات‭ ‬المعتدين؛‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬نما‭ ‬البيان‭ ‬العربي‭ ‬عند‭ ‬الإنسان‭ ‬الجاهلي،‭ ‬وتفرعت‭ ‬أغصانه‭ ‬لتعطي‭ ‬ثمارًا‭ ‬ناضجة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جنس‭ ‬من‭ ‬أجناس‭ ‬القول‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬لاسيما‭ ‬الشعر‭ ‬والرجز‭ ‬والخطابة‭ ‬والأمثال‭.‬

إن‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬صيغ‭ ‬بها‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬وهي‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭ ‬بلغت‭ ‬مبلغًا‭ ‬عظيمًا‭ ‬في‭ ‬مستوياتها‭ ‬الدلالية‭ ‬والتركيبية‭ ‬والصرفية،‭ ‬وهذا‭ ‬يدل‭ ‬دلالة‭ ‬قوية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬قطعت‭ ‬أشواطًا‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬تطورها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬لغة‭ ‬الشعر‭ ‬والخطابة‭ ‬لأن‭ ‬ظهورها‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬الأدبي‭ ‬بهذا‭ ‬النضج‭ ‬والكمال‭ ‬لدليل‭ ‬قوي‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬عرفت‭ ‬أطوارًا‭ ‬متعددة‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬الاستواء‭ ‬ليعبر‭ ‬بها‭ ‬الشعراء‭ ‬والخطباء‭ ‬عن‭ ‬أغراض‭ ‬متنوعة،‭ ‬ولتكون‭ ‬لغة‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬القبائل‭ ‬والقرى‭ ‬العربية‭ ‬الممتدة‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬العرب،‭ ‬ولتصبح‭ ‬لغة‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬الوفود‭ ‬تأتي‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جهة‭ ‬لتستمع‭ ‬إلى‭ ‬الشعراء‭ ‬والخطباء‭ ‬وهم‭ ‬يلقون‭ ‬إنتاجهم‭ ‬الشعري‭ ‬والنثري‭ ‬بعربية‭ ‬سليمة‭ ‬في‭ ‬ألفاظها‭ ‬وتراكيبها‭ ‬ومعانيها،‭ ‬وليختاروا‭ ‬ما‭ ‬بلغ‭ ‬منها‭ ‬جودة‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬البيان‭ ‬فتعلق‭ ‬على‭ ‬أستار‭ ‬الكعبة‭ ‬لتكون‭ ‬نموذجًا‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬بيانًا‭ ‬ساميًا‭.‬

 

أغراض‭ ‬ودلالات‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬

إن‭ ‬الأغراض‭ ‬التي‭ ‬تناولها‭ ‬الشعراء‭ ‬والخطباء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬كانت‭ ‬متعددة‭ ‬المضامين،‭ ‬عميقة‭ ‬المعاني،‭ ‬مليئة‭ ‬بالتصوير‭ ‬الفني‭ ‬البديع،‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬مجتمعهم‭ ‬ومعبرة‭ ‬عن‭ ‬مشاعرهم‭ ‬وأحاسيسهم،‭ ‬لقد‭ ‬تغنوا‭ ‬في‭ ‬شعرهم‭ ‬بالحب‭ ‬والوفاء‭ ‬والشجاعة‭ ‬والإقدام‭ ‬والبذل‭ ‬والجود‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الشدة‭ ‬وقلة‭ ‬الطعام‭ ‬وانعدام‭ ‬الأمن،‭ ‬ووصفوا‭ ‬رحلاتهم‭ ‬ولقاءاتهم‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬النجعة،‭ ‬وما‭ ‬خلف‭ ‬الفراق‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬على‭ ‬نفسيتهم‭. ‬أما‭ ‬الخطباء‭ ‬فكانت‭ ‬أغراض‭ ‬خطبهم‭ ‬تتلون‭ ‬بالمعاني‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬داعية‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬السلم‭ ‬والحرب،‭ ‬وفي‭ ‬الدعوة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬القبيلة‭ ‬وحمايتها‭ ‬من‭ ‬المعتدين‭. ‬يكاد‭ ‬الشعراء‭ ‬والخطباء‭ ‬يلتقون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأغراض‭ ‬لأنها‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬مجتمعهم،‭ ‬فإذا‭ ‬وصفوا‭ ‬أثر‭ ‬الحرب‭ ‬ومخلفاتها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة‭ ‬تجدهم‭ ‬يجتمعون‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬واحدة،‭ ‬وهي‭ ‬بشاعتها‭ ‬وأثرها‭ ‬القبيح‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة‭ ‬والتركيبة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬قال‭ ‬زهير‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سلمى‭ :‬

فتنتجُ‭ ‬لكم‭ ‬غُلمانَ‭ ‬أشأمَ‭ ‬كلّهم‭ ‬

كأحمِر‭ ‬عادٍ‭ ‬ثم‭ ‬تُرضع‭ ‬فتَفْطم‭ ‬

 

شبه‭ ‬الشاعر‭ ‬الحرب‭ ‬بالناقة‭ ‬التي‭ ‬ينزوي‭ ‬عليها‭ ‬الفحل‭ ‬ثم‭ ‬تضع،‭ ‬لكنها‭ ‬تلد‭ ‬لهم‭ ‬مولودًا‭ ‬أشأم‭ ‬ينشأ‭ ‬على‭ ‬العداوة‭ ‬والقتل‭ ‬والفجور،‭ ‬وبذلك‭ ‬لا‭ ‬يسلم‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬مأساة‭ ‬الحرب‭ ‬ومخلفاتها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة‭.‬

واذا‭ ‬وصف‭ ‬الشاعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬الفارس‭ ‬الذي‭ ‬يحمي‭ ‬قبيلته‭ ‬من‭ ‬المعتدين‭ ‬فإنه‭ ‬يصفه‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬الأخنس‭ ‬بن‭ ‬شهاب‭ ‬التغلبي‭:‬

هم‭ ‬يضربون‭ ‬الكِبشَ‭ ‬يبرقُ‭ ‬بيضهُ

‭ ‬على‭ ‬وجههِ‭ ‬من‭ ‬الدماءِ‭ ‬سبائبُ

 

فالفارس‭ ‬منهم‭ ‬لا‭ ‬يصارع‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬إلا‭ ‬فارسًا‭ ‬مثله‭ ‬لكنه‭ ‬يكون‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬صرعه‭ ‬بضربة‭ ‬قاضية‭ ‬تترك‭ ‬الدماء‭ ‬تسيل‭ ‬منه‭ ‬بغزارة؛‭ ‬فهذا‭ ‬التصوير‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬أوضاعهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أيضًا‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬دائمة،‭ ‬لذلك‭ ‬كانوا‭ ‬يفتخرون‭ ‬بفرسانهم‭ ‬الذين‭ ‬يحمون‭ ‬القبيلة‭ ‬ليعيش‭ ‬أفرادها‭ ‬في‭ ‬عزّ‭ ‬ومنعة‭ ‬وأمن‭.‬

وفي‭ ‬بيئتهم‭ ‬التي‭ ‬عانوا‭ ‬فيها‭ ‬الفقر‭ ‬والحاجة‭ ‬وقسوة‭ ‬الطبيعة‭ ‬تغنوا‭ ‬بالجود‭ ‬أجمل‭ ‬غناء‭ ‬ومدحوا‭ ‬الكرام‭ ‬من‭ ‬القوم‭ ‬بأسمى‭ ‬الصفات‭ ‬التي‭ ‬تليق‭ ‬بأمثال‭ ‬هؤلاء‭ ‬الناس،‭ ‬فهذا‭ ‬زهير‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سلمى‭ ‬يمدح‭ ‬رجلًا‭ ‬جوادًا‭ ‬فاضلًا،‭ ‬أطعم‭ ‬الجياع‭ ‬وأوقف‭ ‬الحروب‭ ‬بأمواله‭ ‬التي‭ ‬بذلها‭ ‬بسخاء‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الشدة‭ ‬والعسر،‭ ‬فقال‭: ‬

قد‭ ‬جعل‭ ‬المبتغون‭ ‬الخيرَ‭ ‬في‭ ‬هرمٍ‭ ‬

والسائلونَ‭ ‬إلى‭ ‬أبوابهِ‭ ‬طُرُقا‭ ‬

من‭ ‬يلقَ‭ ‬يومًا‭ ‬على‭ ‬عِلاَّتهِ‭ ‬هَرمًا‭ 

يلقَ‭ ‬السماحةَ‭ ‬منه‭ ‬والندى‭ ‬خُلُقا

 

تصوير‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الجمال‭ ‬والروعة‭ ‬البيانية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬التضامن‭ ‬والجود‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الشدة‭ ‬خاصة،‭ ‬فهذا‭ ‬الرجل‭ ‬وهو‭ ‬هرم‭ ‬بن‭ ‬سنان‭ ‬يقصده‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬له‭ ‬حاجة،‭ ‬فترى‭ ‬أمام‭ ‬بابه‭ ‬صفوفًا‭ ‬طويلة‭ ‬لتسلم‭ ‬الأعطيات‭ ‬التي‭ ‬يأخذونها‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الجواد‭ ‬الكريم،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يجدوا‭ ‬مالًا‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬اليوم‭ ‬فهم‭ ‬يجدون‭ ‬السماحة‭ ‬والخلق‭ ‬النبيل‭ ‬عنده،‭ ‬كأنه‭ ‬يعوض‭ ‬زواره‭ ‬بهذه‭ ‬السماحة‭ ‬ويعتذر‭ ‬لهم‭ ‬عما‭ ‬فقدوه‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬يومهم‭ ‬ذاك‭. ‬وزهير‭ ‬حينما‭ ‬يصف‭ ‬هذا‭ ‬الجواد‭ ‬بوصف‭ ‬البذل‭ ‬والطلاقة‭ ‬والخلق‭ ‬الذي‭ ‬يستقبل‭ ‬به‭ ‬زواره‭ ‬فإنه‭ ‬يدعو‭ ‬أفراد‭ ‬مجتمعه‭ ‬الميسورين‭ ‬للاقتداء‭ ‬بفعل‭ ‬هذا‭ ‬الكريم‭ ‬الجواد‭ ‬لكي‭ ‬يخففوا‭ ‬عن‭ ‬الجياع‭ ‬والمستضعفين‭ ‬آلامهم‭ ‬وحرمانهم،‭ ‬ويجعلوا‭ ‬التكافل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ظاهرة‭ ‬مميزة‭ ‬في‭ ‬مجتمعهم‭. ‬

إن‭ ‬البيان‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الجاهلي‭ ‬كان‭ ‬يصور‭ ‬كل‭ ‬كبيرة‭ ‬وصغيرة‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬كالهواء‭ ‬والماء‭ ‬
لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنه،‭ ‬به‭ ‬كان‭ ‬الجاهلي‭ ‬يشكو‭ ‬همومه‭ ‬وصروف‭ ‬الدهر‭ ‬ليخفف‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬قسوة‭ ‬البيئة‭ ‬وشدتها،‭ ‬فترى‭ ‬أحزانه‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬وتسمع‭ ‬أنينه‭ ‬بين‭ ‬أبياته‭ ‬وتشعر‭ ‬بثقل‭ ‬الزمان‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬الفصيح‭ ‬البليغ،‭ ‬فهذا‭ ‬شاعر‭ ‬قديم‭ ‬اشتكى‭ ‬من‭ ‬صروف‭ ‬الدهر‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬الموت،‭ ‬كأنه‭ ‬بذلك‭ ‬يبلغ‭ ‬رسالة‭ ‬لمن‭ ‬حوله‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬ينجو‭ ‬من‭ ‬صروف‭ ‬الزمان،‭ ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬لمواجهته‭ ‬إلا‭ ‬بالصبر‭ ‬والتحمل،‭ ‬فقال‭: ‬

ألقى‭ ‬عليَ‭ ‬الدهرُ‭ ‬رِجْلًا‭ ‬ويَدًا‭ ‬

والدهرُ‭ ‬ما‭ ‬أصلحَ‭ ‬يومًا‭ ‬أفسدا

يصلحُهُ‭ ‬اليومَ‭ ‬ويفسدُهُ‭ ‬غدا‭ ‬

 

إن‭ ‬الإنسان‭ ‬الجاهلي‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬بأنه‭ ‬يعيش‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يخلد‭ ‬نفسه‭ ‬بالكلمة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أقدس‭ ‬شيء‭ ‬عنده،‭ ‬فيفرغ‭ ‬معاناته‭ ‬وهمومه‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬أو‭ ‬أمثاله‭ ‬أو‭ ‬حكمه‭ ‬أو‭ ‬أقواله‭ ‬المأثورة،‭ ‬لأن‭ ‬الكلمة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ستظل‭ ‬معبرة‭ ‬عن‭ ‬وجوده؛‭ ‬وبذلك‭ ‬يجزم‭ ‬الباحث‭ ‬المتقصي‭ ‬لخصائص‭ ‬البيان‭ ‬في‭ ‬مجتمعهم‭ ‬بأنهم‭ ‬عشقوه‭ ‬مثل‭ ‬صحرائهم‭ ‬وحيوانهم‭ ‬الأليف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أنيسًا‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الصحراء،‭ ‬فلا‭ ‬تجد‭ ‬حادثة‭ ‬من‭ ‬حوادث‭ ‬زمانهم،‭ ‬ولا‭ ‬منظرًا‭ ‬من‭ ‬مناظر‭ ‬طبيعتهم‭ ‬ولا‭ ‬عادة‭ ‬من‭ ‬عاداتهم‭ ‬إلا‭ ‬صوروها‭ ‬ببراعة‭ ‬في‭ ‬إنتاجهم‭ ‬الإبداعي‭ ‬شعرًا‭ ‬ونثرًا‭ ‬لجيلهم‭ ‬وللأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬لتكون‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬ظروف‭ ‬حياتهم‭ ‬بغير‭ ‬زيف‭ ‬أو‭ ‬كذب‭ ‬أو‭ ‬تحريف‭. ‬ولنختم‭ ‬التصوير‭ ‬البياني‭ ‬عند‭ ‬الجاهليين‭ ‬بأبيات‭ ‬لامرئ‭ ‬القيس‭ ‬يصف‭ ‬فيها‭ ‬أحواله‭ ‬النفسية‭ ‬عند‭ ‬الفراق،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬الجاهلي‭ ‬كانوا‭ ‬دائمي‭ ‬الترحال،‭ ‬فتشط‭ ‬النوى‭ ‬بالأليف‭ ‬والرفيق،‭ ‬فيترك‭ ‬ذلك‭ ‬أثرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬أنفسهم‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تهدأ‭ ‬آلامها‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭: ‬

  ‬كأني‭ ‬غداةَ‭ ‬البينِ‭ ‬حين‭ ‬تحمَّلوا

لدى‭ ‬سمُراتِ‭ ‬الحيِّ‭ ‬ناقفُ‭ ‬حنظلِ

‭ ‬

إنه‭ ‬إحساس‭ ‬صادق‭ ‬صور‭ ‬به‭ ‬نفسه‭ ‬بهذه‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬المتلقي‭ ‬يتعاطف‭ ‬معه،‭ ‬ويشاركه‭ ‬أحزانه‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الفراق،‭ ‬ولا‭ ‬يدري‭ ‬الشاعر‭ ‬هل‭ ‬ستجود‭ ‬الأيام‭ ‬المقبلة‭ ‬بلقاء‭ ‬آخر،‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬غزارة‭ ‬دموعه‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬إلا‭ ‬بهذا‭ ‬التشبيه‭ ‬البديع‭ ‬الذي‭ ‬اختار‭ ‬له‭ ‬نبات‭ ‬الحنظل‭ ‬الشديد‭ ‬الأثر‭ ‬على‭ ‬حاسة‭ ‬البصر‭.‬

وفي‭ ‬أبيات‭ ‬أخرى‭ ‬يأتي‭ ‬بصورة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬بيئته‭ ‬ليظهر‭ ‬للمتلقي‭ ‬ما‭ ‬يعاني‭ ‬في‭ ‬وحدته‭ ‬من‭ ‬هموم‭ ‬في‭ ‬ليل‭ ‬طال‭ ‬عليه،‭ ‬فتسعفه‭ ‬قريحته‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة‭ ‬البديعة‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬بصدق‭ ‬عما‭ ‬يحس‭ ‬به‭: ‬

وليلٍ‭ ‬كموجِ‭ ‬البحرِ‭ ‬أرخى‭ ‬سدولَهُ‭ 

عليَ‭ ‬بأنواع‭ ‬الهموم‭ ‬ليبتلي‭ ‬

فقلتُ‭ ‬له‭ ‬لمّا‭ ‬تَمطَّى‭ ‬بصلبِهِ‭  

وأردفَ‭ ‬أعجازًا‭ ‬وناءَ‭ ‬بكلكلِ‭ ‬

ألا‭ ‬أيها‭ ‬الليل‭ ‬الطويلُ‭ ‬ألا‭ ‬انجلي‭ 

بصبحٍ‭ ‬وما‭ ‬الإصباحُ‭ ‬منك‭ ‬بأمثلِ‭ ‬

هي‭ ‬صور‭ ‬متلاحقة‭ ‬تكشف‭ ‬حجم‭ ‬همومه‭ ‬في‭ ‬ليل‭ ‬طال‭ ‬عليه،‭ ‬وكانت‭ ‬البيئة‭ ‬مساعدة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬البيانية‭ ‬البديعة‭ ‬التي‭ ‬رددها‭ ‬النقاد‭ ‬والبلاغيون‭ ‬بإعجاب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العصور‭ ‬لأنها‭ ‬معبرة‭ ‬بصدق‭ ‬عن‭ ‬حالته‭ ‬النفسية،‭ ‬وصادرة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬يمسي‭ ‬ويصبح‭ ‬عليه,‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحبب‭ ‬للناس‭ ‬الأدب‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬فيه‭ ‬زيفًا‭ ‬وخداعًا‭. ‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬الصورة‭ ‬المثالية‭ ‬للأدب‭ ‬عند‭ ‬الجاهليين،‭ ‬جسدوها‭ ‬بشتى‭ ‬صور‭ ‬من‭ ‬البيان‭ ‬الذي‭ ‬عشقوه،‭ ‬فجاءت‭ ‬صافية‭ ‬مشرقة،‭ ‬واضحة‭ ‬كصحرائهم‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخفي‭ ‬عنهم‭ ‬شيئًا،‭ ‬فكذلك‭ ‬كان‭ ‬البيان،‭ ‬صوَّروا‭ ‬به‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬بالهم‭ ‬في‭ ‬مسراتهم‭ ‬وأحزانهم،‭ ‬وآمالهم‭ ‬وإخفاقاتهم،‭ ‬ومقامهم‭ ‬وترحالهم،‭ ‬وفي‭ ‬حربهم‭ ‬وسلمهم،‭ ‬فلا‭ ‬تجد‭ ‬بيانًا‭ ‬جامعًا‭ ‬للصفات‭ ‬الإنسانية‭ ‬النبيلة‭ ‬والصدق‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬الذي‭ ‬تحدى‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬ليصبح‭ ‬بيانًا‭ ‬كونيًا‭ ‬رغم‭ ‬مرور‭ ‬هذه‭ ‬القرون‭ ‬■