نظرية التّواصل اللّغويّ في التّراث العربيّ كتاب «البيان والتّبيين» للجاحظ أنموذجًا

نظرية التّواصل اللّغويّ في التّراث العربيّ  كتاب «البيان والتّبيين» للجاحظ أنموذجًا

‮«‬الألسنيّة‮»‬‭ ‬علم‭ ‬ظهرت‭ ‬مفهوماته‭ ‬الأساسيّة‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬العالم‭ ‬السويسريّ‭ ‬فرديناند‭ ‬دو‭ ‬سوسير‭ (‬1857-1913م‭)‬،‭ ‬فكان‭ ‬رائدًا‭ ‬للمدرسة‭ ‬اللّسانيّة‭ ‬البنيويّة،‭ ‬وقد‭ ‬تعدّدت‭ ‬المدارس‭  ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬الرّؤية‭ ‬التي‭ ‬تسبقها‭ ‬وتطوّرها،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬تختلف‭ ‬رؤية‭ ‬كلّ‭ ‬مدرسة‭ ‬عن‭ ‬الأخرى،‭ ‬لكنّها‭ ‬تظلّ‭ ‬في‭ ‬الإطار‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬يدرس‭ ‬الأبعاد‭ ‬اللّغويّة،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬الدّراسات‭ ‬غائبة‭ ‬عن‭ ‬التّراث‭ ‬العربيّ‭ ‬القديم،‭ ‬فقد‭ ‬بحث‭ ‬اللّغويّون‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬الظّاهرة‭ ‬الكلاميّة،‭ ‬وفي‭ ‬مباحث‭ ‬اللّغة‭ ‬واستطاعوا‭ ‬دراسة‭ ‬النّحو‭ ‬والصّرف‭ ‬والعروض‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬اللّغويّة‭.‬

من‭ ‬النّظريّات‭ ‬اللّسانيّة‭ ‬نظريّة‭ ‬التّواصل‭ ‬اللّغويّ‭ ‬التي‭ ‬اهتمّت‭ ‬بها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬اللّسانيّة‭ ‬الحديثة،‭ ‬وكذلك‭ ‬كانت‭ ‬مثار‭ ‬اهتمام‭ ‬عند‭ ‬اللّغويّين‭ ‬العرب‭. ‬

ونحاول‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬التّراث‭ ‬العربيّ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬البيان‭ ‬والتّبيين‭)‬،‭ ‬لتبيان‭ ‬جهود‭ ‬اللّغويّين‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬التّواصل‭.‬

والسّؤال‭ ‬المطروح‭ ‬هو‭: ‬ما‭ ‬دور‭ ‬التّراث‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬نشأة‭ ‬النّظريّات‭ ‬اللسانيّة‭ ‬الحديثة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬أوجه‭ ‬التّلاقي‭ ‬والتّناظر‭ ‬بين‭ ‬التّراث‭ ‬اللّغويّ‭ ‬العربي‭ ‬واللّسانيات‭ ‬الحديثة؟‭ ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأنّ‭ ‬العرب‭ ‬عرفوا‭ ‬مبادئ‭ ‬اللّسانيات‭ ‬الحديثة‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬جهودهم‭ ‬في‭ ‬ذلك؟

 

نظرية‭ ‬التواصل‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬القديم

يدعو‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬آياته‭ ‬إلى‭ ‬تثبيت‭ ‬مفهوم‭ ‬التّواصل‭ ‬بين‭ ‬النّاس،‭ ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الحكيم‭ ‬﴿‭ ‬يَا‭ ‬أَيُّهَا‭ ‬النَّاسُ‭ ‬إِنَّا‭ ‬خَلَقْنَاكُمْ‭ ‬مِنْ‭ ‬ذَكَرٍ‭ ‬وَأُنْثَىٰ‭ ‬وَجَعَلْنَاكُمْ‭ ‬شُعُوبًا‭ ‬وَقَبَائِلَ‭ ‬لِتَعَارَفُوا‭ ‬إِنَّ‭ ‬أَكْرَمَكُمْ‭ ‬عِنْدَ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬أَتْقَاكُمْ‭ ‬إِنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬عَلِيمٌ‭ ‬خَبِيرٌ﴾،‭ ‬ونستنتج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬أنّ‭ ‬الله‭ ‬خلق‭ ‬النّاس‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬واحدة،‭ ‬وجعل‭ ‬منها‭ ‬زوجها،‭ ‬وهما‭ ‬آدم‭ ‬وحواء،‭ ‬وجعلهم‭ ‬شعوبًا‭ ‬ليحصل‭ ‬بينهم‭ ‬التّعارف،‭ ‬وهذا‭ ‬التّعارف‭ ‬يتطّلب‭ ‬التّواصل‭ ‬بين‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإنسانيّة‭. ‬وهكذا‭ ‬يكون‭ ‬الدين‭ ‬مدعاة‭ ‬للبحث‭ ‬في‭ ‬التّواصل‭.‬

وقد‭ ‬برز‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬وصلنا‭ ‬من‭ ‬نتاجهم‭ ‬اللّغويّ،‭ ‬أنّهم‭ ‬اهتموا‭ ‬اهتمامًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬بالتّواصل،‭ ‬فبحثوا‭ ‬فيه،‭ ‬وحدّدوا‭ ‬أركانه،‭ ‬وأكّدوا‭ ‬أهميته،‭ ‬وأثاروا‭ ‬القضايا‭ ‬العديدة‭ ‬لفهم‭ ‬الفقه‭ ‬والدين،‭ ‬فكانت‭ ‬دراسة‭ ‬اللّغة‭ ‬واكتشاف‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬بلاغة‭ ‬وأصول‭ ‬ومزايا،‭ ‬فنجد‭ ‬ابن‭ ‬جني‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬القول‭ ‬على‭ ‬اللّغة‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬أمّا‭ ‬حدّها‭ ‬فإنّها‭ ‬‮«‬أصوات‭ ‬يعبّر‭ ‬بها‭ ‬كلّ‭ ‬قوم‭ ‬عن‭ ‬أغراضهم‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬درس‭ ‬ابن‭ ‬جني‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الخصائص‮»‬‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المسائل‭ ‬المتعلّقة‭ ‬باللّغة‭ ‬العربيّة،‭ ‬وأظهر‭ ‬ما‭ ‬اشتملت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬حسن‭ ‬تصريف‭ ‬الكلام،‭ ‬والإبانة‭ ‬عن‭ ‬المعاني‭ ‬بأحسن‭ ‬وجـوه‭ ‬الأداء‭. ‬

وكما‭ ‬يتبين‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التّعريف،‭ ‬فإنّ‭ ‬ابن‭ ‬جني‭ ‬قد‭ ‬عرّف‭ ‬اللّغة‭ ‬بأنّها‭ ‬مادة‭ ‬صوتيّة،‭ ‬وأنّ‭ ‬اللّغة‭ ‬تعبير،‭ ‬وهي‭ ‬أيضًا‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعيّة‭ ‬يعبر‭ ‬كلّ‭ ‬قوم‭ ‬بها،‭ ‬للإفصاح‭ ‬عن‭ ‬أغراضهم،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬تمام‭ ‬البيان‭. ‬ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬اللّغويّ‭ ‬ابن‭ ‬جني،‭ ‬فنجد‭ ‬الجاحظ‭ ‬يحدّد‭ ‬معالم‭ ‬البيان‭ ‬ويُشير‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬لغويّة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬كتابه،‭ ‬ويبين‭ ‬معالم‭ ‬التّواصل‭.‬

 

‭ ‬الجاحظ‭ ‬وكتاب‭ ‬البيان‭ ‬والتّبيين

الجاحظ‭ ‬أديب‭ ‬وناقد‭ ‬عباسيّ‭ ‬ترك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬المتنوعة،‭ ‬ولم‭ ‬يترك‭ ‬قلمه‭ ‬موضوعًا‭ ‬إلا‭ ‬بحث‭ ‬فيه،‭ ‬فهو‭ ‬دائرة‭ ‬معارف‭ ‬ممتلئة‭ ‬بالمواد،‭ ‬وهو‭ ‬عالم‭ ‬موسوعيّ‭ ‬يقال‭ ‬إنّ‭ ‬آثاره‭ ‬نيّفت‭ ‬على‭ ‬الثّلائمئة‭ ‬بين‭ ‬كتاب‭ ‬ورسالة‭. ‬ومن‭ ‬آثاره‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬البيان‭ ‬والتّبيين‮»‬‭. ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجزاء‭ ‬يتعاطى‭ ‬فنون‭ ‬البيان‭ ‬في‭ ‬البلاغة،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬منهلًا‭ ‬للمتأدبين‭ ‬وأصلًا‭ ‬يرجعون‭ ‬إليه‭ ‬يتفقهون‭ ‬بواسطته‭. ‬

وربما‭ ‬كان‭ ‬كتاب‭ ‬البيان‭ ‬والتّبيين‭ ‬آخر‭ ‬كتاب‭ ‬وضعه‭ ‬الجاحظ،‭ ‬وقد‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وصيّته‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬الأدباء،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬أوّل‭ ‬مصنّف‭ ‬عرفه‭ ‬العصر‭ ‬العباسيّ‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬البلاغة‭ ‬والبيان،‭ ‬إذ‭ ‬مهّد‭ ‬لما‭ ‬جاء‭ ‬بعده‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬علميّة‭.‬

وكان‭ ‬للجاحظ‭ ‬دوره‭ ‬الفعّال‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬دعائم‭ ‬نظرية‭ ‬حول‭ ‬عملية‭ ‬التّواصل،‭ ‬وجعل‭ ‬من‭ ‬الوظيفة‭ ‬الاتّصالية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬الغاية‭ ‬التي‭ ‬يجري‭ ‬إليها‭ ‬المتخاطبين‭ ‬حجر‭ ‬الزّاوية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬العملية‭ ‬التواصلية‭ ‬كونها‭ ‬المحرّك‭ ‬الفاعل‭ ‬لهذه‭ ‬الأطراف‭. ‬واستطاع‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬البيان‭ ‬والتّبيين‭ ‬أن‭ ‬يؤطّر‭ ‬مفهوم‭ ‬التّواصل‭ ‬والفهم‭ ‬والإفهام،‭ ‬وأن‭ ‬يضع‭ ‬أسس‭ ‬علم‭ ‬البيان‭ ‬وفلسفة‭ ‬اللّغة‭. ‬وسنحاول‭ ‬في‭ ‬دراستنا‭ ‬هذه‭ ‬أن‭ ‬ننطلق‭ ‬من‭ ‬القسم‭ ‬الذي‭ ‬وسَمه‭ ‬الجاحظ‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬البيان‭ ‬والتّبيين‮»‬،‭ ‬ونأخذ‭ ‬منه‭ ‬الإشارات‭ ‬التي‭ ‬تدلّ‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬التواصل‭ ‬لديه‭.‬

‭ ‬

معنى‭ ‬البيان‭ ‬وعناصر‭ ‬التّواصل‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ

‭ ‬البيان‭ ‬إعراب‭ ‬عن‭ ‬كوامن‭ ‬العقل‭ ‬يتناول‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬نصّه‭ ‬علم‭ ‬المعاني،‭ ‬فيأتي‭ ‬على‭ ‬شرح‭ ‬جوهره،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يسمّيه،‭ ‬ومهمّته‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬الصّور‭ ‬الذّهنيّة‭ ‬أو‭ ‬المعاني‭ ‬المتخلجة‭ ‬في‭ ‬الصّدور،‭ ‬بواسطة‭ ‬الألفاظ‭ ‬التي‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬مركبة‭ ‬تحمل‭ ‬الأفكار‭ ‬وتنقلها‭ ‬من‭ ‬أذهاننا‭ ‬إلى‭ ‬عقول‭ ‬غيرنا،‭ ‬‮«‬المعاني‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬صدور‭ ‬الناس‭ ‬المتصوّرة‭ ‬في‭ ‬أذهانهم،‭ ‬والمتخلّجة‭ ‬في‭ ‬نفوسهم‭ ‬والمتصلّة‭ ‬بخواطرهم،‭ ‬والحادثة‭ ‬عن‭ ‬فكرهم،‭ ‬مستورة‭ ‬خفيّة،‭ ‬وبعيدة‭ ‬وحشية،‭ ‬ومحجوبة‭ ‬مكنونة،‭ ‬وموجودة‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬معدومة،‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الإنسان‭ ‬ضمير‭ ‬صاحبه‭ ‬ولا‭ ‬حاجة‭ ‬أخيه‭ ‬وخليطه،‭ ‬ولا‭ ‬معنى‭ ‬شريكه‭ ‬والمعاون‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬أموره،‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يبلغه‭ ‬من‭ ‬حاجات‭ ‬نفسه‭ ‬إلاّ‭ ‬بغيره‮»‬‭. ‬وانطلاقًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العبارات‭ ‬نكتشف‭ ‬أنّ‭ ‬الجاحظ‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬اللّغة‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬النّاس‭ ‬وأذهانهم،‭ ‬وبذلك‭ ‬فهو‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة‭ ‬التي‭ ‬يكتسبها‭ ‬المرء‭. ‬

تتّسم‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة‭ ‬بأنّها‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬خواطر‭ ‬المرء،‭ ‬لكنّها‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬الصّدور،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬المرسل‭/ ‬الباثّ‭ ‬الذي‭ ‬ينقل‭ ‬المعلومة،‭ ‬لكنّ‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة‭ ‬ستبقى‭ ‬خفيّة‭ ‬محجوبة‭ ‬عن‭ ‬الآخرين،‭ ‬فلا‭ ‬يستطيع‭ ‬الآخر‭ ‬اكتشافها‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬ضمير‭ ‬صاحبه‭. ‬

ووفق‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬فإنّ‭ ‬التّواصل‭ ‬مجزوء‭ ‬غير‭ ‬مكتمل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتابع‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬وإنمّا‭ ‬يُحيي‭ ‬تلك‭ ‬المعاني‭ ‬ذكرهم‭ ‬لها،‭ ‬وإخبارهم‭ ‬عنها‭ ‬واستعمالهم‭ ‬إياها،‭ ‬وهذه‭ ‬الخصال‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تقرّبها‭ ‬من‭ ‬الفهم‭ ‬وتجلّيها‭ ‬للعقل‭ ‬وتجعل‭ ‬الخفي‭ ‬منها‭ ‬ظاهرًا،‭ ‬والغائب‭ ‬شاهدًا،‭ ‬والبعيد‭ ‬قريبًا‭. ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تخلّص‭ ‬الملتبس،‭ ‬وتحلّ‭ ‬المنعقد،‭ ‬وتجعل‭ ‬المهمل‭ ‬مقيدًا،‭ ‬والمقيد‭ ‬مطلقًا،‭ ‬والمجهول‭ ‬معروفًا،‭ ‬والوحشي‭ ‬مألوفًا،‭ ‬والغفل‭ ‬موسومًا،‭ ‬والموسوم‭ ‬معلومًا‮»‬‭. ‬وهنا‭ ‬تكتمل‭ ‬فكرة‭ ‬التّواصل،‭ ‬فإنّ‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬تلك‭ ‬المعاني‭ ‬حيّة‭ ‬مفهومة،‭ ‬هو‭ ‬الإخبار‭ ‬عنها‭ ‬واستعمالها،‭ ‬وبذلك‭ ‬تكون‭ ‬مفهومة‭ ‬واضحة‭ ‬وجليّة‭ ‬وقريبة‭ ‬من‭ ‬الفهم‭. ‬وتكتمل‭ ‬العملية‭ ‬التواصليّة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وجود‭ ‬متحدّث‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬أفكاره‭ ‬فيكون‭ ‬النّصّ‭ ‬المراد‭ ‬إرساله‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭/ ‬المرسَل‭ ‬إليه‭. ‬ويمكن‭ ‬رسم‭ ‬الترسيمة‭ ‬التّالية‭:‬

مُتكلّم‭/ ‬مُرسِل نصّ‭/‬مُرسَلة

مخاطَب‭/‬مُرسَل‭ ‬إليه

إذًا‭ ‬تكتمل‭ ‬عملية‭ ‬التّواصل‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التّعبير‭ ‬عن‭ ‬المكنون،‭ ‬وبذلك‭ ‬تحيا‭ ‬المعاني،‭ ‬ويفصل‭ ‬الجاحظ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الإحياء‭ ‬بأنّ‭ ‬تتخلّص‭ ‬المعاني‭ ‬من‭ ‬الغموض‭ ‬والالتباس،‭ ‬والمهمل‭ ‬يقيّد‭ ‬ويحدّد،‭ ‬والمجهول‭ ‬يصبح‭ ‬معروفًا،‭ ‬وما‭ ‬هذا‭ ‬التّكرار‭ ‬في‭ ‬الفكرة‭ ‬إلا‭ ‬بهدف‭ ‬توضيحها‭ ‬وتبيانها‭. ‬

ويبدو‭ ‬واضحًا‭ ‬اعتماد‭ ‬الجاحظ‭ ‬على‭ ‬عناصر‭ ‬الإرسال،‭ ‬فما‭ ‬بين‭ ‬دعوته‭ ‬المتكلّم‭/ ‬المرسل‭ ‬إلى‭ ‬إرسال‭ ‬كلامه‭ ‬بما‭ ‬يتلاءم‭ ‬مع‭ ‬الحال،‭ ‬فإنّه‭ ‬يعدّ‭ ‬المتلقي‭ ‬ركنًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬في‭ ‬المخاطبة،‭ ‬ويرافقهما‭ ‬الاعتناء‭ ‬بالرّسالة‭ ‬وانتقاء‭ ‬الألفاظ‭.‬

‭ ‬

البيان‭ ‬ووضوح‭ ‬الدّلالة

وما‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬وصول‭ ‬المتلقي‭ ‬إلى‭ ‬غايته‭ ‬فإنّ‭ ‬المرسلة‭/ ‬الرّسالة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وضوح‭ ‬الدّلالة،‭ ‬فيذكر‭ ‬الجاحظ‭ ‬‮«‬وعلى‭ ‬قدر‭ ‬وضوح‭ ‬الدّلالة‭ ‬وصواب‭ ‬الإشارة،‭ ‬وحسن‭ ‬الاختصار،‭ ‬ودقة‭ ‬المدخل،‭ ‬يكون‭ ‬إظهار‭ ‬المعنى‭. ‬وكلّما‭ ‬كانت‭ ‬الدّلالةُ‭ ‬أوضحَ‭ ‬وأفصحَ،‭ ‬وكانت‭ ‬الإشارةُ‭ ‬أبينَ‭ ‬وأنورَ،‭ ‬كان‭ ‬أنفع‭ ‬وأنجع‭. ‬والدّلالة‭ ‬الظّاهرة‭ ‬على‭ ‬المعنى‭ ‬الخفي‭ ‬هي‭ ‬البيان‭ ‬الذي‭ ‬سمعتَ‭ ‬الله‭ ‬عزّ‭ ‬وجلّ‭ ‬يمدحه،‭ ‬ويدعو‭ ‬إليه‭ ‬ويحثّ‭ ‬عليه،‭ ‬بذلك‭ ‬نطق‭ ‬القرآن،‭ ‬وبذلك‭ ‬تفاخرت‭ ‬العرب،‭ ‬وتفاضلت‭ ‬أصناف‭ ‬العجم‮»‬‭.‬

‭ ‬وهنا‭ ‬يتحقّق‭ ‬معنى‭ ‬البيان‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ‭ ‬الذي‭ ‬يقصد‭ ‬به‭ ‬الدّلالة‭ ‬على‭ ‬المعنى،‭ ‬والتّبيين‭ ‬بالإيضاح،‭ ‬والتّركيز‭ ‬على‭ ‬الوضوح‭ ‬والإيجاز،‭ ‬وهما‭ ‬أسّ‭ ‬البيان‭ ‬وجوهره،‭ ‬ويكون‭ ‬مفهوم‭ ‬البيان‭ ‬عنده‭ ‬مفهومًا‭ ‬إجرائيًّا،‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬المعرفة،‭ ‬وإلى‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الفهم‭ ‬والإفهام،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬تحقيق‭ ‬مبدأ‭ ‬التّواصل،‭ ‬وتتحقّق‭ ‬وظيفة‭ ‬اللّغة‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬هي‭ ‬التّعبير‭ ‬والتّواصل‭ ‬والتّفاهم‭. ‬وتحقّق‭ ‬أيضًا‭ ‬وظيفتها‭ ‬الاجتماعيّة‭ ‬التي‭ ‬تعمّق‭ ‬المشاركة‭ ‬بين‭ ‬متخاطبين،‭ ‬ويؤكّد‭ ‬الجاحظ‭ ‬البعد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ربط‭ ‬المعنى‭ ‬الواضح‭ ‬عبر‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬العرب،‭ ‬وما‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬فاللّغة‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يتعارف‭ ‬عليه‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويتوافق‭ ‬على‭ ‬الأبعاد‭ ‬الدّلاليّة‭.‬

 

أهداف‭ ‬البيان

يتابع‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب،‭ ‬ويتناول‭ ‬علم‭ ‬البيان‭ ‬وهو‭ ‬يعني‭ ‬أوّل‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬إظهار‭ ‬الحقائق،‭ ‬وعدم‭ ‬التّمويه‭ ‬ليفهم‭ ‬الأديب‭ ‬ويفهم‭ ‬المتلقي،‭ ‬يوضّح‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬البيان،‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬والبيان‭ ‬اسم‭ ‬جامع‭ ‬لكلّ‭ ‬شيء‭ ‬كشف‭ ‬لك‭ ‬قناع‭ ‬المعنى‭ ‬وهتك‭ ‬الحجاب‭ ‬دون‭ ‬الضمير‭ ‬حتى‭ ‬يُفضي‭ ‬السامع‭ ‬إلى‭ ‬حقيقته،‭ ‬ويهجم‭ ‬على‭ ‬محصوله‭ ‬كائنًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬البيان،‭ ‬ومن‭ ‬أي‭ ‬جنس‭ ‬كان‭ ‬الدليل،‭ ‬لأنّ‭ ‬مدار‭ ‬الأمر‭ ‬والغاية‭ ‬التي‭ ‬إليها‭ ‬يجري‭ ‬القائل‭ ‬والسامع،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬الفهم‭ ‬و‭ ‬الإفهام،‭ ‬فبأي‭ ‬شيء‭ ‬بلغتَ‭ ‬الإفهام‭ ‬وأوضحتَ‭ ‬عن‭ ‬المعنى،‭ ‬فذلك‭ ‬هو‭ ‬البيان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الموضع‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬الملاحظ‭ ‬أنّ‭ ‬معنى‭ ‬البيان‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ‭ ‬يختلف‭ ‬معناه،‭ ‬ويأخذ‭ ‬أبعادًا‭ ‬دلاليّة‭ ‬مختلفة،‭ ‬فنراه‭ ‬هنا‭ ‬يكتسب‭ ‬صفة‭ ‬جامعة،‭ ‬ويهدف‭ ‬إلى‭ ‬إزالة‭ ‬القناع‭ ‬عن‭ ‬المضمون،‭ ‬وبذلك‭ ‬يتحقّق‭ ‬الفهم‭ ‬بين‭ ‬القائل‭/ ‬المرسل‭ ‬والسامع‭/ ‬المرسل‭ ‬إليه،‭ ‬وهناك‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬قناة‭ ‬التّواصل‭ ‬‮«‬فبأي‭ ‬شيء‭ ‬بلغتَ‭ ‬الإفهام‭ ‬وأوضحتَ‭ ‬عن‭ ‬المعنى‮»‬‭ ‬يكون‭ ‬البيان،‭ ‬نعم‭ ‬إنّ‭ ‬البيان‭ ‬يكتمل‭ ‬هنا‭ ‬ليجعلنا‭ ‬نكمل‭ ‬الترسيمة‭ ‬السابقة،‭ ‬مضيفين‭ ‬إليها‭ ‬مصطلحات‭ ‬الجاحظ‭: ‬

‭ ‬مُرسِل‭/‬القائل نصّ‭/‬مُرسَلة

مُرسَل‭ ‬إليه‭/‬السامع

اسم‭ ‬جامع‭ ‬لكلّ‭ ‬شيء‭ ‬ لسان‭/ ‬لغة

 

البيان‭ ‬والكلام‭ ‬الجيد

في‭ ‬ختام‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬يقدّم‭ ‬الجاحظ‭ ‬شروط‭ ‬الكلام‭ ‬الجيد،‭ ‬فيركز‭ ‬على‭ ‬الإيجاز‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬اللّغة‭ ‬العربيّة‭ ‬وفي‭ ‬تركيبتها‭ ‬البنيوية،‭ ‬مع‭ ‬تأكيد‭ ‬الوضوح،‭ ‬ثمّ‭ ‬يرقى‭ ‬الجاحظ‭ ‬بمبادئ‭ ‬مذهبه‭ ‬الكتابيّ‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬مثاليّ‭ ‬يجمع‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬المعنى‭ ‬الشّريف‭ ‬واللفظ‭ ‬البليغ،‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬الأديب‭ ‬إلى‭ ‬النّاس‭ ‬جميعًا‭. ‬

‭ ‬يقول‭ ‬الجاحظ‭: ‬‮«‬وأحسن‭ ‬الكلام‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬قليله‭ ‬يُغنيك‭ ‬عن‭ ‬كثيره،‭ ‬ومعناه‭ ‬في‭ ‬ظاهر‭ ‬لفظه،‭ ‬وكان‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عزّ‭ ‬وجلّ‭ ‬قد‭ ‬ألبسه‭ ‬من‭ ‬الجلالة،‭ ‬وغشّاه‭ ‬من‭ ‬نور‭ ‬الحكمة‭ ‬على‭ ‬حسب‭ ‬نية‭ ‬صاحبه،‭ ‬وتقوى‭ ‬قائله،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬المعنى‭ ‬شريفًا،‭ ‬واللفظ‭ ‬بليغًا،‭ ‬وكان‭ ‬صحيح‭ ‬الطبع‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬الاستكراه،‭ ‬ومنزّهًا‭ ‬عن‭ ‬الاختلال‭ ‬مصونًا‭ ‬عن‭ ‬التكلّف،‭ ‬صنع‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬صنيع‭ ‬الغيث‭ ‬في‭ ‬التربة‭ ‬الكريمة،‭ ‬ومتى‭ ‬فُصِّلَتِ‭ ‬الكلمة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الشريطة،‭ ‬نفذت‭ ‬من‭ ‬قائلها‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصّفة،‭ ‬أصحبها‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬التوفيق‭ ‬ومنحها‭ ‬من‭ ‬التّأييد،‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمتنع‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬تعظيمها‭ ‬به‭ ‬صدور‭ ‬الجبابرة،‭ ‬ولا‭ ‬يذهل‭ ‬عن‭ ‬فهمها‭ ‬معه‭ ‬عقول‭ ‬الجهلة‮»‬‭. ‬

ويعتمد‭ ‬صيغة‭ ‬أفعل‭ ‬التّفضيل‭ ‬ليشير‭ ‬إلى‭ ‬الكلام‭ ‬الجيد‭ ‬الذي‭ ‬يساعد‭ ‬في‭ ‬وصول‭ ‬الفكرة‭ ‬بين‭ ‬المتكلّم‭ ‬والسّامع،‭ ‬ويبين‭ ‬تأثير‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬متلقيه،‭ ‬وما‭ ‬الكلام‭ ‬الجيد‭ ‬إلّا‭ ‬الرّسالة‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬أبهى‭ ‬حلّة،‭ ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬الجاحظ‭ ‬قد‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬عناصر‭ ‬متوائمة‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬لتحقق‭ ‬الفهم‭ ‬والإفهام‭ ‬الذي‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬ثوابت‭ ‬وهي‭ ‬المتكلّم‭ ‬والسامع‭ ‬والكلام‭ ‬والحال‭ ‬والمقام‭ ‬وبذلك‭ ‬يتحقق‭ ‬التّواصل‭. ‬

انطلاقًا‭ ‬مما‭ ‬سبق‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنّنا‭ ‬جلّنا‭ ‬مع‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬البيان‭ ‬والتّبيين،‭ ‬مع‭ ‬التّركيز‭ ‬على‭ ‬بابٍ‭ ‬منه‭ ‬الموسوم‭ ‬بالبيان‭ ‬والتّبيين،‭ ‬وتبين‭ ‬مفهومه‭ ‬عن‭ ‬التّواصل،‭ ‬وكيف‭ ‬حدّد‭ ‬أركانه‭ ‬وأسسه‭. ‬ويبقى‭ ‬السّؤال‭ ‬المطروح‭ ‬كيف‭ ‬تبدو‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬جهود‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬النّظريّات‭ ‬اللّسانيّة؟

 

جهود‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬النّظريّات‭ ‬اللّسانيّة

شهد‭ ‬القرن‭ ‬العشرون‭ ‬تطوّرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬العلوم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اُكتشفت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النّظريّات‭ ‬والآراء‭ ‬العلميّة،‭ ‬واستطاعت‭ ‬اللّسانيّات‭ ‬الحديثة‭ ‬أن‭ ‬تدرس‭ ‬اللّغة‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬دراسة‭ ‬علميّة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الوصف‭ ‬الموضوعي،‭ ‬ومعاينة‭ ‬الظواهر‭ ‬اللّغويّة‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬النّزعة‭ ‬التّعليميّة‭ ‬والأحكام‭ ‬المعياريّة،‭ ‬ومن‭ ‬وظائف‭ ‬اللّغة‭ ‬دراسة‭ ‬التّواصل‭.‬

إنّنا‭ ‬نصبو‭ ‬إلى‭ ‬تبيان‭ ‬الجهود‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬العرب‭ ‬القدامى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬والمقارنة‭ ‬بما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬النّظريّات‭ ‬اللّسانيّة‭ ‬الحديثة‭.‬

لقد‭ ‬استطاع‭ ‬اللّغويّون‭ ‬العرب‭ ‬أن‭ ‬يقدموا‭ ‬تعريفات‭ ‬مهمة،‭ ‬فما‭ ‬ذكره‭ ‬ابن‭ ‬جنّي‭ ‬عن‭ ‬اللّغة‭ ‬أنه‭ ‬رأى‭ ‬أنّها‭ ‬أصوات‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬أغراض‭ ‬القوم،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬التّعريف‭ ‬تأكيد‭ ‬للمادة‭ ‬الصّوتيّة،‭ ‬وأنّ‭ ‬اللّغة‭ ‬تعبير‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعيّة،‭ ‬وهي‭ ‬البيان،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬التّعريف‭ ‬ما‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬التّعريفات‭ ‬الحديثة‭ ‬للّغة‭. ‬ومن‭ ‬جهود‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬التّواصل‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬اللّغويّون‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬مكوّنات‭ ‬التّواصل‭ ‬هي‭ ‬المتكلّم‭ ‬والمخاطب‭ ‬والكلام،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬المكوّنات‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬وظائف‭ ‬اللّغة‭.‬

اللّغة‭ ‬أداة‭ ‬التّفكير‭ ‬وسيلتها‭ ‬التّعبير،‭ ‬وعبر‭ ‬ذلك‭ ‬يوصل‭ ‬المرء‭ ‬أفكاره‭ ‬إلى‭ ‬الآخرين،‭ ‬وقد‭ ‬أكّد‭ ‬الجاحظ‭ ‬ذلك،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أنّ‭ ‬المعاني‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬النّفوس‭ ‬مخفية‭ ‬محجورة،‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬الآخرون،‭ ‬إلّا‭ ‬إذا‭ ‬خرجت‭ ‬منه‭ ‬ووصلت‭ ‬إلى‭ ‬أسماع‭ ‬الآخرين،‭ ‬وكأنّ‭ ‬الجاحظ‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬التّفكير‭ ‬كلام‭ ‬نفسيّ،‭ ‬والكلام‭ ‬تفكير‭ ‬جهريّ،‭ ‬فما‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭ ‬القائمة‭ ‬في‭ ‬الصّدور‭ ‬والكامنة‭ ‬في‭ ‬الأذهان‭ ‬والإفصاح‭ ‬عنها‭ ‬إحياء‭ ‬لها،‭ ‬وهو‭ ‬بذلك‭ ‬يحقّق‭ ‬مفهوم‭ ‬اللّغة‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬إليها‭ ‬اللّسانيّات‭ ‬الحديثة‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬الجاحظ‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المصطلحات‭ ‬فهو‭ ‬وضّح‭ ‬عناصر‭ ‬التّواصل‭ ‬بين‭ ‬قائل‭ ‬وسامع،‭ ‬أي‭ ‬بين‭ ‬مرسل‭ ‬ومرسل‭ ‬إليه،‭ ‬وحدّد‭ ‬الموضوع‭ ‬أي‭ ‬المرسلة،‭ ‬ومتى‭ ‬تحقّق‭ ‬الفهم‭ ‬والإفهام،‭ ‬فنحن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬الغاية‭ ‬فتتحقّق‭ ‬الوظيفة‭ ‬الإفهاميّة‭.‬

وإذا‭ ‬وضعت‭ ‬اللّسانيّات‭ ‬الحديثة‭ ‬عوامل‭ ‬ستة‭ ‬يتحقّق‭ ‬عبرها‭ ‬التّواصل،‭ ‬فإنّ‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬البيان‭ ‬والتّبيين‭ ‬وفي‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الكتابات،‭ ‬فكان‭ ‬عنده‭ ‬القائل‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يرتكز‭ ‬عليه‭ ‬الكلام،‭ ‬والسّامع‭ ‬وهو‭ ‬المتلقي‭ ‬المرسَل‭ ‬إليه،‭ ‬وعبره‭ ‬تتحقّق‭ ‬الوظيفة‭ ‬التّأثيريّة‭. ‬أمّا‭ ‬الاسم‭ ‬الجامع‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬فهو‭ ‬المرسلة‭ ‬أو‭ ‬الرّسالة‭. ‬

وقد‭ ‬فصّل‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬أدوات‭ ‬البيان،‭ ‬فيرى‭ ‬أنّها‭ ‬خمسة‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬تنقص‭ ‬ولا‭ ‬تزيد‭: ‬أوّلها‭ ‬اللفظ،‭ ‬ثمّ‭ ‬الإشارة،‭ ‬ثمّ‭ ‬العقد،‭ ‬ثم‭ ‬الحظ،‭ ‬ثم‭ ‬الحال،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الأدوات‭ ‬نتلمّس‭ ‬إشارات‭ ‬إلى‭ ‬مصطلحات‭ ‬لسانيّة‭ ‬حديثة،‭ ‬في‭ ‬حديثنا‭ ‬عن‭ ‬الدّال‭ ‬والمدلول،‭ ‬ويجمع‭ ‬الجاحظ‭ ‬بين‭ ‬الإشارة‭ ‬واللّفظ،‭ ‬فهما‭ ‬شريكان‭ ‬عنده،‭ ‬فالإشارة‭ ‬قد‭ ‬تنوب‭ ‬عن‭ ‬اللفظ،‭ ‬ويقول‭ ‬‮«‬لولا‭ ‬الإشارة‭ ‬لم‭ ‬يتفاهم‭ ‬النّاس‭ ‬معنى‭ ‬خاص‭ ‬الخاص‮»‬،‭ ‬وتركيز‭ ‬الجاحظ‭ ‬على‭ ‬حسبان‭ ‬الإشارة‭ ‬شريكة‭ ‬اللفظ،‭ ‬فهو‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬توضيح‭ ‬الرسالة‭ ‬التّواصليّة‭ ‬التي‭ ‬ترتبط‭ ‬بلغة‭ ‬علم‭ ‬الجسد،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬تحدّثت‭ ‬عنها‭ ‬اللّسانيّات‭ ‬الحديثة‭. ‬

ترى‭ ‬اللّسانيّات‭ ‬الحديثة‭ ‬أنّ‭ ‬اللّغة‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعيّة،‭ ‬وقد‭ ‬أشار‭ ‬الجاحظ‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬وضوح‭ ‬الدّلالة،‭ ‬عندما‭ ‬رأى‭ ‬أنّ‭ ‬البيان‭ ‬هو‭ ‬بما‭ ‬نطق‭ ‬به‭ ‬القرآن‭ ‬وتفاخرت‭ ‬به‭ ‬العرب،‭ ‬وهنا‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬البعد‭ ‬الاجتماعيّ‭ ‬لهذه‭ ‬اللّغة‭ ‬التي‭ ‬يتفاخر‭ ‬بها‭ ‬أبناؤها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬نلمسه‭ ‬من‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬دو‭ ‬سوسير‭ ‬عندما‭ ‬فرّق‭ ‬بين‭ ‬اصطلاحات‭ ‬ثلاثة،‭ ‬هي‭ ‬اللّغة‭ ‬واللّسان‭ ‬والكلام‭. ‬

 

‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬واللسان

فاللّغة‭ ‬هنا‭ ‬ظاهرة‭ ‬إنسانيّة‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬جميعها‭. ‬وهي‭ ‬بالمعنى‭ ‬المطلق‭ ‬أو‭ ‬الكلام‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬الميول‭ ‬والقدرات‭ ‬اللّغويّة‭ ‬عند‭ ‬الإنسان‭. ‬أمّا‭ ‬اللّسان‭ ‬فيُراد‭ ‬به‭ ‬اللّغة‭ ‬المعيّنة‭ ‬كالعربيّة‭ ‬وغيرها،‭ ‬فهو‭ ‬نظام‭ ‬مكتسب‭ ‬متجانس،‭ ‬وهو‭ ‬يضمّ‭ ‬نظام‭ ‬المفردات‭ ‬والنّحو‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬عصر‭ ‬من‭ ‬عصور‭ ‬تاريخ‭ ‬لغة‭ ‬معيّنة،‭ ‬وهو‭ ‬مجموع‭ ‬العادات‭ ‬اللّغويّة‭ ‬التي‭ ‬تتحقّق‭ ‬بالكلام‭. ‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬تكون‭ ‬إشارة‭ ‬الجاحظ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تفاخرت‭ ‬به‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬لغتهم‭ ‬وتفاضلت‭ ‬به‭ ‬العجم‭. ‬أمّا‭ ‬الكلام‭ ‬بحسب‭ ‬دو‭ ‬سوسير‭ ‬فهو‭ ‬النّشاط‭ ‬العضليّ‭ ‬الصوتيّ‭ ‬الفرديّ،‭ ‬أي‭ ‬إظهار‭ ‬الفرد‭ ‬للغة‭ ‬وتحقيقه‭ ‬إياها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الأصوات‭ ‬الملفوظة‭. ‬فالكلام‭ ‬هو‭ ‬استخدام‭ ‬مفرد‭ ‬للغة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬إنسان‭ ‬معيّن،‭ ‬واللّسان‭ ‬هو‭ ‬مجموعة‭ ‬القواعد‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬الكلام‭ ‬ممكنًا‭. ‬وبهذا‭ ‬تكون‭ ‬النّظرة‭ ‬إلى‭ ‬اللّسان‭ ‬والكلام‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬الاتجاه‭ ‬الاجتماعيّ،‭ ‬فيكون‭ ‬اللسان‭ ‬منظمًا‭ ‬مختزنا‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬الجمعيّ‭. ‬وإذا‭ ‬استطاعت‭ ‬اللّسانيّات‭ ‬الحديثة‭ ‬أن‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬الفكرة‭ ‬بتحديد‭ ‬علميّ‭ ‬واضح‭ ‬المعالم،‭ ‬فإنّ‭ ‬ما‭ ‬يُحسب‭ ‬للجاحظ‭ ‬أنّه‭ ‬ربط‭ ‬اللّغة‭ ‬بالمجتمع‭ ‬وعبّر‭ ‬عن‭ ‬نتاج‭ ‬الجماعة‭ ‬وأكد‭ ‬ملكيتها‭ ‬له،‭ ‬ما‭ ‬يعطيها‭ ‬حق‭ ‬المفاخرة‭ ‬والمفاضلة‭. ‬فاللّغة‭ ‬المعيّنة‭ ‬هي‭ ‬وظيفة‭ ‬جماهير‭ ‬المتكلّمين‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬اللّغويّة‭ ‬المعيّنة‭. ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النّظم‭ ‬والقوانين‭ ‬اللّغويّة‭ ‬المخزونة‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬هذه‭ ‬الجماهير‭.  ‬واللّغة‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬تمثّل‭ ‬الجانب‭ ‬الاجتماعي‭ ‬من‭ ‬القضية‭. ‬

وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬حديث‭ ‬الجاحظ‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬الشّريف،‭ ‬نجده‭ ‬يبين‭ ‬تأثير‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬النّفوس،‭ ‬فيكون‭ ‬صنيعه‭ ‬كصنيع‭ ‬الغيث‭ ‬في‭ ‬التربة‭ ‬الكريمة،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬التّشبيه‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬التّأثير‭ ‬في‭ ‬النّفس‭ ‬الإنسانيّة،‭ ‬ويتابع‭ ‬فيرى‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬أو‭ ‬الرسالة‭ ‬تحقّق‭ ‬فيها‭ ‬المعنى‭ ‬الشّريف،‭ ‬فإنّها‭ ‬تنفذ‭ ‬من‭ ‬قائلها‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصّفة،‭ ‬واكتسبت‭ ‬التّأييد،‭ ‬وحققّت‭ ‬مرجعيتها‭ ‬في‭ ‬العقول‭ ‬الجاهلة‭.‬

في‭ ‬الختام،‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬للعرب‭ ‬القدامى‭ ‬جهودًا‭ ‬مهمة‭ ‬وبارزة‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مفاهيم‭ ‬لغويّة‭ ‬حديثة،‭ ‬وإلى‭ ‬دراسة‭ ‬مفهوم‭ ‬التّواصل،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬وفق‭ ‬منهجية‭ ‬علميّة‭ ‬محدّدة،‭ ‬إنّما‭ ‬اكتفوا‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬مضمون‭ ‬التّواصل‭ ‬وعمليّاته‭. ‬

ويسجل‭ ‬للعرب‭ ‬القدامى‭ ‬أنّهم‭ ‬خدموا‭ ‬لغتهم‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى،‭ ‬فنظروا‭ ‬في‭ ‬مفردات‭ ‬اللّغة،‭ ‬ومعاني‭ ‬هذه‭ ‬المفردات،‭ ‬وفي‭ ‬صيغ‭ ‬اللّغة‭ ‬وتراكيبها،‭ ‬ويبدو‭ ‬ذلك‭ ‬جليّا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أمّهات‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬خلّفوها‭ ‬وراءهم‭.‬

وهذا‭ ‬يتيح‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نؤكّد‭ ‬أنّ‭ ‬ميادين‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬اللّغة‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬تشبه‭ ‬عمومًا‭ ‬تلك‭ ‬الميادين‭ ‬التي‭ ‬شغلت‭ ‬أذهان‭ ‬العلماء‭ ‬المحدثين،‭ ‬ولهذا‭ ‬نجد‭ ‬أنّهم‭ ‬قد‭ ‬بحثوا‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬عديدة‭ ‬منها‭ ‬علوم‭ ‬النّحو‭ ‬والصّرف‭ ‬والعروض‭ ‬واللّغة،‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬احتياجاتهم،‭ ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إنّهم‭ ‬درسوا‭ ‬مسائل‭ ‬لا‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬علم‭ ‬اللّغة‭ ‬عند‭ ‬المحدثين‭.‬

والجاحظ‭ ‬كان‭ ‬عالمًا‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬اللّغة،‭ ‬وتميّز‭ ‬بعزيمته‭ ‬المثابرة‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬والقراءة،‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬مفهوم‭ ‬البيان‭ ‬الذي‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التّواصل،‭ ‬وخلص‭ ‬إلى‭ ‬البعد‭ ‬الاجتماعيّ‭ ‬للّغة،‭ ‬وقارب‭ ‬في‭ ‬آرائه‭ ‬ما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬الدّراسات‭ ‬اللّسانيّة‭ ‬الجديدة،‭ ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬اختلاف‭ ‬التّرجمات‭ ‬للمصطلحات‭ ‬اللسانيّة‭ ‬الحديثة‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أنّنا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬مصطلحات‭ ‬الجاحظ‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬النّقاد‭ ‬العرب‭ ‬القدامى‭ ‬بعين‭ ‬متأنية،‭ ‬آخذين‭ ‬بالحسبان‭ ‬طبيعة‭ ‬اللّغة‭ ‬في‭ ‬عصرهم،‭ ‬وما‭ ‬لديهم‭ ‬من‭ ‬طاقات‭ ‬وإمكانات،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬الإنقاص‭ ‬من‭ ‬جهودهم‭ ‬■