نظرية التّواصل اللّغويّ في التّراث العربيّ كتاب «البيان والتّبيين» للجاحظ أنموذجًا

«الألسنيّة» علم ظهرت مفهوماته الأساسيّة أوائل القرن العشرين على يد العالم السويسريّ فرديناند دو سوسير (1857-1913م)، فكان رائدًا للمدرسة اللّسانيّة البنيويّة، وقد تعدّدت المدارس التي كانت تنطلق من الرّؤية التي تسبقها وتطوّرها، أو قد تختلف رؤية كلّ مدرسة عن الأخرى، لكنّها تظلّ في الإطار العام الذي يدرس الأبعاد اللّغويّة، ولم تكن هذه الدّراسات غائبة عن التّراث العربيّ القديم، فقد بحث اللّغويّون العرب في الظّاهرة الكلاميّة، وفي مباحث اللّغة واستطاعوا دراسة النّحو والصّرف والعروض وغيرها من العلوم اللّغويّة.
من النّظريّات اللّسانيّة نظريّة التّواصل اللّغويّ التي اهتمّت بها أكثر من مدرسة من المدارس اللّسانيّة الحديثة، وكذلك كانت مثار اهتمام عند اللّغويّين العرب.
ونحاول العودة إلى التّراث العربيّ من خلال ما كتبه الجاحظ في كتابه (البيان والتّبيين)، لتبيان جهود اللّغويّين العرب في مفهوم التّواصل.
والسّؤال المطروح هو: ما دور التّراث القديم في نشأة النّظريّات اللسانيّة الحديثة، أو ما أوجه التّلاقي والتّناظر بين التّراث اللّغويّ العربي واللّسانيات الحديثة؟ وهل يمكن القول بأنّ العرب عرفوا مبادئ اللّسانيات الحديثة وما هي جهودهم في ذلك؟
نظرية التواصل في التراث العربي القديم
يدعو القرآن الكريم في آياته إلى تثبيت مفهوم التّواصل بين النّاس، يقول الله تعالى في كتابه الحكيم ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، ونستنتج من هذه الآية أنّ الله خلق النّاس من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبًا ليحصل بينهم التّعارف، وهذا التّعارف يتطّلب التّواصل بين المجتمعات الإنسانيّة. وهكذا يكون الدين مدعاة للبحث في التّواصل.
وقد برز عند العرب أيضًا من خلال ما وصلنا من نتاجهم اللّغويّ، أنّهم اهتموا اهتمامًا كبيرًا بالتّواصل، فبحثوا فيه، وحدّدوا أركانه، وأكّدوا أهميته، وأثاروا القضايا العديدة لفهم الفقه والدين، فكانت دراسة اللّغة واكتشاف ما فيها من بلاغة وأصول ومزايا، فنجد ابن جني يقول في باب القول على اللّغة وما هي أمّا حدّها فإنّها «أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم»، وقد درس ابن جني في كتابه «الخصائص» العديد من المسائل المتعلّقة باللّغة العربيّة، وأظهر ما اشتملت عليه من سمات حسن تصريف الكلام، والإبانة عن المعاني بأحسن وجـوه الأداء.
وكما يتبين من هذا التّعريف، فإنّ ابن جني قد عرّف اللّغة بأنّها مادة صوتيّة، وأنّ اللّغة تعبير، وهي أيضًا ظاهرة اجتماعيّة يعبر كلّ قوم بها، للإفصاح عن أغراضهم، وفي ذلك تمام البيان. ولم يقتصر الأمر على اللّغويّ ابن جني، فنجد الجاحظ يحدّد معالم البيان ويُشير إلى قضايا لغويّة مهمة في كتابه، ويبين معالم التّواصل.
الجاحظ وكتاب البيان والتّبيين
الجاحظ أديب وناقد عباسيّ ترك العديد من الآثار المتنوعة، ولم يترك قلمه موضوعًا إلا بحث فيه، فهو دائرة معارف ممتلئة بالمواد، وهو عالم موسوعيّ يقال إنّ آثاره نيّفت على الثّلائمئة بين كتاب ورسالة. ومن آثاره كتاب «البيان والتّبيين». وهو كتاب في ثلاثة أجزاء يتعاطى فنون البيان في البلاغة، وقد كان الكتاب منهلًا للمتأدبين وأصلًا يرجعون إليه يتفقهون بواسطته.
وربما كان كتاب البيان والتّبيين آخر كتاب وضعه الجاحظ، وقد شاء أن تكون وصيّته الأخيرة إلى الأدباء، وليس من شكّ في أنّ هذا الكتاب هو أوّل مصنّف عرفه العصر العباسيّ في علوم البلاغة والبيان، إذ مهّد لما جاء بعده من كتب علميّة.
وكان للجاحظ دوره الفعّال في تقديم دعائم نظرية حول عملية التّواصل، وجعل من الوظيفة الاتّصالية المتمثلة في الغاية التي يجري إليها المتخاطبين حجر الزّاوية في بناء العملية التواصلية كونها المحرّك الفاعل لهذه الأطراف. واستطاع في كتابه البيان والتّبيين أن يؤطّر مفهوم التّواصل والفهم والإفهام، وأن يضع أسس علم البيان وفلسفة اللّغة. وسنحاول في دراستنا هذه أن ننطلق من القسم الذي وسَمه الجاحظ بعنوان «البيان والتّبيين»، ونأخذ منه الإشارات التي تدلّ على مفهوم التواصل لديه.
معنى البيان وعناصر التّواصل عند الجاحظ
البيان إعراب عن كوامن العقل يتناول الجاحظ في نصّه علم المعاني، فيأتي على شرح جوهره، من غير أن يسمّيه، ومهمّته أن يحمل الصّور الذّهنيّة أو المعاني المتخلجة في الصّدور، بواسطة الألفاظ التي ليست سوى مركبة تحمل الأفكار وتنقلها من أذهاننا إلى عقول غيرنا، «المعاني قائمة في صدور الناس المتصوّرة في أذهانهم، والمتخلّجة في نفوسهم والمتصلّة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفيّة، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلاّ بغيره». وانطلاقًا من هذه العبارات نكتشف أنّ الجاحظ يشير إلى اللّغة الكامنة في قلوب النّاس وأذهانهم، وبذلك فهو يشير إلى هذه المعرفة التي يكتسبها المرء.
تتّسم هذه المعرفة بأنّها تعبّر عن خواطر المرء، لكنّها ثابتة في الصّدور، وفي ذلك إشارة إلى المرسل/ الباثّ الذي ينقل المعلومة، لكنّ هذه المعرفة ستبقى خفيّة محجوبة عن الآخرين، فلا يستطيع الآخر اكتشافها ولا يعرف ما في ضمير صاحبه.
ووفق ما سبق فإنّ التّواصل مجزوء غير مكتمل في هذه المرحلة، إلى أن يتابع فيقول «وإنمّا يُحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها، وهذه الخصال هي التي تقرّبها من الفهم وتجلّيها للعقل وتجعل الخفي منها ظاهرًا، والغائب شاهدًا، والبعيد قريبًا. وهي التي تخلّص الملتبس، وتحلّ المنعقد، وتجعل المهمل مقيدًا، والمقيد مطلقًا، والمجهول معروفًا، والوحشي مألوفًا، والغفل موسومًا، والموسوم معلومًا». وهنا تكتمل فكرة التّواصل، فإنّ ما يجعل تلك المعاني حيّة مفهومة، هو الإخبار عنها واستعمالها، وبذلك تكون مفهومة واضحة وجليّة وقريبة من الفهم. وتكتمل العملية التواصليّة، من خلال وجود متحدّث يعبر عن أفكاره فيكون النّصّ المراد إرساله إلى شخص آخر/ المرسَل إليه. ويمكن رسم الترسيمة التّالية:
مُتكلّم/ مُرسِل نصّ/مُرسَلة
مخاطَب/مُرسَل إليه
إذًا تكتمل عملية التّواصل عند الجاحظ من خلال التّعبير عن المكنون، وبذلك تحيا المعاني، ويفصل الجاحظ الحديث عن هذا الإحياء بأنّ تتخلّص المعاني من الغموض والالتباس، والمهمل يقيّد ويحدّد، والمجهول يصبح معروفًا، وما هذا التّكرار في الفكرة إلا بهدف توضيحها وتبيانها.
ويبدو واضحًا اعتماد الجاحظ على عناصر الإرسال، فما بين دعوته المتكلّم/ المرسل إلى إرسال كلامه بما يتلاءم مع الحال، فإنّه يعدّ المتلقي ركنًا مهمًّا في المخاطبة، ويرافقهما الاعتناء بالرّسالة وانتقاء الألفاظ.
البيان ووضوح الدّلالة
وما يسهم في وصول المتلقي إلى غايته فإنّ المرسلة/ الرّسالة تحتاج إلى وضوح الدّلالة، فيذكر الجاحظ «وعلى قدر وضوح الدّلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون إظهار المعنى. وكلّما كانت الدّلالةُ أوضحَ وأفصحَ، وكانت الإشارةُ أبينَ وأنورَ، كان أنفع وأنجع. والدّلالة الظّاهرة على المعنى الخفي هي البيان الذي سمعتَ الله عزّ وجلّ يمدحه، ويدعو إليه ويحثّ عليه، بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم».
وهنا يتحقّق معنى البيان عند الجاحظ الذي يقصد به الدّلالة على المعنى، والتّبيين بالإيضاح، والتّركيز على الوضوح والإيجاز، وهما أسّ البيان وجوهره، ويكون مفهوم البيان عنده مفهومًا إجرائيًّا، يحتاج إلى تقديم المعرفة، وإلى الوصول إلى مرحلة الفهم والإفهام، وذلك عبر تحقيق مبدأ التّواصل، وتتحقّق وظيفة اللّغة من كونها هي التّعبير والتّواصل والتّفاهم. وتحقّق أيضًا وظيفتها الاجتماعيّة التي تعمّق المشاركة بين متخاطبين، ويؤكّد الجاحظ البعد الاجتماعي من خلال ربط المعنى الواضح عبر العودة إلى ما ذكره العرب، وما جاء به القرآن الكريم، فاللّغة هي ما يتعارف عليه المجتمع، ويتوافق على الأبعاد الدّلاليّة.
أهداف البيان
يتابع الجاحظ في هذا الباب، ويتناول علم البيان وهو يعني أوّل ما يعني إظهار الحقائق، وعدم التّمويه ليفهم الأديب ويفهم المتلقي، يوضّح الهدف من البيان، فيقول «والبيان اسم جامع لكلّ شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير حتى يُفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأنّ مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم و الإفهام، فبأي شيء بلغتَ الإفهام وأوضحتَ عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع».
ومن الملاحظ أنّ معنى البيان عند الجاحظ يختلف معناه، ويأخذ أبعادًا دلاليّة مختلفة، فنراه هنا يكتسب صفة جامعة، ويهدف إلى إزالة القناع عن المضمون، وبذلك يتحقّق الفهم بين القائل/ المرسل والسامع/ المرسل إليه، وهناك إشارة إلى قناة التّواصل «فبأي شيء بلغتَ الإفهام وأوضحتَ عن المعنى» يكون البيان، نعم إنّ البيان يكتمل هنا ليجعلنا نكمل الترسيمة السابقة، مضيفين إليها مصطلحات الجاحظ:
مُرسِل/القائل نصّ/مُرسَلة
مُرسَل إليه/السامع
اسم جامع لكلّ شيء لسان/ لغة
البيان والكلام الجيد
في ختام هذا الباب يقدّم الجاحظ شروط الكلام الجيد، فيركز على الإيجاز الذي هو في صلب اللّغة العربيّة وفي تركيبتها البنيوية، مع تأكيد الوضوح، ثمّ يرقى الجاحظ بمبادئ مذهبه الكتابيّ ليصل إلى موقف مثاليّ يجمع فيه بين المعنى الشّريف واللفظ البليغ، وكيف يمكن أن يصل الأديب إلى النّاس جميعًا.
يقول الجاحظ: «وأحسن الكلام ما كان قليله يُغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله تعالى عزّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة، وغشّاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه، وتقوى قائله، فإذا كان المعنى شريفًا، واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع بعيدًا من الاستكراه، ومنزّهًا عن الاختلال مصونًا عن التكلّف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة، ومتى فُصِّلَتِ الكلمة على هذه الشريطة، نفذت من قائلها على هذه الصّفة، أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التّأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها به صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة».
ويعتمد صيغة أفعل التّفضيل ليشير إلى الكلام الجيد الذي يساعد في وصول الفكرة بين المتكلّم والسّامع، ويبين تأثير هذا الكلام على متلقيه، وما الكلام الجيد إلّا الرّسالة التي ينبغي أن تكون في أبهى حلّة، ويمكن القول إنّ الجاحظ قد أشار إلى عناصر متوائمة مع بعضها البعض لتحقق الفهم والإفهام الذي يرتكز على ثوابت وهي المتكلّم والسامع والكلام والحال والمقام وبذلك يتحقق التّواصل.
انطلاقًا مما سبق يمكن القول إنّنا جلّنا مع الجاحظ في كتابه البيان والتّبيين، مع التّركيز على بابٍ منه الموسوم بالبيان والتّبيين، وتبين مفهومه عن التّواصل، وكيف حدّد أركانه وأسسه. ويبقى السّؤال المطروح كيف تبدو العلاقة بين جهود الجاحظ في النّظريّات اللّسانيّة؟
جهود الجاحظ في النّظريّات اللّسانيّة
شهد القرن العشرون تطوّرًا كبيرًا في مختلف العلوم بعد أن اُكتشفت الكثير من النّظريّات والآراء العلميّة، واستطاعت اللّسانيّات الحديثة أن تدرس اللّغة الإنسانيّة دراسة علميّة تقوم على الوصف الموضوعي، ومعاينة الظواهر اللّغويّة بعيدا عن النّزعة التّعليميّة والأحكام المعياريّة، ومن وظائف اللّغة دراسة التّواصل.
إنّنا نصبو إلى تبيان الجهود التي قام بها العرب القدامى في هذا المجال والمقارنة بما وصلت إليه النّظريّات اللّسانيّة الحديثة.
لقد استطاع اللّغويّون العرب أن يقدموا تعريفات مهمة، فما ذكره ابن جنّي عن اللّغة أنه رأى أنّها أصوات تعبّر عن أغراض القوم، وفي هذا التّعريف تأكيد للمادة الصّوتيّة، وأنّ اللّغة تعبير وهي ظاهرة اجتماعيّة، وهي البيان، وفي هذا التّعريف ما يتوافق مع التّعريفات الحديثة للّغة. ومن جهود العرب في نظرية التّواصل ما وصل إليه اللّغويّون من أنّ مكوّنات التّواصل هي المتكلّم والمخاطب والكلام، ومن خلال هذه المكوّنات نصل إلى وظائف اللّغة.
اللّغة أداة التّفكير وسيلتها التّعبير، وعبر ذلك يوصل المرء أفكاره إلى الآخرين، وقد أكّد الجاحظ ذلك، فهو يرى أنّ المعاني تبقى في النّفوس مخفية محجورة، لا يعرفها الآخرون، إلّا إذا خرجت منه ووصلت إلى أسماع الآخرين، وكأنّ الجاحظ يشير إلى أنّ التّفكير كلام نفسيّ، والكلام تفكير جهريّ، فما بين الكلمات القائمة في الصّدور والكامنة في الأذهان والإفصاح عنها إحياء لها، وهو بذلك يحقّق مفهوم اللّغة التي تدعو إليها اللّسانيّات الحديثة.
ولم يكن الجاحظ بعيدًا من هذه المصطلحات فهو وضّح عناصر التّواصل بين قائل وسامع، أي بين مرسل ومرسل إليه، وحدّد الموضوع أي المرسلة، ومتى تحقّق الفهم والإفهام، فنحن نصل إلى الغاية فتتحقّق الوظيفة الإفهاميّة.
وإذا وضعت اللّسانيّات الحديثة عوامل ستة يتحقّق عبرها التّواصل، فإنّ هذا ما ذكره الجاحظ في كتابه البيان والتّبيين وفي غيره من الكتابات، فكان عنده القائل وهو الذي يرتكز عليه الكلام، والسّامع وهو المتلقي المرسَل إليه، وعبره تتحقّق الوظيفة التّأثيريّة. أمّا الاسم الجامع لكل شيء فهو المرسلة أو الرّسالة.
وقد فصّل الجاحظ في حديثه عن أدوات البيان، فيرى أنّها خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أوّلها اللفظ، ثمّ الإشارة، ثمّ العقد، ثم الحظ، ثم الحال، ومن خلال هذه الأدوات نتلمّس إشارات إلى مصطلحات لسانيّة حديثة، في حديثنا عن الدّال والمدلول، ويجمع الجاحظ بين الإشارة واللّفظ، فهما شريكان عنده، فالإشارة قد تنوب عن اللفظ، ويقول «لولا الإشارة لم يتفاهم النّاس معنى خاص الخاص»، وتركيز الجاحظ على حسبان الإشارة شريكة اللفظ، فهو يسهم في توضيح الرسالة التّواصليّة التي ترتبط بلغة علم الجسد، وهي من القضايا المهمة التي تحدّثت عنها اللّسانيّات الحديثة.
ترى اللّسانيّات الحديثة أنّ اللّغة ظاهرة اجتماعيّة، وقد أشار الجاحظ إلى ذلك في حديثه عن وضوح الدّلالة، عندما رأى أنّ البيان هو بما نطق به القرآن وتفاخرت به العرب، وهنا إشارة إلى البعد الاجتماعيّ لهذه اللّغة التي يتفاخر بها أبناؤها، إضافة إلى ما نلمسه من إشارة إلى ما ذكره دو سوسير عندما فرّق بين اصطلاحات ثلاثة، هي اللّغة واللّسان والكلام.
بين اللغة واللسان
فاللّغة هنا ظاهرة إنسانيّة عامة في المجتمعات جميعها. وهي بالمعنى المطلق أو الكلام الإنسانيّ بوجه عام عبارة عن الميول والقدرات اللّغويّة عند الإنسان. أمّا اللّسان فيُراد به اللّغة المعيّنة كالعربيّة وغيرها، فهو نظام مكتسب متجانس، وهو يضمّ نظام المفردات والنّحو في أي عصر من عصور تاريخ لغة معيّنة، وهو مجموع العادات اللّغويّة التي تتحقّق بالكلام.
ومن هنا تكون إشارة الجاحظ إلى ما تفاخرت به العرب في لغتهم وتفاضلت به العجم. أمّا الكلام بحسب دو سوسير فهو النّشاط العضليّ الصوتيّ الفرديّ، أي إظهار الفرد للغة وتحقيقه إياها عن طريق الأصوات الملفوظة. فالكلام هو استخدام مفرد للغة من قبل إنسان معيّن، واللّسان هو مجموعة القواعد التي تجعل الكلام ممكنًا. وبهذا تكون النّظرة إلى اللّسان والكلام ناتجة عن الاتجاه الاجتماعيّ، فيكون اللسان منظمًا مختزنا في العقل الجمعيّ. وإذا استطاعت اللّسانيّات الحديثة أن تعبّر عن الفكرة بتحديد علميّ واضح المعالم، فإنّ ما يُحسب للجاحظ أنّه ربط اللّغة بالمجتمع وعبّر عن نتاج الجماعة وأكد ملكيتها له، ما يعطيها حق المفاخرة والمفاضلة. فاللّغة المعيّنة هي وظيفة جماهير المتكلّمين في البيئة اللّغويّة المعيّنة. وهي عبارة عن مجموعة من النّظم والقوانين اللّغويّة المخزونة في عقول هذه الجماهير. واللّغة بهذا المعنى تمثّل الجانب الاجتماعي من القضية.
وبالعودة إلى حديث الجاحظ عن المعنى الشّريف، نجده يبين تأثير ذلك على النّفوس، فيكون صنيعه كصنيع الغيث في التربة الكريمة، وفي هذا التّشبيه إشارة إلى التّأثير في النّفس الإنسانيّة، ويتابع فيرى أنّ هذه الكلمة أو الرسالة تحقّق فيها المعنى الشّريف، فإنّها تنفذ من قائلها على هذه الصّفة، واكتسبت التّأييد، وحققّت مرجعيتها في العقول الجاهلة.
في الختام، يمكننا القول إنّ للعرب القدامى جهودًا مهمة وبارزة في الوصول إلى مفاهيم لغويّة حديثة، وإلى دراسة مفهوم التّواصل، لكن لم يكن ذلك وفق منهجية علميّة محدّدة، إنّما اكتفوا بالحديث عن مضمون التّواصل وعمليّاته.
ويسجل للعرب القدامى أنّهم خدموا لغتهم العربية الفصحى، فنظروا في مفردات اللّغة، ومعاني هذه المفردات، وفي صيغ اللّغة وتراكيبها، ويبدو ذلك جليّا من خلال أمّهات الكتب التي خلّفوها وراءهم.
وهذا يتيح لنا أن نؤكّد أنّ ميادين البحث في اللّغة عند العرب تشبه عمومًا تلك الميادين التي شغلت أذهان العلماء المحدثين، ولهذا نجد أنّهم قد بحثوا في علوم عديدة منها علوم النّحو والصّرف والعروض واللّغة، بحسب ما يتوافق مع احتياجاتهم، ويمكن القول إنّهم درسوا مسائل لا تدخل في مفهوم علم اللّغة عند المحدثين.
والجاحظ كان عالمًا من علماء اللّغة، وتميّز بعزيمته المثابرة على البحث والقراءة، ووصل إلى تحديد مفهوم البيان الذي يدخل في مجال التّواصل، وخلص إلى البعد الاجتماعيّ للّغة، وقارب في آرائه ما وصلت إليه الدّراسات اللّسانيّة الجديدة، ولعل ما نراه في اختلاف التّرجمات للمصطلحات اللسانيّة الحديثة دليل على أنّنا يجب أن ننظر إلى مصطلحات الجاحظ وغيره من النّقاد العرب القدامى بعين متأنية، آخذين بالحسبان طبيعة اللّغة في عصرهم، وما لديهم من طاقات وإمكانات، ولا يعني ذلك الإنقاص من جهودهم ■