الأختام الإسلامية وانطباعاتها الدائمة
يصف ابن منظور واضع معجم «لسان العرب» الخاتم بالشيء الذي يوضع على الطينة، والختام بالطين الذي يختم به على الكتاب لحفظه، والختم بحفظ ما في الكتاب بتعليم الطينة، وعلى الرغم من أن ابن منظور وضع كتابه في 1290م، أي بزمن طويل بعد أن تم التخلي عن ممارسة ختم الكتب والوثائق بالطين، ولكن من الواضح أن المعنى كان يشير إلى استخدامات الختم الأولى. ومن ثم تطور التعريف ليشمل مجموعة من المعاني، بحيث أنه في موسوعة الإسلام يتم تعريف الختم بالخاتم وطابع الختم ومصفوفة الختم وأشياء شبيهة بالأختام تتميز بوجود نقوش منتظمة ذات طابع ديني عليها، مثل التمائم التي يمكن تمييزها عن الأختام من خلال عدم وجود اسم شخصي عليها.
الأختام في العهود الإسلامية الأولى كانت بمثابة بطاقات التعريف الشخصي التي تدل على هوية الشخص إن كان تاجرًا أو بحارًا أو معالجًا أو ذا مركز رسمي، كما كانت بمثابة الأوراق والمستندات والإثباتات الرسمية الأخرى، مثل براءة الذمة والرخص والمأذونيات بأنواعها، وكذلك لكونها تعريفًا بالممتلكات، أي باختصار كان وجودها ضرورة ثقافية وأمنية واجتماعية واقتصادية. ونظرًا للارتباط الشخصي بين الختم ومالكه، كان على صانعي الأختام أن يبتكروا تصميمات مختلفة على الدوام حتى أصبحت بمثابة أعمال فنية بكتاباتها العربية الفريدة ونقوشها الجميلة على مختلف أنواع الأحجار، فبقي العديد منها إلى يومنا هذا، لتعكس الروح الفنية في زمانها ومكانها ولتنقل عن الحقبات الزمنية التي صنعت فيها أكثر بكثير مما كان منقوشًا عليها.
الأختام رموز للسلطة
منذ أيام الإسلام الأولى عملت الأختام كرموز للسلطة. يقول البلاذري في كتابه «فتوح البلدان» أنه عندما أراد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الإمبراطور البيزنطي عام 628 م، قيل له إن الرسالة لن تُقرأ إلا إذا كانت تحمل ختمًا، لذلك صُنع له خصيصًا خاتم من الفضة نُقش عليه في ثلاثة أسطر ومن الأسفل إلى الأعلى: «محمد رسول الله» بحيث كان أولها كلمة (الله) لكي لا يكون اسم الرسول فوق لفظ الجلالة، وكانت الحروف منقوشة بشكل مقلوب معكوس كصورة المرآة، وذلك كي تكون مستوية عند ختمها. ومن ثم تم استخدام نفس الخاتم من قبل الخلفاء الراشدين أبوبكر وعمر وعثمان، حيث قيل إن الأخير قد أضاعه عندما سقط منه في بئر «أريس» وهي البئر التي تقع جنوب غرب المدينة المنورة، لكن ذلك لم يمنع أن يكون لكل من الخلفاء الراشدين خاتمه الخاص، فكان خاتم خليفة رسول الله أبي بكر الصديق يحمل نقش «نِعْمَ القادر الله»، وخاتم عمر بن الخَطاب نقش «كفى بالموت واعظًا»، وخاتم عثمان بن عفان «آمنت بالذي خلق فسوى»، وخاتم علي بن أبي طالب نقش «الله الملك الحق»، وكانت لهذه الأختام أهمية كبيرة، حيث إن الخاتم كان يعطي الصفة الرسمية للمكتوب أو المحرر.
ثلاثة نصوص للدلالة على شيوع
الأختام بين الناس
بالإضافة إلى كونها رموزًا للسلطة إلا أن الأختام أصبحت مع الوقت شائعة إلى حد كبير، ويظهر هذا الاستخدام الشائع للأختام منذ عهود الإسلام الأولى في نصوص ثلاثة من حقبات مختلفة من الحكم الإسلامي، وهي، أولاً، كتاب «الموَشّى أو الظرف والظرفاء» لمؤلفه محمد بن إسحاق بن يحيى الوشاء أبو الطيب، وفي كتابات الرحالة الفرنسي جون شاردان التي دوّن فيها مشاهداته في رحلاته إلى بلاد الفرس في القرن السابع عشر، وكذلك في كتاب إدوارد وليم لين الذي يحمل عنوان «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم» من القرن التاسع عشر. وكتاب الموشى هو كتاب من الأدب العربي يتحدث عن الأشخاص من الطبقة الراقية أو عما سماهم بن إسحاق «الظرفاء» وكيف كان عليهم أن يتصرفوا ويأكلوا ويتحدثوا، ولكن بالإضافة إلى كل ذلك فهو يذكر بعض العبارات التي كان مثل هؤلاء «الظرفاء» ينقشونها على أختامهم. يبدأ بن إسحاق مع بعض الأبيات الصوفية التي يحتوي الكثير منها على ذكر الله، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم والإمام علي بن أبي طالب مثل: «أنا بالله واثق، إن ربي لرازق» و«بحب آل محمد، ألقى إله محمد»، و«حب علي بن أبي طالب، فرض على الشاهد والغائب». كما يذكر نقوشًا أخرى تحمل أفكارًا متنوعة مثل: «القناعة خير من الضراعة» و«الهرب قبل الطلب» و«لكل حق حقيقة، ولكل زمان خليقة» و«الحق ينْجي، والباطل يردي». وفي قسم آخر من الكتاب تتركز الفكرة الأساسية حول الحب وما يكتبه أهل الهوى على أختامهم، بحيث هناك قصة حول شاب يدعى الحسن بن وهب، الذي كان قد وقع في حب جارية تُدعى «ناعم» فقام بعكس اسمها ونقش على خاتمه كلمة «معان» بدلاً من «ناعم» ومن ثم كتب الأبيات التالية:
نقشت معانا على خاتمي
لكيما أُعان على ظالمي
كذا اسم من هام قلبي به
وأصبح في حالة الهائم
نكست الهجاء فأعلنته
بطرفى ليخفى على الحازم
وهناك قصة أخرى تتعلق بشخص يُدعى «محمد بن عبدالملك الزيات» الذي كان، أيضًا، قد عشق جارية وعندما تركها قامت بنقش كلمات على خاتمها تعرض له بالعتاب، وعندما بلغه الأمر كتب على خاتمه ضد ما كتبت، فبلغها ذلك فمحت ما على خاتمها وكتبت ضد ما كتب ومن ثم بلغه ما ردت به فمحا ما على خاتمه وكتب ضد ذلك في أبيات يقول فيها:
كتَبتْ على فص لخاتمها
من ملّ من أحْبا به رقدا
فكتبْت في فصي ليبلُغَها
من نام لم يشعر بمن سَهِدا
فمحته واكتتبت ليبلغني
ما نام مَن يهوى ولا هَجَدا
فمحوته ثم اكتتبت أنا
والله أول ميت كمدا
قالت: يعارضني بخاتمه
واللهِ لا كلّمته أبدا
وفي نصوص لاحقة يصف الرحّالة الفرنسي جون شاردان، الذي استقر في بلاد فارس 1664 و1670 في ظل حكم سليمان الأول الصفوي خصائص الأختام الإسلامية ووظيفتها الرئيسية، ويقول إنه على عكس ما اعتاد عليه المستشرقون وأهل الغرب من إثبات صحة وثائقهم بالتوقيع عليها بالريشة والحبر، فكان أهل بلاد فارس يستعملون الختم بدلًا من التوقيع. ولكنه يضيف أن ذلك لم يكن يعني أنه كان بالإمكان أخذ ختم أي شخص والقيام بتزويره بسهولة، لأن الناس كانوا يرتدونه على عنقهم بواسطة حبل حريري بين قميصهم الداخلي وردائهم ولم يكونوا يخلعونه إلا وقت الاستحمام وهناك أشخاص آخرون كانوا يضعون الختم على إصبعهم بواسطة حلقة حديدية. ومن ثم يصف شاردان الأختام على أنها عادة ما كانت تصنع من العقيق أو العقيق الأبيض وكانت إما بيضاوية أو مربعة الشكل وكان ينقش عليها اسم حاملها إلى جانب سطر أو سطرين للدلالة على ثقة الشخص بالله وإيمانه به.
الختم أكثر موثوقية
أما إدوارد وليم لين فقد كتب في كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم» في القرن التاسع عشر أنه عادة ما كان الختم يوضع على الإصبع الصغير لليد اليمنى وبأن انطباعه كان يعتبر أكثر موثوقية من إمضاء الاسم بالقلم، وبأنه كان لكل شخص ختمه الخاص «حتى لو كان خادمًا»، على حد تعبيره. أما عن الطريقة التي كان يستخدم بها فيقول إنه كان يتم دهنه بقليل من الحبر بأحد الأصابع ويتم ضغطه على الورقة، بحيث يكون الشخص الذي يستخدم الختم قد لمس لسانه أولًا بإصبع آخر ورطّب المكان في الورقة المراد ختمها.
قيمة فنية دائمة
على الرغم من أن الأختام المعدنية والحجريّة بدأت تختفي في العصر الحديث بعد أن حلَّت مكانها الأختام المطّاطيَّة، وانتشرت المَكْننة الآليّة في صناعتها وانفصلت صناعتها عن مهنة الخطّاط الذي اكتفى بكتابة النَّصّ وزخرفته، وبعد أن أصبح الختم المعدني النّافر لا يظهر إلا في ختم الوثائق المهمة كجوازات السّفر والشّهادات العلميَّة وغيرِها، إلا أن شيوع الأختام ذات الصناعة اليدوية والزخارف والكتابات الجميلة من القرن التاسع عشر وما قبله في الحقبات الإسلامية المتتالية أدى إلى بقاء العديد منها إلى يومنا هذا. ولأنها تعتبر قطعًا فنية يظهر فيها الفن الإسلامي في أبهى حلله عادة ما نجدها معروضة في مجموعات فريدة في مختلف المتاحف العالمية، وكذكرى جميلة متوارثة من الأجداد، بالإضافة إلى بيعها في المزادات العلنية بأسعار باهظة. وعلى عكس الأختام الأوربية التي تعتمد في الأساس على الصور غالبًا ما يكون التركيز الأكبر في الأختام الإسلامية على الكتابة بالخط العربي الذي يربط الأختام من جميع أنحاء العالم الإسلامي، من المغرب إلى تركيا، ومن إيران إلى الهند، ومن الصين إلى إندونيسيا. ففن الخط العربي يعتبر من أرقى أشكال الفن الإسلامي لا سيما بسبب الدور الخاص للغة العربية في نقل كلمة الله في القرآن الكريم ولذلك يتم الحكم على القيمة الفنية للأختام الإسلامية أولًا وقبل كل شيء، من جمال ومهارة الكتابات التي تحتوي عليها. تعكس أنماط الخط الموجودة على الأختام تطور الكتابة العربية في المخطوطات وكذلك في النقوش على الحجر والمعدن والخزف بحيث نجد أن أقدم الأختام كانت منقوشة بالخط الكوفي البسيط وكان يتم تضخيم الخطوط الأفقية للحروف في بعض الأحيان من أجل التأثير الفني، بينما كان يتم مد الأحرف الأخرى بتكوينات زخرفية متوازنة ومنسجمة. كما يمكن، من خلال الأختام أيضًا، تتبع التطور اللاحق للنسخ والنصوص المتصلة الأخرى بالإضافة إلى تطوير خط «النستعليق» في إيران في القرن الخامس عشر، الذي سرعان ما أصبحت معه الخطوط الشاملة والمنحنيات هي النص المفضل للأختام في العالم الإسلامي الهندي. وفي ظل السلطنة العثمانية كانت الأختام الدّقيقة تنقش بالخط الغباريّ، في حين كانت الأختام الكبيرة كأختام المحاكم والإجازات الصّوفيّة والعلميّة والمراسيم (الفِرمانات) تنقش بخط الطُّغراء والخطّ الدّيوانيّ الجليّ، والثُّلث وغيرِها.
أحكام الأختام وقانونيتها
كما كانت تلك الأختام تعكس مهاراة الخطّاطين في زمانهم الذين كانوا يصنعون الأختام ويكتبون ما عليها وينقشونها وكان على هؤلاء النقاشين أن يكونوا على دراية في الخط وعلم الأرقام والهندسة بالاضافة إلى ضرورة أن يكونوا ضليعين بالشعر ويتحلون بتقوى الله، خاصة أنهم كانوا مؤتمنين على المحافظة على الأختام والحرص على عدم تزويرها. وبعيدًا عن الطابع الفني البحت للأختام الإسلامية فقد ترافقت تلك الأختام مع إرث ثقافي مهم كان له علاقة مباشرة بدراسة أحكام الأختام وقانونيتها، ولغتها، وشأنها في الحكم الشرعي وكان من أبرزها كتاب «أحكام الخواتيم» لمؤلفه ابن رجب الحنبلي (ت795هـ) الذي اعتمد في مصادره على كتابي «الخواتيم» لحمزة السهمي (ت428هـ)، و«الخواتيم» لابن منجويه. ومن المؤلفات الأخرى كتاب «الخواتيم» لابن أبي الدنيا، وكتاب «التختيم من اليمين أو اليسار» للبيهقي، وكتاب «الخواتيم» لابن أبي حية، وكتاب «الخواتيم» لعبدالله الدبيلي وكذلك كتاب «الدر الثمين في التختم باليمين» لمؤلفه محمد رضا الطبسي النجفي.
يبقى القول إن الأختام الإسلامية التي وصلت إلينا من حقبات غابرة لا زالت تحمل معها انطباعاتها الدائمة واستمرت نقوشها لتشهد على مهارة صانعيها وعلى جمال الفن الإسلامي في أصغر وأدق إبداعاته الجميلة ■