البيروني مترجم العلوم الهندية ورائد العلوم ومجد العروبة
أبو الريحان محمد بن أحمد البَيْرُونِي (362هــ/973م - 440هــ/1048م) من أساطير الفلسفة والعلم عبر التاريخ الذي أخذ منه العالم كثيرًا، فهو أحد كبار علماء المسلمين الذين يعتز بهم العالم العربي والإسلامي. لقد كان مؤرخًا ورياضيًا وفلكيًا وفيلسوفًا ورحّالة وجغرافيًا ولغويًا وشاعرًا أديبًا وعالمًا موسوعيًا، وأعظم عقلية عرفها التاريخ العربي الإسلامي. وهو أول مَن تكلّم بدوران الأرض حول محورها، ومؤسس علم الهنديات. وكانت له مؤلفات كثيرة وبحوث علمية مبتكرة رائدة كثيرة في الرياضيات والفلك والهندسة والصيدلة والتاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والفيزياء.
وُلد أبو الريحان البيروني في سبتمبر عام 973م بضاحية من ضواحي مدينة «كاث» عاصمة دولة خوارزم المعروفة حاليًا بــ«خيوة» (Khiva) غرب أوزبكستان. والبيروني نسبة إلى البيرون وهي كلمة فارسية أصلًا تعني «خارج أو ظاهر» ويفسر السمعاني في كتابه «الأنساب» سبب تسمية أبي الريحان البيروني بهذه النسبة قائلًا: «من المحتمل أن تكون عائلة أبي الريحان من المشتغلين بالتجارة خارج المدينة، حيث بعض التجار كانوا يعيشون خارج أسوار المدينة للتخلص من مكوس دخول البضائع إلى داخل مدينة «كاث» عاصمة خوارزم، فمن يكون من خارج البلد ولا يكون من نفسها يقال له في اللغة الفارسية «فلان بيروني هست». والمشهور بهذه النسبة أبو الريحان المنجم البيروني.
كان البيروني عربي الثقافة، وعربي الروح، ملمًا باللغة الخوارزمية والعربية والفارسية والسنسكريتية، ويجيد أيضًا اليونانية والعبرية والسريانية. قضى سنوات طويلة من حياته في مدينة غزنة من أفغانستان المعاصرة، عاصمة الدولة الغزنوية التي ارتفعت في فترة حكم محمود سَبْكَتْكِيْن إلى أوجها بفضل علوّ همّته وحسن قيادته. امتدت حدود مملكته من بخارى وسمرقند إلى غوجرات غرب الهند وقَـنَّوْج (مديرية معروفة في ولاية أترابراديش حاليًا) في شمالها، كما شملت حكومته أفغانستان وبلاد ما وراء النهر وسجستان وخراسان وطبرستان (هي مناطق تاريخية قديمة تشمل جزءًا كبيرًا من آسيا الوسطى أوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وتركمانستان حاليًا).
درس الرياضيات والفلك والطب، وتناول الأدب والشعر والتاريخ، واضطلع بتدوين أخبار الأمم وأحوالها وتاريخ العلوم، وكتب عددًا كبيرًا من المؤلفات في مختلف العلوم. ونقل في كتبه آراء علماء الشرق والغرب القدماء، وناقش في المسائل العلمية المختلفة، فقد كتب عن تثبيت الزوايا في حساب المثلث والدائرة. وقدم بحثًا مستفيضًا في خطوط الطول والعرض ودوران الأرض حول محورها، ودخل في كثير من المناقشات حول دوران الأرض مع ابن سينا، واعترض على توقعات أرسطو حول علم الفلك. وبحث في الفرق بين سرعة الضوء وسرعة الصوت، وأوضح الفرق بين سرعتيهما. واستخدم الأواني المستطرقة في شرح تدفق الينابيع والآبار الارتوازية. وكانت له إسهامات في علم الأرض وسمي بــ«أبو الجوديـسيـا» (Geodesy).
يُعد العلامة البيروني أحد ألمع الوجوه العلمية التي تفتخر بها الثقافة العربية الإنسانية من خلال تاريخ الفكر الإسلامي، فقد صنف كتبًا كثيرة في تاريخ العلم، وكلها باللغة العربية، وأكد مكانة اللغة العربية في ثقافة عصره، حتى انتقلت المصادر العلمية العربية متونًا وشرحًا إلى الأفق الأوربية إبان عصر النهضة (Renaissance) وشارك العرب والمسلمون في إحياء وبناء العلم الحديث في أوربا، وخير دليل عليه ما قاله العالم الفرنسي روبرت بريفولت (Robert Stephen Briffault) في كتابه «تكوين الإنسانية» (The Making of Humanity): العلم هو أجل خدمة أسدتها الحضارة العربية إلى العالم الحديث، فالإغريق قد نظموا، وعمّموا، ووضعوا النظريات، لكن روح البحث وتركيم المعرفة اليقينية، وطرائق العلم الدقيقة، والملاحظة النائبة المتطاولة كانت غريبة عن المزاج الإغريقي، وإنما كان العرب هم أصحاب الفضل في تعريف أوربا بهذا كله. وبكلمة، فإن العلم الأوربي مدين بوجوده للعرب». وقد اعترف جورج ألفريد سارتون (George Alfred Sarton) في كتابه «المدخل إلى تاريخ العلم»: «بأن النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي امتاز فيه العالم الإسلامي بإنتاج ضخم خلاق يسير على نهج التفكير العلمي الحديث وسمي بــعصر البيروني».
علاقة العلامة البيروني
مع السلطان محمود الغزنوي
لما اشتهر البيروني وذاع صيته، حتى سمع السلطان محمود سَبُكَتْـكـِيـنْ الغزنوي عنه وأعجب به. وطلب إلى ملك الخوارزم مامون بن مامون الملقب بــ«خوارزم شاه» أن يبعث إليه البيروني الذي كان يزامل ابن سينا وابن مسكويه في مجلس العلوم تحت إشرافه. أدرك الملك مامون أن هذا الأمر واجب الطاعة، ثم سافر أبو الريحان البيروني لكي يحيا حياة الجد والعزة مع الملك فاتح الهند محمود الغزنوي. رحب به الملك محمود، وضمه إلى علماء مجلسه، وضمن له ما يكفيه للعيش عيشة كريمة ليتفرغ للعلم والاستنباط والاستكشاف.
دخل أبو الريحان البيروني الهند في ركاب السلطان محمود نفسه، ورافقه في فتوحاته الظافرة طول البلاد، لكنه لم يهتم بهذه الغزوات قدر اهتمامه بدرس واستقصاء وبحث أحوال الهند وعلومها. واستعد نفسه لأجل ذلك، وأراد أن يستفيد بعلوم الهند وثقافاتها. فقد عكف على دراسة اللغة السنسكريتية، وهي لغة قديمة للهند، كتبت بها الكتب المقدسة الهندوسية، وتستخدم في الأوراد والوظائف والطقوس الدينية الهندوسية حتى اليوم، وتتفرّع منها اللغة الهندية التي تتخذ أحرفها وبعض كلماتها في الكتابة.
أتقن العلاّمة البيروني اللغة السنسكريتية، وبلغ بدراستها ما لم يبلغه غيره من علماء عصره في مجال التحقيق العلمي. واختلط مع رجالها وعلمائها ومثقفيها، ووقف على ما عندهم من العلم والمعرفة والثقافة. واطلع على كتبهم في العلوم والرياضيات ومختلف طوائفهم. ودرس جغرافية الهند من سهول وأودية وأنهار وجبال وغيرها، إضافة إلى عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها المختلفة. فلما اطمأن إلى ما وقف عليه من مختلف فنون المعرفة عندهم وعرف بتقاليدهم ورسومهم، وألم بمناهجهم في البحث وطرائقهم في أعمال الفكر. وعرض لنا حضارة الهند ومدنيتها عرضًا شاملًا يتميز بدراسته النقدية العميقة المستفيضة. أصبح من أهم الملهمين للعلوم الهندية، ولقبوه بمؤسس علم الهنديات (علم دراسة الهند وشعوبها)، ومترجم ثقافات الهند للعالم العربي. وأثمرت هذه الدراسة كتابه عن ثقافة الهند والذي دون فيه كل ما أدرك ورآه خلال دراسته وتجواله، وهو الكتاب الذي يعد أعظم مؤلفاته، ويسمى بــ«تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرزولة».
كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرزولة
إن النسخة التي كتبها أبو الريحان البيروني بنفسه من هذا الكتاب عام 423هـ / 1032م ــ ضاعت، وكانت تقع في 700 صفحة. وأقدم نسخة خطية موجودة له يرجع تاريخها إلى عام 554 هــــ/1159م بعد مرور 127 عامًا على تأليف البيروني له. إن المستشرق الألماني إدوارد سخاو (Dr. Edward Sachau) والأستاذ بجامعة برلين، الذي قام بتحقيق مخطوط هذا الكتاب أول مرة عام 1887م، ونقله إلى اللغة الإنجليزية ونشر باسم «AlBeruni’s India»، قال: «إن البيروني يعتبر أكبر ظاهرة بتاريخ العلم في الحضارة الاسلامية. والكثير مما يضمه هذا الكتاب من المعلومات القيمة لم يكن بالجديد على المسلمين فحسب، بل للثقافة الأوربية في العصور الحديثة». وكانت له مهارة تامة في تحديد مدلولات المصطلحات والعبارات السنسكريتية في أضيق حيز بأوضح كلمة عربية، تدل على أنه كان صاحب ثروة لغوية عربية غزيرة من الكلمات والتعاريف على السواء.
قسم البيروني كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرزولة» إلى ثمانين بابًا مع الترقيم الأبجدي دون الأعداد حيث إن «ألف» يعادل رقم 1، و«ف» يعادل رقم 80، فأولها: «أ – في ذكر أحوال الهند وتقريرها أمام ما نقصده من الحكاية عنهم»، وآخرها: ف (ثمانون) – في ذكر أصولهم المدخلية في أحكام النجوم والإشارة إلى أصولهم». وهو في هذه الأبواب الثمانين يتحدث عن معتقدات الهندوس وشرائعهم وأحكام الفروض والعبادات عندهم كالمواريث والقرابين والكفاءات والحج والصدقات والصيام والأعياد والعقوبات والمباح والمآكل والمشارب والمحظورات. كما ذكر نظام الطبقات في مجتمعهم وأحكامه، ويشير إلى ما عندهم من أنواع الخطوط وطرائق الكتابة. وتحدث كثيرًا عن علم الفلك عند الهنود، يشرح فيه صورة الأرض عندهم وأصناف الشهور والسنين وتحليلها إلى الأيام مع ذكر مقياس الليل والنهار في حسابهم، كما يشير إلى أحكام الكواكب والنجوم ومراصدهم عندهم، ومقالاتهم في المد والجزر والكسوف والخسوف.
لم يهتم البيروني في تأليفه بتدوين تاريخ الهند السياسي بل اعتنى كثيرًا بكتابة أوضاع الهند الثقافية والفلكية والعلمية والدينية، فهو أوسع دراسة عربية وصلت في وصف عقائد الهنود وعاداتهم في الطعام والزواج والأعياد، ونظم حياتهم وخصائص لغاتهم. واعتبر بروكلمان في موسوعته تاريخ الأدب العربي «هذا الكتاب أهم ما أنتجه علماء الإسلام في ميدان معرفة الأمم».
قام العلامة أبو الريحاني البيروني بترجمة اثنين وعشرين كتابًا من اللغة السنسكريتية إلى العربية، ومن أبرزها «كتاب باتنجلي» (Patanjali) وكتاب «سانك» (Samkhya or Sankhya)، كما ذكر البيروني في مقدمة كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرزولة: «وكنت نقلت إلى العربية كتابين أحدهما في المبادئ وصفة الموجودات واسمه (سانك)، والآخر في تلخيص النفس من رباط البدن، ويعرف (بباتنجلي)، وفيهما أكثر الأصول التي عليها مدار اعتقادهم دون فروع شرائعهم». يعتبر كتاب باتنجلي أقدم مصدر ونص تأسيسي لفلسفة اليوغا الذي ترجمه البيروني إلى العربية قبل نحو ألف سنة. وكتب على هيئة سؤال وجواب، كما يتناول الكتاب نظرية اليوغا وتطبيقها ومسألة تحرير الروح من حواجزها. ويتحدث عن تقاليد دينية هندوسية، ويبحث في التفاعل بين التصوف الهندي وغيره. نشر للمرة الأولى النص الكامل لكتاب باتنجلي للبيروني مقرونًا بشروحات وافية والنص الكامل لــفلسفة اليوغا ومباديها منقولًا عن لغته الأصلية السنسكريتية باسم «كتاب باتنجلي الهندي في الخلاص من الارتباك» في عام2000م. وكتاب سانك أو سامخيا يتحدث عن مدار الأستيكا الوجودية في الفلسفة الهندوسية، وتوصف على أنها هي مدرسة عقلانية لفلسفة اليوغا الهندوسية.
كتاب القانون المسعودي
بعد وفاة محمود الغزنوي تولى مسعود بن محمود الحكم خلفًا لأبيه في عام 1030م، وكان من الهواة المولعين بالعلم، فقرب إليه العلامة البيروني، وألحقه بمستشاريه، وأحاطه بما يستحق من مكانة وتقدير. فلما استقر الوضع كتب موسوعته العلمية في علم الفلك وسماه «القانون المسعودي في الهيئة والنجوم»، وهو أكبر موسوعة في الفلك والهندسة والجغرافيا، يشتمل على إحدى عشرة مقالة، كل منها منقسم إلى عدد من الأبواب يبلغ مجموعها 142 بابًا، تغطي جميع الأرصاد والنظريات الفلكية آنذاك، فقد جمع كل النتائج التي توصل إليها علماء الفلك في الهند واليونان والمعاصرون له، ولم يطمئن إلى تلك النتائج لاختلافها فيما بينها، لذلك قرر أن يقوم بأرصاده الخاصة بنفسه. ويعد كتاب القانون المسعودي أهم مؤلفات البيروني في علم الفلك والأرصاد. ويُروى أنه لما أتم تأليفه حمله إلى السلطان مسعود صاحب غزنة، فأراد أن يجزيه على هذا العمل العظيم بعض ما يستحقه، فوجه إليه ثلاثة جمال تنوء بأحمالها من نقود الفضة، فاعتذر عن قبولها أبو الريحان البيروني وردها قائلًا: «إنه يخدم العلم للعلم لا للمال».
«الآثار الباقية من القرون الخالية»
يعد هذا الكتاب هو أهم مؤلفات البيروني في علم الفلك والجغرافيا والهندسة. يحتوي على إحدى عشرة مقالة، كل منها مقسم إلى أبواب. وهو كتاب في التاريخ العام يتناول التواريخ والتقويم التي كانت تستخدمها العرب قبل الإسلام واليهود والروم والهنود، ويبين تواريخ الملوك من عهد آدم حتى وقته، وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية، ويبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض.
لقد خلّف البيروني أكثر من 180 كتابًا، ضاع الكثير منها والباقي موزع في مكتبات العالم، وظل بعد رجوعه من الهند مقيمًا في مدينة غزنة منقطعًا إلى البحث والدراسة حتى توفاه الله عام 1048م. وأطلقت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (NASA) اسم العالم الكبير أبو الريحان البيروني على فوهة من فوهات سطح القمر عام 1970م تكريمًا لإسهامه في علم الفلك. وفي عام 2012 احتفى موقع غوغل يوم الثلاثاء 4 من سبتمبر بذكرى ميلاد العالم الفيزيائي والموسوعي أبو الريحان البيروني الذي تعتز به الثقافة العربية والإسلامية من خلال تاريخ الفكر العلمي الإسلامي ■