الشاعرة إيمان الخطابي كبرياء وألم ووميض غامض
تمثل المبدعة المغربية إيمان الخطابي حالة شعرية وإبداعية استثنائية، فعلى الرغم من أنها مقلة في إنتاجها وتتجنب الأضواء والمنصات، فإن كتابتها النوعية وعمقها الشفاف يجعلان منها حاضرة بقوة في المشهد الثقافي المغربي ويجعلان تجربتها وازنة وذات بعد مرجعي، ما دفع، على ما يبدو، الشاعر والإعلامي المغربي عبدالرحيم الخصار، المشهود له بأنه يزن أقواله جيدًا، لأن يسجل بتاريخ 25 / 7/ 2021 ما يلي في تدوينة له على صفحته بالفيسبوك: «سألني أحد الأصدقاء عن الشاعرة الأولى في المغرب، فقلت له: لا أجيد الترتيب، غير أن أهم شاعرة مغربية بالنسبة إليّ كقارئ للشعر هي إيمان الخطابي. إن كتابة إيمان الخطابي وحياتها أيضًا شعرٌ عظيم ورفيع وعميق. إنها شاعرة في مقام شاعرات العالم العظيمات». فما الذي سهّل على عبد الرحيم الخصار الشاعر والقارئ المتمرس مأمورية أن يجزم بمثل هذا الحكم؟
من أهم السمات التي تميز تجربة الشاعرة إيمان الخطابي وتمنحها تفردًا اندراجها ضمن السهل المتمنع، ذاك الذي يبدو متاحًا للجميع وعلى مرمى قلم، لكنه في الحقيقة يصعب القبض عليه وترويضه، كما أن تجربتها تجعل متتبعها يستشعر في دواخله رغبة ما وتوقًا إلى أن يبدع ويطلق العنان لملكاته، وبهذا المعنى فكتابتها هي من النوع المعدي والمنفتح رغم أنها تجربة متضمنة لنصوص قليلة لكنها تلفت الانتباه بكثافتها، فللشاعرة ديوانان متباعدان من حيث تاريخ الصدور، الديوان الأول منحته عنوان «البحر في بداية الجزر»، أما الديوان الثاني فاختارت له كعنوان «حمالة الجسد» ونصوص الديوانين كُتبت على شكل شذرات أو ومضات تجعل المتلقي يجد نفسه دومًا في وضعية طالب للمزيد ومنتظرًا ما سيأتي بشغف، كما أن الديوانين يتكاملان ويتداخلان ويأخذان القارئ نحو وجهة بعينها، وجهة تجعلنا نؤمن ونقتنع بأن الشعر يخفف الآلام ويكون أحيانًا ملاذًا، وإن مؤقتًا، في لحظات التيه والضجر، وأنه يمكن أن يكون مَسْكنًا ومُسكنًا.
شعر إيمان الخطابي يشع كبرياء وأنَفة، وهو يعطي الانطباع بأنه مستغنٍ عن العالم وصخبه، وأن ما يهمه هو أن يجعل جرحًا خفيًا وعميقًا وقديمًا يلتئم. فهل لابد من جرح ما لنكتب باستماتة؟
مكونات إبداعية
إيمان بالفعل تكتب سيرة الألم وتفاصيله وتعبر عن ذلك بهذه الصيغة السيزيفية: «لا أمتّ لدمي /إلا بصلة الألم/ ومع هذا أواظب / على مشقة الانتماء» وهي أكدت ذات انكسار: «ما زلت هناك/ مشدودة إلى جذع الألم» لتصبح المعاناة هكذا مكوّنًا جوهريًا من مكونات هويتها الإبداعية.
تحكي لنا إيمان نُتفًا من سيرتها الشخصية وتتقاسم معنا صورًا ذاتية لها كأنها تنظر ناحية مرآة ما، فتكشف عن توقها للحظات قصيّة: «أجلس إلى نهر الطفولة/أبتل بذكريات بعيدة/ وأغمس روحي في فرح الماء/ يا صوت الماء.../يا رقص الماء.../يا فتنة الماء...». وأكدت أكثر من مرة على إحساسٍ ما باليتم: «بلا أب/ كأني عيسى/لكن... لا نبوءة بانتظاري»، وورد هذا التأكيد كذلك في قصيدة «أسميني هاجر»: «لو تعرف يا أبي كم عمرًا خانني/ حين لم تكن أبي / وحين أبي انصرف/ لو نتصالح يا أبي/ لو نتخاصم، أعيد لك الماء والأسماء/ تعيد لي انتمائي». وهي تستعير نفَس الحكايات العجائبية رغم أنها لا تصوّر نفسها كبطلة بل ربما كبطلة نقيض يستهويها عدُّ خساراتها المجيدة: «صحوت اليوم، وفي نيّتي أن أطير، تفقّدت عدّتي، لم يكن بحوزتي، ما يكفي من حرية»، وكأنها تحاول، عبر الكتابة، لتخلص من خطيئة أصلية، ما تتبعها مثل ظلها ليخترق شجن دفين أبياتها بينما تقوم هي بمحاولات حثيثة للتغلب على الخواء، ومحاولات حثيثة أخرى لمنح معنى لوجودها.
هيمنة رومانسية
يستوقفنا كذلك في تجرية إيمان الخطابي هيمنة النَّفَس الرومانسية حيث تستند فيما تبدع إلى مكونات الطبيعة ومعجمها كما يبدو ذلك في هذه العناوين المختارة لقصائدها: «سيرة اللبلاب»، «منتصف الموج»، «مدّ»، «فراشة»، «حينما تطفح الزنابق»...، وكما يبدو ذلك في متن القصائد كما في قصيدة «عتاب»: «تمر قريبًا من سمائي/ ولا تطل أيها القمر!». أو في نصها الموسوم بـ«غرور»: «ماذا دهاه النهر/ كي يختال/ في حضرة كل هذا البحر». في هذه القصائد يتسيّد الحزن والأسى وتحضر حالات الحب والعشق ويهيمن الألم، مرة أخرى، بكل تلويناته ودلالاته المجاورة: الندوب، الجرح، الذبول، الاحتراق، الخوف، الفراغ، الانكسار، الوجع. ولا تتردد الشاعرة في أن تعلن على الملأ انتصارَها للحرية وتوقَها للخلاص: «لو أستطيع النفاذ بجلد روحي /أترك لهم جسدي/ وأظفر ببعض الحرية». ونسجل أن هذا النزوع الرومانسي يبدو جليًا منذ عنوان الديوان الأول «البحر في بداية الجزر» ويبدو كذلك في العديد من القصائد المتضمنة بهذا الديوان مثل قصيدة: «ثقل» التي نقرأ فيها: «ولأن الحصى/ لم يكن بخفة الوقت/بقي محاصًرا/وانفلت الماء»، أوحينما تخبرنا الشاعرة بما يلي في قصيدتها «نقيصة»: «النميمة / عيبه الوحيد/ هذا القمر».
والقصيدة لدى إيمان الخطابي هي قصيدة خافتة، تهمس ولا تصرخ، وتناهض الثرثرة والغرور، وتستحضر بكثافتها وتركيزها عوالم وتعبيرات من ثقافات أخرى مثل شعر الهايكو الياباني. هي تكتب الشذرة الدقيقة والالتماعة المضيئة لالتباس ما، وتقتصد في تعابيرها كأنها تستحي من عرض عواطفها واندفاعها وغضبها المكتوم على الفضاء العام وعلى العالم. وهي تشركنا معها في بعض الخلاصات والحكم التي هي ثمرة تجارب بعينها، كما في قصيدة «الصبي والبحر»: البحر ليس لأحد/البحر مثل الحياة/ نتركه خلفنا ونمضي»، وتقتسم معنا توقها للعب الذي يبدو واضحًا في استثمارها بعض الصور التي لا تكتمل ولا تبدو قوتها إلا في ارتباطها بالعنوان الذي اختارته للقصيدة كما في هذا النموذج: «خيبة»: «أتصور.../كيف يمكن للغيمة أن تستاء/إذا جاءت محملة بالشوق/ولم تجد السماء!»، وكذا في هذا النموذج الثاني «سوء ظن»: منكفئًا على جرحه/كان النرجس،/حين ظنه الماء يتأمل شكله». إن الشاعرة تقر بهذه الطريقة أن الإبداع هو بشكل عام مسؤولية مكسوّة بطلاء من المرح.
تجربة متفردة
تكتب إيمان الخطابي نصوصها بمداد مضمخ بدهشة متجددة وذاتية تعلن عن نفسها ببعض حشمة، وهي تحتفي بتفاصيل دالة وأحاسيس عابرة قد لا نوليها كبير اهتمام، لكنها تمنح هذه النصوص قوة وتجعلها تخلق بينها وبين القارئ ألفة ومشتركًا وجدانيًا وإبداعيًا كما تجعل كل نص وعدًا باقتسام تجربة متفّردة ■