الدهشة الأولى (مساحة ود)

الدهشة الأولى (مساحة ود)

وحدهم‭ ‬الأطفال‭ ‬يمتلكون‭ ‬تلك‭ ‬الدهشة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تموت،‭ ‬وأكثرنا‭ ‬حظًا‭ ‬مَن‭ ‬يحملها‭ ‬معه‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬نضجه‭ ‬ومرحلة‭ ‬رشده،‭ ‬بل‭ ‬دائمًا‭ ‬ما‭ ‬يساورني‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أود‭ ‬أن‭ ‬أكبر‭ ‬وأرضخ‭ ‬لحياة‭ ‬الكبار‭ ‬المملة‭ ‬المليئة‭ ‬بالاعتياد‭ ‬والتكرار‭ ‬وأشيخ‭ ‬فجأة‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬شعور‭ ‬باللحظة،‭ ‬إن‭ ‬الملل‭ ‬والديمومة‭ ‬هما‭ ‬ما‭ ‬يفتك‭ ‬بالمرء‭ ‬فتكًا‭.‬

قرأت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬صوفي‮»‬‭ ‬للكاتب‭ ‬النرويجي‭ ‬المبدع‭ ‬جوستاين‭ ‬غاردن‭ ‬حيث‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬عبارة‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الميزة‭ ‬الوحيدة‭ ‬اللازمة‭ ‬لكي‭ ‬يُصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬فيلسوفًا‭ ‬جيدًا‭ ‬هي‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الدهشة‮»‬،‭ ‬والفيلسوف‭ ‬هنا‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬التفكر‭ ‬ورؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬منظورٍ‭ ‬أوسع‭ ‬وأشمل،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬مختلفة‭ ‬وعقل‭ ‬منفتح‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬حوله‭. ‬فالفيلسوف‭ ‬لم‭ ‬يرَ‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الفرد‭ ‬العادي،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬يرى‭ ‬الجمال‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أقبح‭ ‬التفاصيل‭ ‬وأصغرها،‭ ‬ودائمًا‭ ‬ما‭ ‬يسأل‭ ‬بدهشة‭ ‬الطفل‭ ‬كيف‭ ‬صار؟‭ ‬ولماذا‭ ‬حدث؟‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬تفكّر‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬التاريخ‭ ‬بالتساؤل‭ ‬الذي‭ ‬يرجع‭ ‬إليه‭ ‬دائمًا،‭ ‬وأشغل‭ ‬فلاسفة‭ ‬العصر‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬مَن‭ ‬أنا؟‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬الإنسان؟‮»‬‭.‬

في‭ ‬ظل‭ ‬الحياة‭ ‬السريعة‭ ‬والصاخبة‭ ‬أصبحت‭ ‬نظرتنا‭ ‬إلى‭ ‬الأشياء‭ ‬نظرة‭ ‬واحدة‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الكمال‭ ‬المؤقت،‭ ‬وباتت‭ ‬السعادة‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬الماديات‭ ‬الزائفة،‭ ‬وصارت‭ ‬الدهشة‭ ‬سمة‭ ‬غريبة،‭ ‬فترانا‭ ‬نقرأ‭ ‬كتابًا،‭ ‬نرى‭ ‬فيلمًا‭ ‬أو‭ ‬لوحة،‭ ‬نسمع‭ ‬مقطوعة‭ ‬موسيقية‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬ونتعاطى‭ ‬معها‭ ‬كأننا‭ ‬مررنا‭ ‬بها‭ ‬مرارًا‭ ‬وتكرارًا‭ ‬دون‭ ‬إبداء‭ ‬أي‭ ‬فعل‭ ‬بالإعجاب‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬النفور‭!‬

إن‭ ‬تلك‭ ‬النظرة‭ ‬الاعتيادية‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬نظرة‭ ‬نحو‭ ‬اللاشيء‭ ‬وانغماس‭ ‬كلي‭ ‬مع‭ ‬موجة‭ ‬القطيع،‭ ‬انعدام‭ ‬تام‭ ‬لفردانية‭ ‬الإنسان‭ ‬وشخصيته،‭ ‬تأمّل‭ ‬معي‭ ‬لو‭ ‬أننا‭ ‬جميعًا‭ ‬تعاطينا‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬بنظرة‭ ‬موحّدة‭ ‬جامدة‭ ‬لأصبح‭ ‬الواقع‭ ‬المعيش‭ ‬واقعًا‭ ‬مميتًا‭ ‬كأننا‭ ‬آلات‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬فيها،‭ ‬فنذهب‭ ‬للعمل‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬نتحدث‭ ‬مع‭ ‬الأشخاص‭ ‬عينهم،‭ ‬نقرأ‭ ‬الصفحة‭ ‬ذاتها‭ ‬من‭ ‬الصحيفة‭ ‬اليومية‭ ‬وعلى‭ ‬الوتيرة‭ ‬نفسها‭... ‬لعمري‭ ‬إنه‭ ‬الجحيم‭ ‬ذاته‭! ‬بل‭ ‬كأنه‭ ‬‮«‬العود‭ ‬الأبدي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬ذكره‭ ‬نيتشه‭ ‬مرارًا‭ ‬وتكرارًا‭ ‬في‭ ‬مؤلفاته،‭ ‬والتي‭ ‬تنص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الكون‭ ‬والإنسان‭ ‬وكل‭ ‬أشكال‭ ‬الحياة‭ ‬سيُعاد‭ ‬خلقها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬دورة‭ ‬حياة‭ ‬مشابهة‭ ‬لما‭ ‬قبلها‭ ‬بشكل‭ ‬دوري‭ ‬ومستمر‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬فامتلك‭ ‬هذا‭ ‬الفيلسوف‭ ‬نبوءة‭ ‬حياة‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الـ21‭.‬

هناك‭ ‬عبرة‭ ‬مستفادة‭ ‬عظيمة‭ ‬قالها‭ ‬شيخ‭ ‬البلاغيين‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬أبو‭ ‬موسى‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬محاضراته‭ ‬القيمة،‭ ‬وأحاول‭ ‬تطبيقها‭ ‬قدر‭ ‬المستطاع،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭:‬‭ ‬‮«‬أعيذك‭ ‬بالله‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬ما‭ ‬يُدهش‭ ‬ولا‭ ‬تندهش‮»‬‭. ‬فما‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬دهشة؟‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تساؤل؟‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬السعي‭ ‬نحو‭ ‬كليهما؟

إن‭ ‬السعي‭ ‬نحو‭ ‬متطلبات‭ ‬الحياة‭ ‬ونحن‭ ‬متسلحون‭ ‬بسلاح‭ ‬الدهشة‭ ‬وعدم‭ ‬وأد‭ ‬الطفل‭ ‬المندهش‭ ‬في‭ ‬دواخلنا‭ ‬أو‭ ‬إسكات‭ ‬تساؤلاته‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬بسيطة،‭ ‬فنستمع‭ ‬إليه‭ ‬ونلبي‭ ‬احتياجاته‭ ‬الصغيرة،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬ننظر‭ ‬للعالم‭ ‬بعيون‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬بعيون‭ ‬ملؤها‭ ‬الدهشة،‭ ‬وكأنها‭ ‬دهشتنا‭ ‬الأولى‭! ‬■