الطريق إلى الأصالة
تقوم الأصالة في أقدم معانيها على الاتساق بين القيم والمعتقدات الباطنية للمرء وتصرفاته الظاهرية؛ بمعنى أن يكون الإنسان صادقًا مع نفسه في كل لحظة وتقود الأصالة إلى ما يعرف بـ «أثر الدومينو» حيث تجعلنا أكثر انفتاحًا على التجارب الجديدة، فنرى أنفسنا والعالم من حولنا بصورة واقعية؛ ويجعلنا هذا أفضل في حل مشكلاتنا؛ فنكون في حالة من التوافق النفسي الذي يسهل علينا أن نكون أكثر أصالة، وأكثر قبولًا لأنفسنا. وهكذا نفكر في وجهتنا بالحياة، ونكون أكثر إبداعًا ومشاركة في أنشطة تعبّر عنا، ونستفيد من نقاط قوتنا، ونجد هدفًا ومعنى لحياتنا، ونعيش حالات من التدفق والازدهار، ونستمر في كفاحنا من أجل التميز فيما نقوم به، ونبلغ النجاح.
من بين العديد من الكتب التي تناولت مفهوم الأصالة - والتي تضاعف عددها مؤخرًا وفقًا لكتب جوجل - كتاب «أصيل» للبروفيسور ستيفن جوزيف، الذي يشرح ثلاثة شروط لتحقيق الأصالة: معرفة الذات وتحمل مسؤوليتها والاستعداد ليكون المرء نفسه. ويقترح عددا من التمارين المعينة على تحقيق هذا الحلم.
معرفة الذات
وفقًا للبروفيسور جوزيف، يتميز الأصيلون بمعرفة الذات، حيث يدركون ما يحبون وما لا يحبون، ويقفون على ما هم جيدون فيه وما لا يتقنون. وهم حاضرون في اللحظة الراهنة، وعلى وعي بأفكارهم ومشاعرهم. وعادة ما يدركون ما يحدث حولهم ويستوعبونه، ويلاحظون ولا يصدرون أحكامًا. ويرى أن التمتع بالأصالة يقتضي القدرة على مواجهة الذات مواجهة صادقة، والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة. وفي ظنه أن الأصيل يستمع إلى صوته الباطني وحدسه وحكمته، على عكس غير الأصيل المنفصل عن نفسه الساعي وراء نيل رضا الآخرين. ويقترح ما يلي لمعرفة الذات بصورة أكبر:
أولًا: افهم تاريخك الشخصي: اكتب لعشرين دقيقة متواصلة وبصورة حرة وعفوية متدفقة عن ماذا يعني اسمك وحكايته؟. وعما إذا كنت تتمنى تغييره، ولماذا؟ وعن اسم الدلع، وماذا يقول عنك في اعتقادك؟ وأهم صفات والديك، ومدى تشابهك أو اختلافك عنهما. وأكثر ما كنت تحب عمله وأنت طفل، وما تحبه أكثر في نفسك؟ وما تود تغييره في نفسك؟ وكيف تتصرف عندما تشعر بالخوف الشديد؟ ثم عد لما كتبت، وفكر فيه، واستمر في طرح الأسئلة على نفسك: ما سبب قولي ذلك؟ ماذا تقول إجابتي عني؟
ثانيًا: الكشف عن مخططك: ما الذي في جعبتك من ذكريات الطفولة الباعثة على البهجة؟ ماذا كنت تفعل؟ اكتب عن ذلك لعشر دقائق بلا توقف، واذكر كيف كنت تبرز قوتك الطبيعية ومواهبك وتتمتع باستخدامها. ثم فكر في أوقات كنت يائسًا فيها، واكتب ما يخطر ببالك لعشر دقائق دون توقف. وتذكر قيامك بأمور لا تبهجك بناءً على طلب الآخرين. والهدف، تذكيرك بعفوية الطفولة، والوقوف على مكامن قوتك واهتماماتك وقدراتك.
ثالثًا: فكر في أشخاص يعجبونك: سواء أقارب، أو أصدقاء، أو شخصيات عامة، أو تاريخية، وسيبصرك ذلك بصفات تود أن تكون فيك.
رابعًا: ما قيمك؟ ما الشيء الأكثر قيمة في حياتك؟ فكر لخمس دقائق، وإذا لم يكن الوقت ولا النقود مشكلة بالنسبة لك، ففيما ترغب في إنفاق حياتك؟ وأي نوع من العطاء ستقدم؟ ولماذا؟
خامسًا: دع لاوعيك يخبرك: انظر حولك من دون تفكير، وتبين لماذا تختار شيئًا دون الآخر؟ ثم صف هذا الشيء واستخدم «أنا»- وكأن الشيء يتحدث - لتقول فردة قفاز، مثلًا: «أنا قديمة وتائهة عن نصفي الآخر». وخذ وقتك لتفكر في الجملة، وما ينطبق عليك منها، فهذه أداة لمعرفة نفسك.
سادسًا: انتبه لأحلامك: حاول تذكرها واكتبها، ثم عُد لها، ودع أفكارك تتداعى. كرر ذلك يوميًا لأسابيع، وستندهش مما ستعرف.
سابعًا: حدد علاقاتك الحقيقية: هل هي مع أحد والديك أو مع صديق، أو زميل في العمل؟ هل هي علاقة ذات معنى وقيمة بالنسبة لك؟ هل اخترت أن تكون طرفًا فيها؟ وهل تقدرها؟ وهل تستحق وقتك وطاقتك؟
ثامنًا: متى تكون نفسك؟ ومتى لا تكون؟ تذكر آخر موقف شعرت فيه بهذا الشعور، أو ذاك، متى، ومع من؟
تاسعًا: تخيل نفسك المثالية: ذاتك الحقيقية، وذاتك المثالية، وما تود أن تكون؟
عاشرًا: تخيل المعجزة: أنك تفيق من نومك وقد تحققت أحلامك، كيف ستشعر؟ ماذا ستفعل؟ صف يومًا في حياتك، وسيساعدك هذا على استشعار أهمية تغيير نفسك.
تحمل المسؤولية
يؤكد البروفيسور جوزيف أن الأصيل لا يترك الآخرين يغمضون عيونه عن حقيقة، ولا يسمح لهم بالتنمر عليه، بل يتحمل مسؤولية اختياراته. ويعرف أنه مؤلف قصة حياته. ولا يخجل من أخطائه، ولا يلوم إلا نفسه. وكثيرًا ما يتعلم مما يحدث له، ويتطلع إلى المستقبل بأهداف واضحة، وحكمة تعينه على التقدم، فهو يعرف حدود مسؤولياته، ومسؤوليات الآخرين. ويهرع إلى مساعدة الغير، ويقدم حلولًا، ويشجع سلوكيات تفضي إلى تغيير إيجابي. ولا يحاول السيطرة على الآخرين أو التلاعب بهم، بل يحترمهم. ويكون له موقفه بعيدًا عن الحلول الوسط. فالأصالة تقتضي توافر القدرة على تخطي الخوف من التفرد، والرغبة في اتباع القطيع، ليكون الأصيل رئيس نفسه. ويقترح بعض التمارين كالآتي:
أولًا: الاعتراف بارتكاب الخطأ والتطلع نحو المستقبل: فكر في بعض ما ارتكبت من أخطاء لا تزال تتعبك، ماذا يمكن أن تتعلم من التجارب؟ واكتب عن ذلك لعشر دقائق. ثم فكر في كيفية الاستفادة من الدروس، واسمح بتجاوز الماضي وخوض تجارب طازجة.
ثانيًا: افهم دفاعك: فكر في موقف شعرت فيه بالخجل أو الذنب، ولاحظ صعوبة تذكر التفاصيل، وافهم ميلك للدفاع عن نفسك، وحاول أن تعرف متى تكذب على نفسك عندما تقول - مثلًا- «فعلت ما في وسعي للمساعدة» أو «لم تكن غلطتي».
ثالثًا: كرر لماذا؟: فكر في أمر ما لم يمض على ما يرام مؤخرًا، واسأل: ما السبب؟ ثم كرر السؤال نفسه، وابحث عن إجابة جديدة، حتى يتعمق فهمك للموقف وتحصل على سبب مقنع وأقرب للحقيقة.
رابعًا: استبق السلوك الدفاعي: فكر في شيء يحدث في حياتك حاليًا ويضايقك - كوضع صعب في العمل - ثم اسأل نفسك: هل تستطيع تجاوزه وترى نفسك ترتفع لمستوى التحدي في المستقبل؟ والعب بالأفكار في عقلك كما تتمنى أن تجري الأمور. وبعد انتهاء الموقف، قارن ما تخيلت بما حدث بالفعل، وحدد ما يمكن أن تتعلم.
خامسًا: انفتح على الجديد: حدّد ما ينطبق عليك من التالي: أعتز بالفرص الجديدة لأعرف عن نفسي المزيد/ أتقبل الفشل وأتعلم منه/ أقبل الإطراء والنقد على حد سواء. وسيدل ذلك على مدى تحملك لمسؤولية نفسك.
سادسًا: ابحث عن ذرّة حقيقة: عندما تشعر بأن أحدهم ينتقدك، اسأل نفسك عما إذا كان هناك شيء من الحقيقة في نقده، ثم تخلص من باقي النقد، وتذكر أن مواجهة الخبرات تثير تحدينا وتقدم لنا فرصًا لمعرفة أنفسنا.
سابعًا: ذرة ثقة في قدرتك: قد نشعر أحيانًا بأننا عالقون، وبمراجعة حياتنا ندرك كم تغيرنا وتطورنا. ولهذا، فكر في وقت صعب مر عليك في الماضي؛ واسأل: ماذا عرفت منه عن نفسك؟ هل اكتشفت نقاط قوة لم تكن تعرفها؟ هل ازددت حكمة؟
ثامنًا: لا تنظر لما مضى بندم: اسأل نفسك: لو اليوم هو آخر يوم في حياتي، هل سأفعل ما أفعل اليوم؟ واعرف أيّ مما يأتي ينطبق عليك: أنا أقوم بما أريد حقًا/ أقوم بما أريد القيام به معظم الوقت/ أعمل ما أود أحيانًا/ لا أفعل ما أريد معظم الوقت/ لا أفعل ما أود مطلقًا. وستكون إجابتك مرآتك، التي تساعدك على التفكير في الاتجاه الذي يمكن أن تأخذه لتكون نفسك.
تاسعًا: اكتب مهمتك: ما الذي تهدف إليه؟ وغُصْ في أعماقك وفكر في قيمك وهدفك العام، وضع أهدافًا مثل تكريس حياتك لعائلتك، أو التأثير على حيوات من يهمونك.
عاشرًا: تخطّ خوفك من التقييم السلبي: نتيجة للعيش وفقًا لقواعد الآخرين وتوقعاتهم، قد يتربى لديك خوف من التقييم السلبي، فهل توافق على ما يلي: يقلقني ما يفكر الناس فيه/ يهمني الانطباع الذي أتركه لدى الآخرين. إذا وافقت على ما سبق فذلك يعني أن خوفك من التقييم السلبي يمنعك من أن تكون نفسك. ولمعرفة المزيد عن نفسك، فكر في موقف حدث لك، وكنت مهتمًا برأي الآخرين. ماذا حدث؟ وما المختلف الذي يمكن أن تفعله لو عدت إلى الوراء؟
كن أنت
في جزء آخر من كتابه، يرى البروفيسور جوزيف أنه لدى كل شخص شيء أصيل، ولهذا ينفق الناس أوقاتهم على ما يحبون، وعلى أنشطة الشغف التي تشعرهم بالحياة. ويؤكد أن كون المرء أكثر انفتاحًا على الخبرات يعني الميل إلى تعزيز نقاط القوة والاهتمامات، والاستفادة من الآخرين بصورة أكبر. ولتكون أنت يقترح ما يلي:
أولًا: كيف تعيش حياتك: فكر في شغفك - الأشياء التي تستمتع بعملها، وفي مسرة الشعور بالتدفق؛ واسأل: ما المهم بالنسبة لك؟ وما القيم التي تمثل أولوياتك؟ وما الذي تجيد عمله؟ وما قدراتك ومواهبك ونقاط قوتك؟ وفكر في كيفية إنفاق وقتك.
ثانيًا: مارس التنفس الواعي: الأصيلون متأملون، فتأمل لتزيد من وعيك بذاتك ومن قدرتك على اتخاذ قرارات مدروسة. ويمكنك أن تبدأ بتمرين تنفس لدقيقة واحدة، وراقب أفكارك.
ثالثًا: راقب واستمع بتأمل: اختر شجرة أو زهرة، وراقبها لخمس دقائق، وأغمض عينيك واستمع دقيقتين للأصوات من حولك.
رابعًا: مارس نشاطًا بوعي: كثيرًا ما نعمل في شيء وعقولنا في مكان آخر، كأن تخرج ثم تسأل نفسك: هل أغلقت الباب؟ اختر نشاطًا يوميًا، كترك البيت إلى العمل بوعي وركز بصورة كاملة، وتحدث إلى نفسك، ولاحظ أفكارك.
خامسًا: قبول الذات: الطريقة التي نتحدث بها عن أنفسنا مهمة؛ وعادة لا نلاحظ كيف نثقل أنفسنا بالطلبات، ونفرط في الحكم عليها؛ بينما المطلوب التعاطف معها، فلاحظ متى تفكر فيما يتعين عليك فعله، ولا تحد من حريتك في الاختيار، وانتبه لنفسك عندما تسمعها تقول يجب، ولابد أن أفعل شيئًا. واسأل نفسك مع أي من التالي تتفق: أقدر نفسي كشخص، حتى لو لم أكن مثاليًا/ إذا انتقدني أحدهم يمكن أن أتعلم من ذلك دون التقليل من شأن نفسي/ لا يهم أن يحكموا عليّ، المهم حكمي على نفسي: إذا وافقت على ما سبق، فذلك يعني أن لديك درجة عالية من القبول. وإذا لم توافق فلابد أنك تواجه صعوبة في تقبل نفسك، وتحتاج إلى دعم.
سادسًا: انتبه إلى تفاعلك مع الناس: هناك ثلاثة مواقف في التعامل: الطفل، والأب والبالغ، ففي موقف الطفل نشعر ونفكر بطريقة طفولية؛ وفي موقف الأب نتصرف بفوقية مسيطرة، أما موقف البالغ فهو الاستجابة الأصيلة وفقًا لبيئة الـ «هنا والآن». فاسأل نفسك في كل تواصل هل أنت مثل أب مسيطر، أم طفل مسيطر عليه، أم بالغ؟
سابعًا: كن حازمًا: الأصيلون مستقيمون ويتعاملون مع الآخرين ومع أنفسهم بصورة صادقة ومحترمة. ويستطيعون قول نعم ولا، بشجاعة إذا ما رغبوا في ذلك. امنح نفسك وقتًا للتفكير فيما يتفق مع قيمك. واستمع لصوتك الباطني.
ثامنًا: ارسم حدودًا: تخيّل نفسك تقود جملًا في صحراء، وتهب عاصفة ترابية توقفك، فتجلس في خيمة، ثم يدس الجمل أنفه في خيمتك ويستأذنك في وضع أنفه عشر دقائق، فتتعاطف معه وتسمح له بذلك، وبعد عشر دقائق أخرى يضع عينيه وأذنيه، وبعد عشرين دقيقة يستأذن ليدخل عنقه، ثم رأسه، حتى تضيق عليكما الخيمة فتخرج أنت منها. لتعلم في النهاية أنك إذا لم تضع حدودًا وتلتزم بها فستجد نفسك في موقف لا يطاق.
تاسعًا: حوّل أحلامك إلى أهداف محددة. فكر في حياتك في مرحلة ما بالمستقبل - أيامًا أو شهورًا أو سنوات - لمساعدة نفسك على التفكير فيما تود أن تصل إليه. وتخيل تحقق كل ما تتمنى، كيف سيكون الوضع؟ وضع قائمة أهدافك لتفكر فيها وتحققها. وكون لنفسك شبكة دعم، وإطارًا زمنيًا واقعيًا للإنجاز. ويمكن أن تبدأ بتقسيم هدفك الأول وتعرف ما ينبغي عمله.
عاشرًا: التزم بالسلوك الجديد: تعني الأصالة الفعل، فالتزم عمل شيء واحد جديد ومثير للتحدي خارج منطقة راحتك. واكتب ما ستفعل ومتى. ثم قيم من 1-10 مدى تأكدك، بحيث يعني 1: غير متأكد. وإذا قل تقييمك عن عشرة فابحث عن المعوقات، ومرن نفسك حتى تختار نشاطًا واحدًا، على الأقل، يجعلك أصيلًا.
في الختام، إذا بدا الطريق نحو الأصالة بالغ الصعوبة في عالم يفرض على معظمنا التجمل والتصنع والمجاملة... تبقى الأصالة حلمًا نسعى وراءه، لأن إدراكه يعني الراحة المأمولة والسعادة الحقيقية ■