وقفة مع الذكرى الستين لاستقلال الجزائر

تحتفل الجزائر في الخامس من يوليو من كلّ عام بعيد استقلالها وعودتها إلى الفضاء العربي والإسلامي، بعد أن كاد يودي بشخصيتها ليلُ الاستعمار الحالك وقهريتُه الفتّاكة، ذلك الليل الطويل الذي دام قرنًا واثنين وثلاثين سنة.
لكن هذه المحطة التاريخية الحساسة في تاريخ الجزائر المعاصر، لهذا العام الميلادي 2022 تُعتبر ذات فرادة وخصوصية، فهي تمثل الذكرى الستين لانتصار الثورة الجزائرية المظفرة (1954 - 1962م) على الاستعمار الفرنسي، وعلى الحلف الأطلسي الذي كان يقف خلف فرنسا ويدعمها ماديًا ومعنويًا علنًا وفي كلّ المحافل الدولية.
إن افتكاك الجزائر لاستقلالها واسترجاع شخصيتها التاريخية المتماهية مع اللغة العربية والإسلام، لم يكن أمرًا بسيطًا، أو حدثًا عابرًا، بل كان منعطفًا كبيرًا في التاريخ، ودرسًا تاريخيًا لا يمكن أن يُنسى، لكافة الشعوب المحبة للسلام وللحق في الانعتاق وتحرير أرضها من الغاصبين المحتلين لأرض وممتلكات وخيرات غيرهم من بني البشر، ومن أبرز العبر المستخلصة لهذه المحطة التاريخية أن الحرية تحتاج دومًا إلى تضحيات جسام وإلى مهر ثمين وباهظ القيمة، ودليل ذلك أن ثمن حرية الجزائر مليون ونصف مليون من الشهداء، هذا أثناء فترة الثورة التحريرية فحسب، أما الشهداء وضحايا الاحتلال منذ 1832 فقد تجاوز ستة ملايين كما صرّح بذلك رئيس الجمهورية الجزائرية السيد عبدالمجيد تبون!!
لقد كانت فرحة استعادة الجزائر شخصيتها وهُويتها الطبيعية الأثيلة لا توصف، ليس فقط على مستوى شعور الشعب الجزائري، وإنما أيضًا على مستوى شعور العرب والمسلمين جميعًا، وكافة الأحرار من الشعوب والأمم التي تقدس الحرية وتبغض الاستعمار والتبعية والتعدي على الآخرين ومحو مقومات شخصيتهم وحقهم في الوجود والعيش بكرامة.
استقلال الجزائر هدية للعروبة والإسلام
حتى إن الفنان الجزائري الراحل عبدالرحمن عزيز، وهو من قادة الكشافة الإسلامية الجزائرية، كان يُلقب في وقتها بمطرب الشباب، صَدحَ بأغنية مؤثرة جدًا من نظم الشاعر «السعيد حايف»، مطلعها:
يا محمد مبروك عليك
الجزائر رجعت ليك
أنا عملت اللّي عليَّ
باقي تعمل اللّي عليك
وشرح هذين البيتين باختصار: أنّ شهداء ثورة التحرير الجزائرية الذين ضحوا بدمائهم، وأرواحهم الزكية، اعتبروا استقلال الجزائر هديةً لسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي هدية للعروبة والإسلام)... لأنهم أعادوا الجزائر إلى فضائها الحضاري والثقافي الطبيعي، أي الفضاء العربي الإسلامي، بعد أن أخرجتها فرنسا الاستعمارية منه عنوة، وسلبتها هُويتها التي عُرفت بها منذ الفتح الإسلامي المبارك؛ وأن أي شهيد من شهداء الثورة الجزائرية ترك وصية لأجيال الاستقلال، مفادها: أنه عمل ما كان يجب عليه، وقدم روحه فداءً للوطن وتحريره من نير الاحتلال، وأنّ الذي يتبقى هو أن يعمل أبناء الاستقلال ما يجب عليهم من أمانة الشهداء وتنفيذ وصيتهم، المتمثلة في تشييد صروح الوطن والعمل على رفعته وتعزيز نهضته ومكانته بين دول العالم أجمع. ففي نظر الفنان عبدالرحمن عزيز أن تلك القصيدة تمثل وصية الشهداء لأبناء الاستقلال، وأن الأجيال الجزائرية التي لم تَعرف مرارة الاحتلال يجب عليها ألا تنسى هذه الوصية أبدًا مهما تغيّرت الظروف وأحوال الدنيا ومعادلاتها.
تمهيد دولي لستينية الاستقلال
قبل حلول موعد الذكرى الستين لاستقلال الجزائر، بذلت الجزائر جهودًا جبارة، خاصة على الصعيد الخارجي، من أجل معالجة ثلاثة ملفات تعتبرها على درجة كبيرة جدًا من الأهمية، وهي كالآتي:
الملف الأول: يتمثل في ضرورة تقديم فرنسا اعتذارًا رسميًا للجزائر والشعب الجزائري، على جرائمها ومجازرها الدموية الكثيرة التي تدينها وتدين معها ثقافتها وحضارتها، ورغم أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يُعد أول رئيس فرنسي وُلد بعد استقلال الجزائر، ولم يشهد الحقبة الاستعمارية، وبالتالي فهو أول رئيس فرنسي يعترف بجرائم فرنسا إبان حقبة احتلالها للجزائر، بيد أنه على صعيد الاعتذار، اقتفى أثر الساسة الفرنسيين السابقين الذين رفضوا تقديم اعتذار رسمي للجزائر عما تمّ اقترافه من مجازر وإبادات جماعية وتعذيب وحرق للقرى والأراضي الزراعية والمحاصيل الفلاحية، ونهب الثروات الباطنية الجزائرية وتحويلها مجانًا إلى المصانع الفرنسية.
وكانت الدولة الجزائرية تأمل في أن يتم تقديم الاعتذار المطلوب رسميًا قبل حلول الذكرى الستين لاستقلال الجزائر، لكن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع، وما يزال مطلبًا معلقًا، وهو مطلب ذو تأثير شديد في سيرورة العلاقات الدبلوماسية الجزائرية - الفرنسية.
الملف الثاني: يتمثل في فتح باب المفاوضات الدبلوماسية مع الطرف الفرنسي من أجل استعادة رفات قادة المقاومة الشعبية الجزائرية، ممن احتفظت بهم فرنسا، منذ أن وطأ الاحتلال الفرنسي أرض الجزائر سنة 1832م، وإلى أن اندحر ومُني بهزيمة شنيعة نكراء منتصف عام 1962م.
وقبل الحديث بإسهاب عن بعض دلالات هذا الحدث، يجدر بي أن أذكّر قراء مجلة العربي الكرام بأن الاحتلال الفرنسي البغيض الوحشي قَتل وعذّب الكثير من قادة المقاومة الشعبية الجزائرية، ثم قَطعَ رؤوسهم وقرّر الاحتفاظ بها في أماكن عسكرية مجهولة. وبعد مضي عقود زمنية طويلة على تلك الجرائم الوحشية، سلّمت السلطات الفرنسية الكثير من تلك الجماجم إلى «المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي» وهو مؤسسة فرنسية تُعنى بالبحث العلمي ونشر الثقافة العلمية، تأسست سنة 1793م، يقع مقرها الرئيس في حديقة النباتات في العاصمة الفرنسية باريس.
وهذا المتحف يضم آلاف الجماجم، معظمها مجهولة الهُوية؛ ولقد حرصت الدولة الجزائرية منذ سنوات طويلة على ضرورة استرجاع الرفات والجماجم التي تعود إلى العديد من قادة المقاومة الشعبية الجزائرية؛ ومما عزّز هذا الموقف أكثر إعلان منظمة اليونسكو سنة 2008م، بأن احتفاظ المتحف الوطني في فرنسا بالجماجم أمر قد حقق أهدافه العملية والبحثية، وأن الوقت قد حان من أجل إرجاعها إلى أهلها وإلى موطنها الأصلي شرط أن تُدفن في التراب لا أن توضع في متحف آخر مرة أخرى!
و قد سبق للسيد برونو ديفيد مدير المتحف الوطني أن صرّح لبعض وسائل الإعلام الفرنسية بأن لائحةً تتشكّل من 41 جمجمة ثبت أنها تعود لمقاومين جزائريين تصدوا للاحتلال الفرنسي، وأن من بين تلك الجماجم جمجمة الشيخ الشهيد بوزيان الذي فجر ثورة الزعاطشة قرب مدينة بسكرة في الجنوب الجزائري سنة 1849م، وجمجمة الشيخ الشهيد محمد الأمجد عبدالملك المشهور بلقبه الثوري (الشريف بوبغلة) الذي فجر ثورة شعبية بين منطقة القبائل ومناطق وجبال الهضاب العليا سنة 1854م.
فرنسا تخجل من جرائمها
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد تعهد خلال آخر زيارة له إلى الجزائر بتاريخ السادس من ديسمبر 2019 م، بإعادة رفات بعض رموز المقاومة الشعبية الجزائرية خلال القرن التاسع عشر، ومنذ تلك الزيارة تم التنسيق مع وزارة الخارجية الجزائرية والهيئات والمنظمات المعنية بهذا الملف، مما أفضى إلى استعادة 24 رفاتًا بعد أن ظلت في المتحف الوطني الفرنسي لمدة زمنية تربو على 170 سنة!!
ويمكن الآن - بعد هذا العرض - أن ألخص بعض دلالات هذا الحدث التاريخي في النقاط الآتية:
-1 مماطلة فرنسا لمدة تقترب من القرنين، وتأجيل إعادة رفات وجماجم المقاومين الجزائريين، يكشفان حجم خجلها من جرائمها أمام الأجيال الفرنسية والغربية الجديدة التي تجهل حيثيات هذا الملف جهلًا كاملًا، كما يعكس خشيتها من المطالبة بالتعويض.
-2 وضع فرنسا لجماجم رموز المقاومة الشعبية الجزائرية في متحف يهتم بالقضايا العلمية والطبيعية، يستبطن في أعماقه محاولة فرنسا التخفيف من آثار الجريمة التي تؤشر على مدى قساوة وبشاعة وهمجية الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
-3 إعادة جزء من رفات وجماجم المقاومين الجزائريين يأتي في سياق محاولة فرنسا إصلاح العلاقة مع الدولة الجزائرية، خاصة بعد التغيير الذي فرضه حراك الشعب الجزائري منذ تاريخ 22 فبراير 2019م؛ وهو حراك تبنته السلطة الجزائرية وأقرت بعدالة مطالبه وسلامة غاياته الاجتماعية، وهو أمر أقضّ مضاجع فرنسا، فلم تخف خشيتها على تقلص مصالحها في الجزائر.
-4 هذا الحدث له دلالة ثقافية عميقة، تتمثل في تودد السلطة الفرنسية إلى الجزائريين الذين أعلنوا في مناسبات كثيرة ــ بما في ذلك رؤساء الجامعات - تخليهم عن اللغة الفرنسية، وبدء الاعتماد على اللغة الإنجليزية في تدريس المواد العلمية في الجامعات الجزائرية. ثمّ جاءت الخطوة الحاسمة من السلطة الحاكمة في الجزائر، بتبنّي هذه الرغبة رسميًا، حيث أعلن رئيس الجمهورية السيد عبدالمجيد تبون والسيد وزير التربية عن برمجة تدريس اللغة الإنجليزية في المستوى الابتدائي، بداية من الموسم الدراسي القادم: 2022/2023.
أما الملف الثالث: فيتمثل في إصرار الدولة الجزائرية على استرجاع الأرشيف الجزائري؛ حيث بدأت الجزائر فتح هذا الموضوع مع السلطات الفرنسية منذ سنة 1967م، وبين الفيّنة والأخرى تذكّر أصحاب القرار في فرنسا بقضية الأرشيف المسروق، وهو متنوّع المضامين، يتمثل القسم الأول منه في علاقة الجزائر بالدولة العثمانية قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م، وهو يغطي فترة زمنية طويلة استمرت ما يزيد علــى ثلاثة قرون (1514-1830م)... بينما يتمثل القسم الثاني من هذا الأرشيف في الوثائق الشاهدة على جرائم الاحتلال الفرنسي؛ ومن جهتها تدعي فرنسا بأنها أعادت إلى الجزائر قدرًا معتبرًا من هذا الأرشيف، وأنها فتحت أجزاء منه أمام الباحثين في التاريخ، إلاّ أنّ عديد التقارير تشير إلى أن الأجزاء المعروضة أمام الدارسين والباحثين، لا تتعلق بجرائم القتل والإبادة الجماعية، مما يعني أنّ فرنسا لجأت إلى حيلة الانتقاء، هروبًا مما يدينها ويُحرجها سواء على الصعيد الدولي، أو حتى أمام الأجيال الفرنسية الجديدة، التي تجهل ما اقترفته دولتهم من جرائم تلطّخ سمعتها في الرغام.
أما عن أسباب خشية الدولة الفرنسية من الكشف عن أضابير هذا الأرشيف وتسليمه لأصحابه الشرعيين، فهي كثيرة، يأتي في طليعتها: الخوف من المتابعات الجنائية أمام المحاكم الدولية، ثم قضية التعويض عن جرائم الإبادة الجماعية التي شهدتها العديد من المدن والمداشر والقرى والأرياف الجزائرية، ومنها على سبيل المثال مجازر الثامن من مايو سنة 1945م، التي ذهب ضحيتها ما يربو على 45 ألفًا من أبناء الشعب الجزائري، ناهيك عن التعويض عن تجارب فرنسا النووية والكيماوية التي بدأتها منذ سنة 1957 في الصحراء الجزائرية وقد بلغ عددها 57 تجربة، وهي تُعتبر من أخطر الجرائم التي تخشى فرنسا تسليط الأضواء عليها أمام الرأي العام في الداخل والخارج، وبما أنها ذات صلة وثيقة بالأرشيف السري لمرحلة الاحتلال الفرنسي، فإن السلطات الفرنسية المتعاقبة تماطل في مسألة تسليم هذا الأرشيف إلى الجزائر؛ لأنه في حال تسليمه سوف يكشف عن حقائق كثيرة مثيرة وخطيرة، لم يتحدث عنها أحد من المؤرخين بسبب سريتها، ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن ملف الأرشيف ما يزال يثير توترًا مطّردًا في العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا إلى يومنا هذا.
شكر خاص للكويت ومجلة العربي
في آخر هذا المقال أجد نفسي مدفوعًا إلى ضرورة تسجيل كلمة مقتضبة للتاريخ؛ تتمثل في إسداء الشكر وعظيم الامتنان لدولة الكويت الشقيقة، وللشعب الكويتي النبيل، على المواقف المبدئية الشهمة إزاء ثورة التحرير الجزائرية، فإن صفحات التاريخ طرّست بماء الذهب مواقف إنسانية شهمة للكويت حكومةً وشعبًا، تأييدًا ودعمًا لمسيرة الجزائر الطويلة في سبيل استرجاع حريتها وافتكاك كرامتها، وضروب الدعم الكويتي كثيرة متنوعة يمكن العودة إليها في مظانها الأصلية، ويكفي الكويت توقُّلًا في الشرف والمجد أنها الدولة العربية الوحيدة التي فرضت ضريبةً قارة على تذاكر السينما، تذهب عوائدها إلى ثورة التحرير الجزائرية، كما أسست لجنة شعبية برئاسة سمو الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، تكفلت بجمع التبرعات للشعب الجزائري وثورته، وعندما أسست دولة الكويت مجلة العربي الثقافية المصورة، وصدر عددها الأول شهر ديسمبر 1958م، أي بعد أربع سنوات على اندلاع الثورة الجزائرية، احتفت مجلة العربي، في عددها الافتتاحي بثورة تحرير الجزائر، وخصصت لها ملفًا مطولًا، أشادت فيه بهذه الثورة المظفرة، وجزمت بانتصارها لأنها قضية عادلة، ولأن استعمار الآخرين ظلم تأباه القيم الإنسانية، وتعارضه مبادئ حقوق الإنسان. فكلّ الشكر لدولة الكويت ومجلة العربي على المواقف النبيلة الخالدة ■