«محمد شكري... غواية الكتابة والعيش» مذكرات الصديق والحقيقة

 «محمد شكري... غواية الكتابة والعيش» مذكرات الصديق والحقيقة

يأتي‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬محمد‭ ‬شكري‭... ‬غواية‭ ‬الكتابة‭ ‬والعيش‮»‬،‭ ‬الصادر‭ ‬حديثًا‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬لمؤلفه‭ ‬الروائي‭ ‬والكاتب‭ ‬المغربي‭ ‬محمد‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬التازي،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أصدقاء‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬شكري،‭ ‬ليُعزِّزَ‭ ‬مكانة‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬شغل‭ ‬الناس‭ ‬بـ«خبزه‭ ‬الحافي‮»‬‭ ‬وبأعماله‭ ‬الروائية‭ ‬والقصصية‭ ‬الأخرى‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬القيم‭ ‬والمكون‭ ‬من‭ ‬204‭ ‬صفحات‭ ‬من‭ ‬الحجم‭ ‬المتوسط،‭ ‬نتعرف‭ ‬على‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬وعوالمه‭ ‬والظروف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الصعبة‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬منه‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬كتّاب‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬ممن‭ ‬تذوّقوا‭ ‬حرارة‭ ‬الواقع‭ ‬لكتابة‭ ‬رواية‭ ‬واقعية‭ ‬بالفعل‭ ‬وهي‭ ‬كتابة‭ ‬حركت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المياه‭ ‬الراكدة‭ ‬ولامست‭ ‬ما‭ ‬لامسته‭ ‬من‭ ‬التابوهات‭.‬

ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬حول‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬ناقد‭ ‬أو‭ ‬باحث‭ ‬قارب‭ ‬أعماله‭ ‬الأدبية‭ ‬مقاربة‭ ‬أكاديمية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نيل‭ ‬مدح‭ ‬أدبي‭ ‬أو‭ ‬شهادة‭ ‬جامعية،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬مذكرات‭ ‬كتبها‭ ‬صديق‭ ‬عاش‭ ‬لسنوات‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقطف‭ ‬ثمار‭ ‬شهرته،‭ ‬يقول‭ ‬محمد‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬التازي‭ ‬في‭ ‬توطئة‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬حينما‭ ‬تجرأت‭ ‬على‭ ‬استعادة‭ ‬لحظات‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الصديق‭ ‬الأديب‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬شكري،‭ ‬وما‭ ‬عشناه‭ ‬معًا،‭ ‬من‭ ‬مشترك‭ ‬حميم،‭ ‬كنت‭ ‬أحتاط‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أنزلق‭ ‬نحو‭ ‬استعادة‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬وأن‭ ‬يبقى‭ ‬متذكر‭ ‬المشترك‭ ‬معه‭ ‬مجرد‭ ‬نعلة‭ ‬لأن‭ ‬أسرد‭ ‬بعض‭ ‬الفصول‭ ‬من‭ ‬حياتي،‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬مقولة‭: ‬‮«‬عندما‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬الآخرين،‭ ‬فأنا‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬نفسي‮»‬‭. ‬لذلك،‭ ‬فهذه‭ ‬المذكرات،‭ ‬وهي‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬محمد‭ ‬شكري،‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬استحضار‭ ‬شخصه،‭ ‬ولحظات‭ ‬مواقف‭ ‬عشناها‭ ‬معًا‭ ‬أو‭ ‬عاشها‭ ‬مع‭ ‬غيري،‭ ‬فكنت‭ ‬شاهدا‭ ‬عليها،‭ ‬بوحًا‭ ‬باح‭ ‬لي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬قلقه‭ ‬الخاص‮»‬‭. ‬ومهما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬تحلٍّ‭ ‬بالحياد‭ ‬والموضوعية‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬هذه‭ ‬المذكرات،‭ ‬فإنها‭ ‬تبقى‭ ‬موسومة‭ ‬برؤية‭ ‬كاتبها‭ ‬للمواقف‭ ‬والأحداث،‭ ‬وربما‭ ‬أيضًا،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬ضد‭ ‬الصورة‭ ‬الزائفة‭ ‬التي‭ ‬حملها‭ ‬عنه‭ ‬البعض‭ ‬وروَّج‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬طغت‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬محمد‭ ‬الحقيقية‭ ‬وغدت‭ ‬متداولة‭ ‬بسبب‭ ‬ذيوع‭ ‬صيته‭ ‬والشهرة‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬إليها‭.‬

 

استعادة‭ ‬الذكريات

عندما‭ ‬أدافع‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬الأديب‭ ‬الراحل،‭ ‬يقول‭ ‬التازي،‭ ‬فأنا‭ ‬أهدف‭ ‬إلى‭ ‬تصحيح‭ ‬ما‭ ‬أشيع‭ ‬عنه،‭ ‬لا‭ ‬بالكلمات‭ ‬وحسي،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضًا،‭ ‬باستعادة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭ ‬معه،‭ ‬ولحظات‭ ‬البوح‭ ‬التي‭ ‬باح‭ ‬لي‭ ‬فيها،‭ ‬ومتابعة‭ ‬مسيرته‭ ‬الإبداعية‭ ‬ومحطاتها‭ ‬من‭ ‬كتابته‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬الخبز‭ ‬الحافي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬كتب،‭ ‬وردود‭ ‬الفعل‭ ‬التي‭ ‬تولدت‭ ‬لدى‭ ‬جمهور‭ ‬قرّاء‭ ‬شكري‭ ‬وأصدقائه‭ ‬الكتاب‭ ‬وبعض‭ ‬الحاسدين‭ ‬والفضوليين‭. ‬ذكريات‭ ‬أستعيدها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المذكرات،‭ ‬بعفويتها‭ ‬وبساطتها،‭ ‬لم‭ ‬أسعَ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬تلميع‭ ‬صورته‭ ‬أو‭ ‬غض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مزاجيته‭ ‬وتوتر‭ ‬أعصابه‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬من‭ ‬شغلوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬باستفزازه‭ ‬وإفساد‭ ‬أوقات‭ ‬تأمله‭ ‬وخلوته‭. ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬الأديب‭ ‬الراحل‭ ‬في‭ ‬شبابه‭ ‬وكهولته‭ ‬ضحوكًا،‭ ‬لطيف‭ ‬المعشر،‭ ‬يتصرف‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭ ‬ببراءة‭ ‬الأطفال،‭ ‬مضيافًا،‭ ‬فبيته‭ ‬كان‭ ‬مزارًا‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الأجانب‭ ‬والعرب‭ ‬والمغاربة،‭ ‬وكان‭ ‬يناقش‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬العناد‭ ‬أحيانًا،‭ ‬ويسيطر‭ ‬على‭ ‬الحاضرين‭ ‬في‭ ‬المجالس‭ ‬بظرفه‭ ‬وتفكهه‭ ‬وتنكيته‭.‬

‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ ‬التي‭ ‬تكونت‭ ‬عند‭ ‬البعض،‭ ‬يظهر‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬إباحيًا،‭ ‬فضائحيًا،‭ ‬صعلوكًا‭ ‬أو‭ ‬‮«‬ولد‭ ‬السوق‮»‬‭ ‬مع‭ ‬افتراض‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تصرفات‭ ‬شائنة‭ ‬تجعل‭ ‬منه‭ ‬شخصًا‭ ‬لا‭ ‬أخلاقيًا،‭ ‬لا‭ ‬يحترم‭ ‬الجماعة‭ ‬ولا‭ ‬يفي‭ ‬بوعد،‭ ‬صورة‭ ‬أشيعت‭ ‬عنه‭ ‬لجرأته‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬ما‭ ‬يتستر‭ ‬عنه‭ ‬الآخرون،‭ ‬واقتحامه‭ ‬مناطق‭ ‬يتواطأ‭ ‬الأخلاقيون‭ ‬على‭ ‬السكوت‭ ‬عنها،‭ ‬فالمشاع‭ ‬عن‭ ‬الأبناء‭ ‬أن‭ ‬يطيعوا‭ ‬آباءهم،‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬يتعرض‭ ‬الأبناء‭ ‬لآباء‭ ‬قساة‭ ‬تصل‭ ‬بهم‭ ‬القسوة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬قلوبهم‭ ‬من‭ ‬حجر‭. ‬والعقوق‭ ‬هو‭ ‬عقوق‭ ‬الأبناء‭ ‬لآبائهم،‭ ‬وليس‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬مسمى‭ ‬لحالة‭ ‬الآباء‭ ‬الذين‭ ‬يجرمون‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬أبنائهم‭. ‬لعل‭ ‬هذه‭ ‬المفارقة،‭ ‬هي‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬إشاعة‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ ‬عن‭ ‬الأديب‭ ‬الراحل،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬يحملونها‭ ‬عنه،‭ ‬لم‭ ‬يعايشوه،‭ ‬ولم‭ ‬يقتربوا‭ ‬من‭ ‬خصاله‭ ‬وأخلاقه‭ ‬ليعرفوا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬كريمًا،‭ ‬صاحب‭ ‬أنفة‭ ‬وكبرياء،‭ ‬مُترفعًا،‭ ‬رقيق‭ ‬الطبع‭ ‬والإحساس،‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬المواعيد،‭ ‬منشغلًا‭ ‬بنظافته‭ ‬ونظافة‭ ‬بيته‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الهوس،‭ ‬صريحًا،‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬المواربة،‭ ‬وكانت‭ ‬أنفته‭ ‬تمنعه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬النصيحة‭ ‬من‭ ‬أحد،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬أحدًا‭ ‬يشفق‭ ‬عليه‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬سريع‭ ‬الغضب،‭ ‬شكاكًا‭ ‬بسبب‭ ‬وسواس‭ ‬قهري‭ ‬كان‭ ‬ينتابه‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر،‭ ‬يتندر‭ ‬بالآخرين‭ ‬ويطلق‭ ‬الألقاب‭ ‬على‭ ‬أصدقائه‭ ‬ومقربيه،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يحاكي‭ ‬بعض‭ ‬تصرفاتهم‭ ‬بحركاته‭ ‬وإيماءاته،‭ ‬مُضيفا‭ ‬أن‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬لم‭ ‬يعبد‭ ‬المال،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬ينفقه‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬يحتفي‭ ‬فيها‭ ‬بنفسه‭ ‬أو‭ ‬بأصدقائه،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬تعلم‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬أن‭ ‬المال‭ ‬يأتي‭ ‬ويذهب،‭ ‬ففي‭ ‬بعض‭ ‬الأوقات،‭ ‬يقول‭ ‬التازي،‭ ‬‮«‬كان‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬مفلسًا،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬موسرًا‭. ‬كان‭ ‬شكري‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬فقره‭ ‬يقتسم‭ ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬مع‭ ‬أصدقائه،‭ ‬وفي‭ ‬أيام‭ ‬غناه‭ ‬أصبح‭ ‬يقرض‭ ‬أصدقاءه‭ ‬إن‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬ضيق‭ ‬مالي،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يكرم‭ ‬الأطفال‭. ‬

يقول‭ ‬التازي‭ ‬عن‭ ‬كرم‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭: ‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬رافقته‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬فأنفقت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬جيبي،‭ ‬وبت‭ ‬في‭ ‬ضيافته،‭ ‬وفي‭ ‬الصباح‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬عندي‭ ‬ما‭ ‬أسافر‭ ‬به،‭ ‬فأيقظته‭ ‬من‭ ‬نومه،‭ ‬وطلبت‭ ‬منه‭ ‬مائة‭ ‬درهم‭ ‬فقال‭ ‬لي‭ ‬وهو‭ ‬شبه‭ ‬نائم‭: ‬خذها‭ ‬من‭ ‬جيب‭ ‬سترتي‭. ‬في‭ ‬جيب‭ ‬سترته‭ ‬وجدت‭ ‬مالًا‭ ‬كثيرًا‭ ‬يفوق‭ ‬الألفي‭ ‬درهم،‭ ‬فأخذت‭ ‬المائة‭ ‬درهم،‭ ‬وسافرت،‭ ‬ثم‭ ‬عندما‭ ‬عدت‭ ‬لزيارته،‭ ‬قدمت‭ ‬له‭ ‬المائة‭ ‬درهم،‭ ‬فبدا‭ ‬متعجبًا،‭ ‬قل‭ ‬لي‭: ‬لِم‭ ‬تقدمها‭ ‬لي؟‭ ‬أخبرته‭ ‬بأنني‭ ‬قد‭ ‬أخذتها‭ ‬من‭ ‬جيب‭ ‬سترته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬آخذها‭ ‬منه،‭ ‬بدا‭ ‬شديد‭ ‬التعجب،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬أنا‭ ‬نسيت،‭ ‬ولأنك‭ ‬تذكرت‭ ‬فأنت‭ ‬أمين‭. ‬سآخذها‭ ‬لتكون‭ ‬عندي‭ ‬دليلًا‭ ‬على‭ ‬أمانتك،‭ ‬كثيرون‭ ‬أسهر‭ ‬معهم،‭ ‬فأقرضهم‭ ‬مالًا،‭ ‬أنساه‭ ‬وينسونه،‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬ينسون‭ ‬أن‭ ‬يطلبوا‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أقرضهم‭ ‬مالًا‭ ‬آخر،‭ ‬ولأنني‭ ‬أنسى‭ ‬أستجيب‭ ‬لطلبهم‭. ‬لكني‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬نصابين‭ ‬يحومون‭ ‬حولي،‭ ‬ومنهم‭ ‬مَن‭ ‬يبيعني‭ ‬عسلًا‭ ‬يدّعي‭ ‬أنه‭ ‬حر،‭ ‬بثمن‭ ‬باهظ،‭ ‬أو‭ ‬يبيعني‭ ‬جهاز‭ ‬راديو‭ ‬قديمًا‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬باعه‭ ‬لي‭ ‬بأضعاف‭ ‬الثمن‭ ‬الذي‭ ‬اشتراه‭ ‬به،‭ ‬السيدة‭ ‬فتيحة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تنبهني‭ ‬إلى‭ ‬هؤلاء‭ ‬النصابين،‭ ‬وتستغرب،‭ ‬كيف‭ ‬يكونون‭ ‬أصدقائي‭ ‬وينصبون‭ ‬علي‮»‬‭ (‬ص10‭).‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬لم‭ ‬يتشبث‭ ‬بقيمة‭ ‬المال‭ ‬فقد‭ ‬يتشبث‭ ‬بقيم‭ ‬أخرى،‭ ‬كاحترام‭ ‬المرأة‭ ‬وحبا‭ ‬الأطفال‭ ‬والوفاء‭ ‬للأصدقاء‭ ‬إذا‭ ‬كانوا‭ ‬صادقين،‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬‮«‬بوهيميته‮»‬‭ ‬التي‭ ‬عُرف‭ ‬بها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جيله،‭ ‬وتمرده‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬الجاهزة‭ ‬والتصرفات‭ ‬النمطية‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬لشخصيته‭ ‬فرادتها‭ ‬وخصوصيتها‭.‬

أما‭ ‬عن‭ ‬حبه‭ ‬للأطفال،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يفرح‭ ‬بأولاد‭ ‬مؤلف‭ ‬الكتاب‭ ‬التازي‭ ‬حينما‭ ‬يرافقهم‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬لتناول‭ ‬طعام‭ ‬الغذاء‭. ‬و«أذكر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬ولدي‭ ‬نوفل،‭ ‬ثم‭ ‬حينما‭ ‬أصبح‭ ‬شابًا،‭ ‬وقدم‭ ‬لي‭ ‬ولمحمد‭ ‬طعام‭ ‬العشاء‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المناسبات،‭ ‬دعاه‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬كن‭ ‬صديقي‭ ‬كما‭ ‬أنا‭ ‬صديق‭ ‬لوالدك‭. ‬في‭ ‬صغر‭ ‬نوفل،‭ ‬أتذكر‭ ‬أن‭ ‬شكري‭ ‬قد‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أتركه‭ ‬له‭ ‬ليستضيفه‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬في‭ ‬بيته‭.  ‬قال‭ ‬لي‭: ‬لا‭ ‬تخف‭ ‬عليه،‭ ‬سوف‭ ‬أسهر‭ ‬بنفسي‭ ‬على‭ ‬راحته،‭ ‬سأقدم‭ ‬له‭ ‬أحسن‭ ‬وجبات‭ ‬الفطور‭ ‬والغذاء‭ ‬والعشاء،‭ ‬وسوف‭ ‬أفسحه‭ ‬في‭ ‬الحدائق‭ ‬وملاهي‭ ‬الأطفال،‭ ‬وسأشتري‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحب‭ ‬من‭ ‬اللعب،‭ ‬والملابس‭. ‬كلها‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام،‭ ‬وتأتي‭ ‬لتأخذه،‭ ‬وسوف‭ ‬تجده‭ ‬مسرورًا‭ ‬وفي‭ ‬صحة‭ ‬جيدة‮»‬‭.‬

قدرت‭ ‬ذلك‭ ‬الحرمان‭ ‬الذي‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬لكونه‭ ‬لم‭ ‬ينجب‭ ‬أطفالًا،‭ ‬وفكرت‭ ‬في‭ ‬ولدي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬الثلاثة،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬شكري‭ ‬لم‭ ‬يتخل‭ ‬عن‭ ‬عادته‭ ‬في‭ ‬ارتياد‭ ‬الحانات،‭ ‬فهل‭ ‬سوف‭ ‬يضطر‭ ‬لإرضاء‭ ‬عادته‭ ‬اليومية،‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬الولد‭ ‬معه،‭ ‬تلطفت‭ ‬وقلت‭ ‬له‭: ‬نترك‭ ‬ذلك‭ ‬للصيف‭ ‬القادم،‭ ‬حيث‭ ‬يكون‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تأخذه‭ ‬معك‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬إلى‭ ‬مسبح‭ ‬أحد‭ ‬الفنادق،‭ ‬لتسبح‭ ‬أنت‭ ‬وإياه،‭ ‬فهو‭ ‬يعرف‭ ‬السباحة،‭ ‬وعليك‭ ‬أن‭ ‬تطلب‭ ‬غداء‭ ‬من‭ ‬البيتزا‭ ‬وعصير‭ ‬برتقال‭ ‬وسلاطة،‭ ‬وإن‭ ‬شئت‭ ‬أن‭ ‬تطلب‭ ‬لنفسك‭ ‬بيرة‭ ‬تشربها‭ ‬مع‭ ‬تناول‭ ‬الغداء‭ ‬فلا‭ ‬بأس‭.‬

 

حياة‭ ‬العُزّاب

وعن‭ ‬حياة‭ ‬العزوبية‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬يقول‭ ‬صديقه‭ ‬التازي‭: ‬كنت‭ ‬أتأمل‭ ‬حياة‭ ‬العزاب‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬شكري،‭ ‬وأعقد‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬المقارنة‭ ‬مع‭ ‬أناس‭ ‬عرفتهم،‭ ‬ابتعدوا‭ ‬عن‭ ‬مؤسسة‭ ‬الزواج،‭ ‬وعاشوا‭ ‬أعمارهم‭ ‬عزابًا،‭ ‬مفضلين‭ ‬الانفلات‭ ‬نحو‭ ‬حياة‭ ‬الحرية،‭ ‬بدل‭ ‬الحياة‭ ‬الزوجية‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬بعض‭ ‬القيود،‭ ‬فقادني‭ ‬هذا‭ ‬التأمل‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬عازبًا،‭ ‬وإلى‭ ‬سؤال‭: ‬ماذا‭ ‬كان‭ ‬سوف‭ ‬يحدث‭ ‬لو‭ ‬تزوج‭ ‬وفشل‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أنجب‭ ‬أطفالًا،‭ ‬أليس‭ ‬خيرًا‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬عاش‭ ‬عازبًا؟

لم‭ ‬يكن‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬أميًا‭ ‬كما‭ ‬أشيع‭ ‬عنه،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬مثقفًا‭ ‬وقارئًا،‭ ‬وإنما‭ ‬أشيع‭ ‬عنه‭ ‬ذلك‭ ‬لكونه‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬إلا‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬كما‭ ‬ظل‭ ‬يصرح‭ ‬بذلك‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المناسبات‭.‬

لقد‭ ‬وُصِفَ‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬برأي‭ ‬التازي،‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬كاتب‭ ‬شفوي‮»‬،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالراوي‭ ‬محمد‭ ‬المرابط،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يروي‭ ‬قصصًا‭ ‬وحكايات‭ ‬للكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬المقيم‭ ‬في‭ ‬طنجة،‭ ‬بول‭ ‬بولز،‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬ومن‭ ‬يصفونه‭ ‬بذلك،‭ ‬ينسون‭ ‬أو‭ ‬يتجاهلون‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬دخل‭ ‬المشهد‭ ‬الأدبي‭ ‬بنشره‭ ‬لقصصه‭ ‬القصيرة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الآداب‭ ‬البيروتية‭ ‬وفي‭ ‬جريدة‭ ‬العلم‭ ‬ومنابر‭ ‬أخرى،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬السيتنيات،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬‮«‬الخبز‭ ‬الحافي‮»‬‭.(‬ص13‭).‬

عندما‭ ‬لجأ‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة،‭ ‬كان‭ ‬كالكثير‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جيل‭ ‬الستينيات‭ ‬والسبعينيات،‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬خلاص‭ ‬من‭ ‬المعاناة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية،‭ ‬لكن‭ ‬أصبحت‭ ‬لها‭ ‬معاناتها،‭ ‬وهذا‭ ‬القلق‭ ‬المضاعف،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬عاشه‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬كما‭ ‬يعيشه‭ ‬المؤرقون‭ ‬بتفاصيل‭ ‬حياتهم‭ ‬وتحولات‭ ‬مجتمعهم‭ ‬وتطلعاتهم‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬ورهاناتهم‭ ‬على‭ ‬الكتابة،‭ ‬لتكون‭ ‬تجربة‭ ‬للمعيش‭ ‬والمتخيل‭ ‬وممكنًا‭ ‬من‭ ‬ممكنات‭ ‬تحرير‭ ‬الذات‭.‬

تأتي‭ ‬هذه‭ ‬المذكرات‭ ‬بدافع‭ ‬الوفاء‭ ‬لصداقتي‭ ‬مع‭ ‬الأديب‭ ‬الراحل‭ ‬وهي‭ ‬صداقة‭ ‬امتدت‭ ‬لأربعة‭ ‬عقود‭. ‬ولم‭ ‬تأت‭ ‬كتابتها‭ ‬قصد‭ ‬التظاهر‭ ‬والادّعاء،‭ ‬أو‭ ‬الاتجار،‭ ‬أو‭ ‬تصفية‭ ‬بعض‭ ‬الحسابات،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬بعض‭ ‬مَن‭ ‬نشروا‭ ‬مذكراتهم‭ ‬مع‭ ‬الأديب‭ ‬الراحل،‭ ‬مع‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أدّعي‭ ‬امتلاك‭ ‬مفاتيح‭ ‬شخصيته‭ ‬أو‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬دوافع‭ ‬تصرفاته‭ ‬وما‭ ‬يثوي‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬نفسه‭.‬

‭ ‬ويؤكد‭ ‬صديق‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬لم‭ ‬يصبح‭ ‬كاتبًا‭ ‬نرجسيًا‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نالت‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭: ‬‮«‬الخبز‭ ‬الحافي‮»‬‭ ‬الحفاوة‭ ‬الكبيرة‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬والنقّاد‭ ‬والمترجمين،‭ ‬فترجمت‭ ‬إلى‭ ‬اثنين‭ ‬وعشرين‭ ‬لغة‭ ‬عالمية‭.‬

لقد‭ ‬استطاع‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬عزالدين‭ ‬التازي،‭ ‬وهو‭ ‬الروائي‭ ‬المغربي‭ ‬المعروف،‭ ‬أن‭ ‬يكشف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬ويُصحح‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والمغالطات‭ ‬التي‭ ‬قيلت‭ ‬وكتبت‭ ‬عن‭ ‬الروائي‭ ‬والكاتب‭ ‬المغربي‭ ‬والعالمي‭ ‬محمد‭ ‬شكري،‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬احتكاكه‭ ‬الشخصي‭ ‬معه،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أصدق‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬شكري‭ ‬■