«محمد شكري... غواية الكتابة والعيش» مذكرات الصديق والحقيقة
يأتي كتاب «محمد شكري... غواية الكتابة والعيش»، الصادر حديثًا في المغرب، لمؤلفه الروائي والكاتب المغربي محمد عز الدين التازي، وهو من أصدقاء الراحل محمد شكري، ليُعزِّزَ مكانة هذا الكاتب الذي شغل الناس بـ«خبزه الحافي» وبأعماله الروائية والقصصية الأخرى. في هذا الكتاب القيم والمكون من 204 صفحات من الحجم المتوسط، نتعرف على محمد شكري وعوالمه والظروف الاجتماعية الصعبة التي جعلت منه أحد كبار كتّاب العالم في العصر الحديث، ممن تذوّقوا حرارة الواقع لكتابة رواية واقعية بالفعل وهي كتابة حركت الكثير من المياه الراكدة ولامست ما لامسته من التابوهات.
ما جاء في هذا الكتاب حول محمد شكري لم يكتب من طرف ناقد أو باحث قارب أعماله الأدبية مقاربة أكاديمية من أجل نيل مدح أدبي أو شهادة جامعية، إنما هي مذكرات كتبها صديق عاش لسنوات إلى جانب محمد شكري قبل أن يقطف ثمار شهرته، يقول محمد عز الدين التازي في توطئة الكتاب «حينما تجرأت على استعادة لحظات من حياة الصديق الأديب الراحل محمد شكري، وما عشناه معًا، من مشترك حميم، كنت أحتاط من أن أنزلق نحو استعادة جزء من ذاكرتي، وأن يبقى متذكر المشترك معه مجرد نعلة لأن أسرد بعض الفصول من حياتي، انطلاقا من مقولة: «عندما أكتب عن الآخرين، فأنا أكتب عن نفسي». لذلك، فهذه المذكرات، وهي تحمل اسم محمد شكري، تسعى إلى استحضار شخصه، ولحظات مواقف عشناها معًا أو عاشها مع غيري، فكنت شاهدا عليها، بوحًا باح لي به في أوقات عاش فيها قلقه الخاص». ومهما كان من تحلٍّ بالحياد والموضوعية في كتاب هذه المذكرات، فإنها تبقى موسومة برؤية كاتبها للمواقف والأحداث، وربما أيضًا، بما يعني الدفاع عن شخص محمد شكري ضد الصورة الزائفة التي حملها عنه البعض وروَّج لها حتى طغت على صورة محمد الحقيقية وغدت متداولة بسبب ذيوع صيته والشهرة التي وصل إليها.
استعادة الذكريات
عندما أدافع عن شخص الأديب الراحل، يقول التازي، فأنا أهدف إلى تصحيح ما أشيع عنه، لا بالكلمات وحسي، ولكن أيضًا، باستعادة الكثير من المواقف التي عشتها معه، ولحظات البوح التي باح لي فيها، ومتابعة مسيرته الإبداعية ومحطاتها من كتابته لـ «الخبز الحافي» إلى آخر ما كتب، وردود الفعل التي تولدت لدى جمهور قرّاء شكري وأصدقائه الكتاب وبعض الحاسدين والفضوليين. ذكريات أستعيدها في هذه المذكرات، بعفويتها وبساطتها، لم أسعَ من خلالها إلى تلميع صورته أو غض النظر عن مزاجيته وتوتر أعصابه في مراحل متأخرة من حياته، وذلك بسبب من شغلوا أنفسهم باستفزازه وإفساد أوقات تأمله وخلوته. بينما كان الأديب الراحل في شبابه وكهولته ضحوكًا، لطيف المعشر، يتصرف في بعض المواقف ببراءة الأطفال، مضيافًا، فبيته كان مزارًا للعديد من الكتاب الأجانب والعرب والمغاربة، وكان يناقش بشيء من العناد أحيانًا، ويسيطر على الحاضرين في المجالس بظرفه وتفكهه وتنكيته.
في الصورة النمطية التي تكونت عند البعض، يظهر محمد شكري إباحيًا، فضائحيًا، صعلوكًا أو «ولد السوق» مع افتراض ما يأتي من ذلك من تصرفات شائنة تجعل منه شخصًا لا أخلاقيًا، لا يحترم الجماعة ولا يفي بوعد، صورة أشيعت عنه لجرأته في كتابة ما يتستر عنه الآخرون، واقتحامه مناطق يتواطأ الأخلاقيون على السكوت عنها، فالمشاع عن الأبناء أن يطيعوا آباءهم، ومن غير المعقول أن يتعرض الأبناء لآباء قساة تصل بهم القسوة إلى أن تصبح قلوبهم من حجر. والعقوق هو عقوق الأبناء لآبائهم، وليس ثمة من مسمى لحالة الآباء الذين يجرمون في حق أبنائهم. لعل هذه المفارقة، هي السبب في إشاعة تلك الصورة النمطية عن الأديب الراحل، وكل من يحملونها عنه، لم يعايشوه، ولم يقتربوا من خصاله وأخلاقه ليعرفوا أنه كان كريمًا، صاحب أنفة وكبرياء، مُترفعًا، رقيق الطبع والإحساس، حريصًا على احترام المواعيد، منشغلًا بنظافته ونظافة بيته إلى حد الهوس، صريحًا، لا يقبل المواربة، وكانت أنفته تمنعه من أن يقبل النصيحة من أحد، أو أن يرى أحدًا يشفق عليه. كما كان سريع الغضب، شكاكًا بسبب وسواس قهري كان ينتابه بين حين وآخر، يتندر بالآخرين ويطلق الألقاب على أصدقائه ومقربيه، وأحيانًا يحاكي بعض تصرفاتهم بحركاته وإيماءاته، مُضيفا أن الراحل محمد شكري لم يعبد المال، بل كان ينفقه في مناسبات يحتفي فيها بنفسه أو بأصدقائه، هو من تعلم من التجارب التي عاشها أن المال يأتي ويذهب، ففي بعض الأوقات، يقول التازي، «كان يجد نفسه مفلسًا، ثم يأتي من المال ما يجعله موسرًا. كان شكري في أيام فقره يقتسم ما عنده مع أصدقائه، وفي أيام غناه أصبح يقرض أصدقاءه إن كانوا في ضيق مالي، كما كان يكرم الأطفال.
يقول التازي عن كرم محمد شكري: أذكر أنني رافقته ذات ليلة فأنفقت كل ما في جيبي، وبت في ضيافته، وفي الصباح لم أجد عندي ما أسافر به، فأيقظته من نومه، وطلبت منه مائة درهم فقال لي وهو شبه نائم: خذها من جيب سترتي. في جيب سترته وجدت مالًا كثيرًا يفوق الألفي درهم، فأخذت المائة درهم، وسافرت، ثم عندما عدت لزيارته، قدمت له المائة درهم، فبدا متعجبًا، قل لي: لِم تقدمها لي؟ أخبرته بأنني قد أخذتها من جيب سترته بعد أن طلب مني أن آخذها منه، بدا شديد التعجب، وقال لي: أنا نسيت، ولأنك تذكرت فأنت أمين. سآخذها لتكون عندي دليلًا على أمانتك، كثيرون أسهر معهم، فأقرضهم مالًا، أنساه وينسونه، ثم لا ينسون أن يطلبوا مني أن أقرضهم مالًا آخر، ولأنني أنسى أستجيب لطلبهم. لكني في بعض الأحيان أشعر بأن نصابين يحومون حولي، ومنهم مَن يبيعني عسلًا يدّعي أنه حر، بثمن باهظ، أو يبيعني جهاز راديو قديمًا أعرف أنه باعه لي بأضعاف الثمن الذي اشتراه به، السيدة فتيحة هي التي تنبهني إلى هؤلاء النصابين، وتستغرب، كيف يكونون أصدقائي وينصبون علي» (ص10).
إذا كان لم يتشبث بقيمة المال فقد يتشبث بقيم أخرى، كاحترام المرأة وحبا الأطفال والوفاء للأصدقاء إذا كانوا صادقين، حتى مع «بوهيميته» التي عُرف بها الكثير من أبناء جيله، وتمرده على القيم الجاهزة والتصرفات النمطية في اتجاه أن يبني لشخصيته فرادتها وخصوصيتها.
أما عن حبه للأطفال، فقد كان يفرح بأولاد مؤلف الكتاب التازي حينما يرافقهم إلى بيته لتناول طعام الغذاء. و«أذكر أنه كان لا يكف عن السؤال عن ولدي نوفل، ثم حينما أصبح شابًا، وقدم لي ولمحمد طعام العشاء في إحدى المناسبات، دعاه وقال له: كن صديقي كما أنا صديق لوالدك. في صغر نوفل، أتذكر أن شكري قد طلب مني أن أتركه له ليستضيفه ثلاثة أيام في بيته. قال لي: لا تخف عليه، سوف أسهر بنفسي على راحته، سأقدم له أحسن وجبات الفطور والغذاء والعشاء، وسوف أفسحه في الحدائق وملاهي الأطفال، وسأشتري له كل ما يحب من اللعب، والملابس. كلها ثلاثة أيام، وتأتي لتأخذه، وسوف تجده مسرورًا وفي صحة جيدة».
قدرت ذلك الحرمان الذي يشعر به لكونه لم ينجب أطفالًا، وفكرت في ولدي في تلك الأيام الثلاثة، ثم إن شكري لم يتخل عن عادته في ارتياد الحانات، فهل سوف يضطر لإرضاء عادته اليومية، أن يأخذ الولد معه، تلطفت وقلت له: نترك ذلك للصيف القادم، حيث يكون عليك أن تأخذه معك كل يوم إلى مسبح أحد الفنادق، لتسبح أنت وإياه، فهو يعرف السباحة، وعليك أن تطلب غداء من البيتزا وعصير برتقال وسلاطة، وإن شئت أن تطلب لنفسك بيرة تشربها مع تناول الغداء فلا بأس.
حياة العُزّاب
وعن حياة العزوبية التي عاشها محمد شكري يقول صديقه التازي: كنت أتأمل حياة العزاب التي عاشها شكري، وأعقد نوعًا من المقارنة مع أناس عرفتهم، ابتعدوا عن مؤسسة الزواج، وعاشوا أعمارهم عزابًا، مفضلين الانفلات نحو حياة الحرية، بدل الحياة الزوجية التي تفرض بعض القيود، فقادني هذا التأمل إلى حياة محمد شكري الذي عاش عازبًا، وإلى سؤال: ماذا كان سوف يحدث لو تزوج وفشل في الزواج بعد أن أنجب أطفالًا، أليس خيرًا له أن عاش عازبًا؟
لم يكن محمد شكري أميًا كما أشيع عنه، بل كان مثقفًا وقارئًا، وإنما أشيع عنه ذلك لكونه لم يتعلم القراءة والكتابة إلا وهو في العشرين من عمره، كما ظل يصرح بذلك في كثير من المناسبات.
لقد وُصِفَ محمد شكري برأي التازي، بأنه «كاتب شفوي»، مقارنة بالراوي محمد المرابط، الذي كان يروي قصصًا وحكايات للكاتب الأمريكي المقيم في طنجة، بول بولز، باللغة الإنجليزية، ومن يصفونه بذلك، ينسون أو يتجاهلون أنه قد دخل المشهد الأدبي بنشره لقصصه القصيرة في مجلة الآداب البيروتية وفي جريدة العلم ومنابر أخرى، وذلك في منتصف السيتنيات، وقبل أن يكتب «الخبز الحافي».(ص13).
عندما لجأ محمد شكري إلى الكتابة، كان كالكثير من أبناء جيل الستينيات والسبعينيات، يبحث عن خلاص من المعاناة الاجتماعية والسياسية، لكن أصبحت لها معاناتها، وهذا القلق المضاعف، هو ما عاشه محمد شكري كما يعيشه المؤرقون بتفاصيل حياتهم وتحولات مجتمعهم وتطلعاتهم إلى المستقبل، ورهاناتهم على الكتابة، لتكون تجربة للمعيش والمتخيل وممكنًا من ممكنات تحرير الذات.
تأتي هذه المذكرات بدافع الوفاء لصداقتي مع الأديب الراحل وهي صداقة امتدت لأربعة عقود. ولم تأت كتابتها قصد التظاهر والادّعاء، أو الاتجار، أو تصفية بعض الحسابات، كما فعل بعض مَن نشروا مذكراتهم مع الأديب الراحل، مع أنني لا أدّعي امتلاك مفاتيح شخصيته أو الغوص في دوافع تصرفاته وما يثوي في قاع نفسه.
ويؤكد صديق محمد شكري أن هذا الأخير لم يصبح كاتبًا نرجسيًا إلا بعد أن نالت سيرته الذاتية: «الخبز الحافي» الحفاوة الكبيرة من القراء والنقّاد والمترجمين، فترجمت إلى اثنين وعشرين لغة عالمية.
لقد استطاع الأستاذ محمد عزالدين التازي، وهو الروائي المغربي المعروف، أن يكشف الكثير من الحقائق ويُصحح الكثير من الأفكار والمغالطات التي قيلت وكتبت عن الروائي والكاتب المغربي والعالمي محمد شكري، انطلاقًا من احتكاكه الشخصي معه، ما يجعل من هذا الكتاب أصدق ما كتب عن شكري ■