فتوى الحبابي

فتوى الحبابي

كان‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬غريز‭ ‬الحبابي‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المفكرين‭ ‬والأكاديميين‭ ‬المغاربة،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬صاحب‭ ‬شخصية‭ ‬ظريفة‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬القلب‭ ‬صريحًا‭ ‬غاية‭ ‬الصراحة‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬شاركت‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬ندوة‭ ‬دعت‭ ‬إليها‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مثقفين‭ ‬عرب‭ ‬كثيرين‭. ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬جلسات‭ ‬الندوة‭ ‬دار‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬اليقظة‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬فأثبتها‭ ‬البعض،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أقسم‭ ‬آخرون‭ ‬بأغلظ‭ ‬الإيمان‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يلتقوها‭ ‬يومًا‭ ‬رغم‭ ‬رصدهم‭ ‬الدقيق‭ ‬لكل‭ ‬الظواهر‭ ‬الايجابية‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭. ‬وعندما‭ ‬احتدم‭ ‬النقاش‭ ‬بين‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬الندوة‭ ‬طلب‭ ‬الحبابي،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬الكلام،‭ ‬فتحدث‭ ‬أولًا‭ ‬عن‭ ‬شروط‭ ‬اليقظة،‭ ‬ليتحدث‭ ‬تاليًا‭ ‬حديثًا‭ ‬صريحًا‭ ‬جدًا،‭ ‬فقال‭: ‬تتحدثون‭ ‬عن‭ ‬يقظة‭ ‬تسود‭ ‬مجتمعاتنا‭. ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أسمع‭ ‬ليلًا‭ ‬ونهارًا‭ ‬سوى‭ ‬شخير‭! 

فانهمر‭ ‬الضحك‭ ‬في‭ ‬القاعة‭ ‬وتعالى‭ ‬التصفيق،‭ ‬وعندما‭ ‬عاد‭ ‬الهدوء‭ ‬طلب‭ ‬الحاضرون‭ ‬منه‭ ‬أدلة‭ ‬على‭ ‬فتواه،‭ ‬فقال‭ ‬إن‭ ‬الأدلة‭ ‬كثيرة‭ ‬وهو‭ ‬يحادّ‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬السرد‭. ‬وعندما‭ ‬كنّا‭ ‬نلتقيه‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬الاستراحة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬المساء‭ ‬كنّا‭ ‬نطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يورد‭ ‬حيثياته،‭ ‬فيأتي‭ ‬بما‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬به‭ ‬الأوائل،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أن‭ ‬الشخير‭ ‬واقع،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬اليقظة‭ ‬مجرد‭ ‬حلم‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬قبل‭ ‬ألف‭ ‬سنة‭. ‬صحيح‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬التقدم،‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التقدم‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬شذوذ‭ ‬القاعدة،‭ ‬فالقاعدة‭ ‬هي‭ ‬سطوة‭ ‬الشخير‭ ‬وانعدام‭ ‬أي‭ ‬صوت‭ ‬يعلو‭ ‬على‭ ‬صوته‭.‬

أسهم‭ ‬الحبابي‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب،‭ ‬منهم‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭ ‬وعثمان‭ ‬أمين‭ ‬وزكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬في‭ ‬ضيافة‭ ‬فكر‭ ‬فلسفي‭ ‬عربي‭ ‬جديد‭. ‬صحيح‭ ‬إن‭ ‬الحبابي‭ ‬انتفع‭ ‬بـ«الشخصانية‮»‬‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬الفرنسي‭ ‬المعاصر،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬انتفع‭ ‬أيضًا‭ ‬بالفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬نظرياته‭ ‬الفلسفية‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أنه‭ ‬أحد‭ ‬الأسماء‭ ‬الحسنى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يرسخ‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭ ‬العربية‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭ ‬لأن‭ ‬للفلسفة‭ ‬شروطها‭ ‬وظروفها‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬ظهورها‭ ‬مرهون‭ ‬بنضوج‭ ‬فكري‭ ‬وروحي‭ ‬في‭ ‬الأمة‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الحبابي‭ ‬الذي‭ ‬شقّ‭ ‬للفلسفة‭ ‬طريقًا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬متجهم‭ ‬الوجه‭ ‬والنفس‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬ظريفًا‭ ‬غاية‭ ‬الظرف‭ ‬أحيانًا‭ ‬كثيرة،‭ ‬وكانت‭ ‬صراحته‭ ‬تفوق‭ ‬الوصف،‭ ‬وليس‭ ‬أدلّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬فتواه‭ ‬في‭ ‬ندوة‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬حول‭ ‬الشخير‭ ‬الذي‭ ‬رفض‭ ‬فريق‭ ‬الاعتراف‭ ‬به،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬يُرى‭- ‬بنظر‭ ‬الحبابي‭- ‬بالعين‭ ‬المجردة،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬وجوده‭ ‬كمن‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬نور‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬وضح‭ ‬النهار‭.‬

مرّ‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬الحبابي‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬تقريبًا‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬صالحًا‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬والحيثيات‭ ‬التي‭ ‬بنى‭ ‬عليها‭ ‬حكمه‭ ‬لم‭ ‬تتغيّر‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬أو‭ ‬قليل‭.  ‬بالطبع‭ ‬التنظير‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬سيد‭ ‬الموقف‭ ‬لكن‭ ‬الحاجة‭ ‬ماسّة‭ ‬إلى‭ ‬التخفيف‭ ‬منه‭ ‬ونقل‭ ‬اليقظة‭ ‬إلى‭ ‬الواقع،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭ ‬يظل‭ ‬حكم‭ ‬الحبابي‭ ‬ساريًا‭ ‬إلى‭ ‬أزمنة‭ ‬قادمة‭ ‬■