نحو إعادة كتابة .. التاريخ العربي المعاصر

أعتقد أن الزلزال الذي أحدثه الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس 1990، وما أحدثه من انقلاب في التربة العربية السياسية السابقة على الغزو، وما ترتب عليه من دفن معتقدات أيديولوجية قديمة، وظهور معتقدات جديدة، قد أصبح يتطلب إعادة النظر في تاريخنا العربي المعاصر وفقا للمعطيات الجديدة التي فرضت نفسها بعد الاحتلال والتحرير.

لا يجوز لأحد أن يتصور أن هذه الدعوة بمثابة دعوة إلى تزوير التاريخ العربي المعاصر، بل هي دعوة إلى تصحيحه، وهو أمر طبيعي وله سوابق عديدة، وقد حدث مع انتقال الأوطان العربية من الاستعمار إلى الاستقلال، أو تغير نظامها الاقتصادي من اقتصاد رأسمالي إلى اقتصاد اشتراكي، أو العكس، أو انتقالها من نظام سياسي إلى نظام سياسي آخر.

وعلى سبيل المثال، فقد أطلقت الدعوة إلى كتابة التاريخ القومي في تونس بعد الاستقلال، وصدرت المجلة التاريخية المغربية استجابة لهذه الدعوة، وكتب مديرها الدكتور عبد الجليل التميمي في مقدمة العدد الأول يدعو إلى إعادة كتابة التاريخ القومي، كاستجابة لنداءات المثقفين ودعواتهم إلى "كتابة تاريخنا على ضوء معطيات بلادنا الجديدة".

وفي الجزائر حدث نفس الشيء - بعد الاستقلال - فارتفعت الدعوة إلى "إعادة كتابة تاريخ بلادنا"، وأنشئت "مؤسسة الوثائق الوطنية" لاسترجاع الوثائق المسلوبة وتجميع شهادات المعاصرين، باعتبار هذا التجميع مقدمة وعملية أساسية للبداية في كتابة التاريخ الجزائري الحديث، الذي صنعه الجزائريون بدمائهم. وفي مقال لجريدة "النصر" الجزائرية في 27 مايو 1974 عبر عن دوافع هذه الحملة بعبارات بليغة تتلخص في اعتماد التاريخ الجزائري على روايات المؤرخين الأجانب، والاكتفاء بالأحداث المزيفة، وما فرضته الطغمة الفاشية الاستعمارية من صمت لقتل تاريخ بلادنا الحافل بالبطولات.

وفي مصر علت الصيحة لإعادة كتابة التاريخ القومي على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى بعد معاهدة 1936، وقد أسفرت - فيما أسفرت- عن الكتاب الهام الذي ألفه المؤرخ الدكتور محمد فؤاد شكري؛ أستاذ التاريخ الحديث المساعد بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة فيما بعد)، مع عبد المقصود العناني وسيد محمد خليل عن "بناء دولة، مصر محمد علي" - وقد ورد في مقدمة الكتاب حيثيات تأليفه، وتتلخص فيما تعرض له تاريخ مصر من مسخ وتشويه.

أما المرحلة الثانية فكانت بعد ثورة 23 يوليو 1952، وكانت الدعوة إليها عكس الدعوة التي أدت إلى تأليف كتاب "بناء دولة، مصر محمد علي"، والذي عمد فيه المؤلفون إلى إبراز الجهود الإصلاحية "لعاهل مصر العظيم محمد علي الكبير، رأس البيت العلوي الكريم والجد الأكبر لجلالة الفاروق العظيم"، فإن هذه الدعوة الجديدة كانت إلى إعادة كتابة التاريخ القومي على نحو يهدم ادعاءات أسرة محمد علي، ويكشف بطولات الشعب المصري، وقد ورد في الميثاق فقرة تفسر هذه الدعوة بأن "أجيالا متعاقبة من شباب مصر، قرأت تاريخها الوطني على غير حقيقته، وصور لها الأبطال في تاريخها تائهين وراء سحب من الشك والغموض، بينما وضعت هالات التمجيد والإكبار من حول الذين خانوا كفاحها".

أما المرحلة الثالثة، فكانت بعد التغيير الذي طرأ على علاقات الإنتاج بقرارات التأميم في يوليو سنة 1961. وفي هذه المرحلة اتجهت الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ القومي من مفهوم اشتراكي.

تاريخ حسب الطلب

في ذلك الحين كان صدام حسين في العراق يدعو إلى إعادة كتابة التاريخ القومي على أساس بعثي، تمهيدا لتحقيق مخططاته الإمبراطورية التي تستهدف إعادة الدولة العباسية وإمبراطوريتها الواسعة على حساب الأوطان العربية الحديثة. فقد دعا إلى اجتماعين موسعين لمكتب الإعلام العراقي في 19/ 9/ 1977 و 1/ 12/ 1977، وفيهما أعلن الحاجة إلى إعادة كتابة التاريخ القومي، بحيث تأخذ هذه الكتابة "ذات الخصوصية لطريقنا البعثي الخاص! أي إعادة كتابة التاريخ العربي من وجهة نظرنا، على أن يأخذ هذا التحليل لحركة التاريخ ذات الخصوصية التي أخذت بها نظرية حزب البعث العربي الاشتراكي".

ومنذ ذلك التاريخ صدر فيض من كتب التاريخ في العراق تتناول تاريخ الأقطار العربية من وجهة نظر "صدامية "! وعندما شن صدام حسين هجومه على إيران في خريف 1980، أعاد كتابة التاريخ العربي في ضوء الصراع بين العرب والفرس، وأخذ في تضخيم الخطر الإيراني على أساس أن دافعه "الحقد الشعوبي الدفين، والسعي للثأر من الهزائم التاريخية التي مني بها الفرس على يد العرب في ذي قار والقادسية الأولى!" وفي الوقت نفسه أخذ في تصوير العراق في صورة "المدافع عن الحدود الشرقية للأمة العربية، والحامي لمنطقة الخليج العربي من الاجتياح والضم من قبل النظام الإيراني".

والمهم هو أن الغزو العراقي للكويت، بما صحبه من ملابسات، وما أحدثه من آثار، وما ترتب عليه من نتائج على المستوى العالمي عامة، وعلى المستوى العربي خاصة، قد جعل مسألة إعادة النظر في التاريخ القومي حاجة ملحة، لسبب بسيط هو أن التاريخ ليس- كما يتصور الكثيرون - علم الماضي، وإنما هو علم الحاضر وعلم المستقبل. بمعنى أن الشعوب تبني حاضرها ومستقبلها على أساس ما تعرفه من تاريخها، وليس بانعزال عن هذا التاريخ، وعلى سبيل المثال، فقد قدم الاستعمار الفرنسي الاستيطاني للشعب الجزائري تاريخه على أساس أنه شعب فرنسي مسلم! وأن الجزائر أرض فرنسية مسلمة! حتى رأينا فرحات عباس، المناضل الجزائري، يتصور في عام 1936 أنه ليس ثمة وطنية جزائرية ولا قومية جزائرية! فلما أدرك الشعب الجزائري حقيقة تاريخه، وأنه شعب عربي مسلم، ثار على الاحتلال الفرنسي واستطاع تحقيق استقلاله.

إعادة النظر في التاريخ

ومن هنا، وفي ضوء هذه الأهمية البالغة لكتابة التاريخ العربي القومي كتابة صحيحة، تصبح إعادة النظر في هذا التاريخ في ضوء المعطيات الجديدة التي فرضها الغزو العراقي للكويت، ضرورة ملحة، ليس فقط بالنسبة لتاريخ العراق ودوره العربي، بل بالنسبة لتاريخ كل شعب عربي في المنطقة.

وعلى سبيل المثال فإن الغزو العراقي للكويت قد هز كثيرا من المعتقدات والمسلمات التي ترسخت في أذهان العرب طوال عقود السنين السابقة على الغزو. وأول هذه المعتقدات والمسلمات ما دار حول الوحدة العربية والاستعمار، والصراع العربي الإسرائيلي، والاشتراكية، والنظم السياسية، والملكية والجمهورية، والرجعية والتقدمية.

ففيما يتصل بالوحدة العربية قامت هذه الفكرة على أساس القومية العربية، وهي التي تعني وجود أمة عربية واحدة تجمعها وحدة اللغة والدين والثقافة والتاريخ المشترك والمصلحة المشتركة، وهذه الأمة تمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلنطي، وتتفق أو تتناقض مصالحها مع مصالح الأمم الأخرى، ولكن لا يمكن أن يحدث تناقض بين مصالح شعوبها.

القضية الفلسطينية قضية قومية

ومن هذا المنطلق القومي لم تعد قضية فلسطين قضية فلسطينية وإنما أصبحت قضية عربية، ولم يعد الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين صراعا فلسطينيا إسرائيليا بحتا، بل صراعا عربيا إسرائيليا، تقف فيه الأمة العربية بأسرها في وجه إسرائيل. وفي ضوء هذا المفهوم، فعندما عقد السادات صلحا مع إسرائيل، لم ينظر العرب إلى إيجابيات هذا الصلح التي تتمثل في تحرير سيناء، بل نظروا إلى سلبيات هذا الصلح التي تتمثل في انسلاخ مصر من المواجهة العربية الشاملة ضد إسرائيل، على الرغم من أن هذه المواجهة كانت مواجهة نظرية من جانب الأمة العربية، وفعلية فقط من جانب مصر وبقية دول المواجهة! وذهب العرب في ذلك إلى حد مقاطعة مصر!

وكذلك فعل العرب مع سوريا - بشكل مختلف - عندما وقفت في الحرب العراقية الإيرانية إلى جانب إيران. فقد كانت تلك أول مرة منذ إنشاء جامعة الدول العربية تتخذ فيها دولة عربية موقفا مؤيدا لدولة غير عربية في حرب مع دولة عربية. ومن هنا فقد أدين هذا الموقف.

على أن مفهوم الوحدة العربية، بكل مضمونه الذي يعني التضامن والتعاون والاتحاد والحماية والأمن، أخذ يهتز طوال العقود الماضية من السنين مع العجز العربي عن إجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية، من جانب، ومن الجانب الآخر مع تزايد الصراعات على الحدود بين كل دولة عربية وأخرى، واتخاذها أحيانا شكل اشتباكات عسكرية، كما حدث بين مصر وليبيا، وبين الجزائر والمغرب، وبين ليبيا وتونس، وبين العراق وسوريا، وبين سوريا ولبنان. فضلا عن ظهور صراعات بين بعض الدول العربية والدول غير العربية المجاورة، مثل الصراع بين السودان وأثيوبيا، والصراع بين العراق وإيران الذي اتخذ شكل حرب ضروس دامت ثماني سنوات كاملة.

الصراعات ومفهوم الوحدة

لقد كان معنى هذه الصراعات تواري الصراع العربي الإسرائيلي من الناحية الفعلية إلى جانب هذه الصراعات، وظهور مصالح تتوارى إلى جوارها المصالح القومية، وكل ذلك أثر سلبا على حركة الوحدة العربية، وأكثر من ذلك أثر على الفكرة القومية الشاملة، التي تعني الفكرة القومية العربية، لتنحسر داخل كل وطن عربي، فتصبح الوطنية مرادفا للقومية، والقومية مرادفا للوطنية، وأصبحت فكرة القومية العربية شعارا بلا مضمون حقيقي، وبعبارة أخرى أصبحت بدون آلية ذاتية تعمل على تحويل النظرية إلى تطبيق، وتحقق الغرض السياسي الأسمى من الفكرة القومية، وهو الوحدة الاقتصادية والسياسية.

وكل ذلك لم يظهر فجأة، بل ظهر تدريجيا، وبشكل غير محسوس في الشعور العربي العام، وإن كان محسوسا في الممارسات السياسية، التي عجزت عن ترجمة القومية العربية إلى عمل وحدوي عربي مؤثر في القضايا والمشاكل السياسية، وعلى رأسها المشكلة الفلسطينية.

ومن الغريب أن المشكلة السياسية الوحيدة التي أثبتت فيها القومية العربية فاعليتها هي التي تمثلت في الحرب العراقية الإيرانية. ففي ظل موازين القوة بين إيران والعراق على مدى التاريخ كانت العراق هي المعرضة للهزيمة في هذه الحرب، ولكن القومية العربية رجحت الكفة العراقية، عندما وقفت دول الخليج، وعلى رأسها الكويت، بكل إمكاناتها المادية إلى جانب العراق، الأمر الذي مكنه من الصمود في وجه القوة الإيرانية على مدى ثماني سنوات.

التحولات والأطماع

على أن هذه الإيجابية للقومية العربية، والإنجاز السياسي الكبير الوحيد تقريبا الذي حققته، بعد فشلها في تحقيق حل إيجابي للقضية الفلسطينية، سرعان ما انقلب إلى سلبية مدمرة، عندما خرج العراق من الحرب مع إيران كقوة عدوانية توجه حرابها إلى الشقيق العربي الذي ساعدها على الانتصار، بدلا من أن توجهها إلى العدو التقليدي الذي كرست القومية العربية نضالها لمحاربته، وهو العدو الإسرائيلي، فقامت باحتلال الكويت في الثاني من أغسطس 1990.

وقد كانت النتائج التي ترتبت على هذا الانقلاب الفجائي، المتمثل في تحول العراق من قوة حامية إلى قوة عدوانية معتدية، نتائج فادحة. النتيجة الأولى، اهتزاز الفكر القومي العربي اهتزازا عنيفا، فلأول مرة منذ ظهور فكرة القومية العربية بمعناها السياسي الذي يسعى إلى وحدة الأمة العربية، يظهر كيان عربي في داخل الأمة العربية يوجه عداءه وحقده إلى شعب عربي مسالم صغير ساعده بكل ما يملك في محنته، ويظهر نزعة توسعية على حساب الكيانات العربية الشقيقة المجاورة، ويستخدم نفس أساليب العدو الإسرائيلي من بطش ووحشية وتخريب وتدمير على مستوى أكبر.

وفي الكويت كان الاهتزاز أكبر، لسبب بسيط هو أن الشعب الكويتي كان من أكثر الشعوب العربية تطرفا في الفكر القومي، وكانت السياسة الكويتية من أكثر السياسات مساندة للقضية الفلسطينية وتطبيقا لقرارات مكتب المقاطعة الإسرائيلية، وكانت الصحافة الكويتية من أحفل الصحافات العربية بالمادة الفلسطينية، كما أن النفوذ الفلسطيني في الأوساط السياسية كان نفوذا طاغيا بسبب الاعتماد على مستشارين فلسطينيين في مكاتب الوزراء والمسئولين، وكانت الجالية الفلسطينية في الكويت أكثر الجاليات امتيازا واستقرارا.

وقد كان سلوك الاحتلال العراقي في الكويت صدمة قاسية لكل المشاعر القومية العربية التي تأصلت في نفس كل كويتي. فلم يتعامل هذا الاحتلال مع الشعب الكويتي باعتباره شعبا عربيا يدعي انتماءه للعراق - لدرجة اعتباره الكويت محافظة عراقية تحت رقم 19 - بل تعامل مع الشعب الكويتي كشعب أجنبي يناصبه العداء منذ القدم حتى أتيحت له الغلبة عليه. ولأول مرة يرى الكويتيون الشعب العراقي العربي يتعامل معهم بمنطق الغزو والسلب والنهب دون أن يفهم الكويتيون سببا لما حصل، ولا منطقا لما جرى!

وكان من الطبيعي أن ينتقل هذا الشعور بالصدمة من الشعب الكويتي إلى الشرفاء في الشعوب الأخرى العربية، بكل ما مثله ذلك من اهتزاز عنيف في الفكر القومي العربي بالمعنى الكلاسيكي.

ومن هنا فإن الأساس الذي قامت عليه الفكرة القومية العربية، وحركة الوحدة العربية التي هي تعبيرها السياسي - وهو التضامن والتعاون والاتحاد والاندماج والحماية والأمن - انهار، بعد أن برز عدو من الداخل أشد شراسة من كل الأعداء الخارجيين، وأشد حقدا وغضبا إلى حد إشعال النار في أكثر من ستمائة بئر للبترول قبل مغادرته الكويت! وبالتالي لم يعد في وسع أحد أن يؤمن بالمعنى الكلاسيكي للقومية العربية أو للوحدة العربية التي تمتد من الخليج إلى المحيط، والتي لا تفرق بين كويتي وعراقي وسوري ومصري وفلسطيني وسوداني وتونسي وليبي وجزائري ومغربي إلى آخره. فهناك واقع جديد برز في الحقل العربي لا يمكن أن يكون قد نشأ من فراغ، بل هو كامن غير ملحوظ، وقد نشأ عن اختفائه سيادة مفهوم للقومية العربية وللوحدة العربية بعيد عن الواقع التاريخي، الذي يجب دراسته في ضوء المنظور الجديد الذي أبرزه الاجتياح العراقي للكويت، والذي لم يكن في الحسبان.

ومن هنا - ولأسباب أخرى قد تتاح لنا الفرصة لمناقشتها - تجيء دعوتنا إلى إعادة كتابة التاريخ العربي المعاصر في ضوء المعطيات الجديدة التي أفرزها الاحتلال العراقي للكويت وممارساته وملابساته.