الكويت.. من الكيان السياسي إلى الدولة

الكويت.. من الكيان السياسي إلى الدولة
        

          الدولة القومية بالمفهوم القانوني والسياسي الحديث، فكرة تم استحداثها في أوربا منذ القرن السابع عشر، ومنها انتشرت في بقية أقاليم العالم حتى سادت كنمط مؤسساتي لا تكاد الجماعات الإنسانية تجد بديلاً له. وإذا كان دخول الدولة وفق مفهومها المستحدث في المنطقة العربية يرتبط عمليًا بنهاية فترات الاستعمار والحماية، فإن الكيانات السياسية أقدم عهدًا من ظهور الدول في المنطقة. والكويت تصلح مثالاً جيدًا لتوضيح الفكرة السابقة. فعناصر الكيان السياسي متوافرة فيها منذ العام 1756، وهي السنة التي يذكرها أكثر الكتّاب كتاريخ لاختيار أول حاكم - وهو صباح الأول - من قِبل الجماعة المهاجرة للكويت.

          منذ ذلك التاريخ بدأت تتكامل عناصر الكيان السياسي، فهناك قواعد غير مكتوبة تعارفت عليها الجماعة تحدد أسلوب تولي الحكم وأسلوب ممارسة الحاكم لعملية الحكم، كما ظهر نطاق مكاني تمتد فيه سلطة الحاكم حتى لو كان تقريبيًا في تحديده، بالإضافة إلى جماعة سكانية تخضع للقواعد التنظيمية سواء كان الحاكم مصدرها أو كانت مقررة بتراضي الناس عليها وقبولهم بها. ونلاحظ أن أفراد هذه الجماعة ينقسمون إلى سكان يقطنون الحواضر وسكان ينتقلون في البادية، ولكنهم يرتبطون بالحاكم برابطة الولاء. وقد مر الكيان السياسي في الكويت منذ نشأته إلى حين إنهاء اتفاقية الحماية البريطانية في 19 / 6 / 1961 وإعلان الاستقلال بمراحل عدة نعتقد أن عرضها أمام القارئ العربي لا يخلو من فائدة، فهي تقدم أمامه نموذجًا لتطور الأنظمة السياسية بناء على معطيات محلية صرفة في بعض الأحيان، كما تقدم في أحيان أخرى نموذجًا لتفاعل مجتمع عربي صغير في شبه الجزيرة العربية مع المعطيات الخارجية.

          ولعله من المفيد أن نتوقف أمام مراحل هذا التطور الذي قاد إلى ولادة الدولة الحديثة.

          وفق بعض الراويات التاريخية، تمت هجرة عدد من القبائل العربية من وسط الجزيرة العربية، وقد استقر بهم المقام في الكويت العام 1719. ولا تحدد الروايات التاريخية بشكل دقيق أسلوب التنظيم الذي حكم علاقة هؤلاء بعضهم ببعض، وعلاقة هذه الجماعة بالقوى الموجودة في الأقاليم الأخرى القريبة من الكويت، ولكن الروايات تتحدث عن عودة هجرة بعض افراد الجماعة الجديدة إلى خارج الكويت، وقد هاجر بعضهم إلى البحرين وهم آل خليفة أما الجلاهمة فقد هاجروا إلى شرق الجزيرة العربية. واتفق الباقون على اختيار أحدهم وهو صباح الأول حاكمًا للجماعة، وذلك العام 1756. اختيار حاكم للجماعة هو المؤشر الأول على قيام الكيان السياسي في الكويت. وقد تبلورت في إطار هذا الكيان قواعد تحدد أسلوب اختيار الحاكم وأسلوب ممارسته لاختصاصاته. وإذا كانت هذه القواعد مقررة بعرف تراضت عليه الجماعة، فإن تراكم التجارب قاد الجماعة إلى تقرير هذه الأحكام في وثائق مكتوبة تنظم هذا الموضوع. أولى هذه الوثائق ظهرت العام 1921 وفي العام 1932 تم تشريع أول قانون ينظم المشاركة في إدارة بعض المرافق العامة، وقرر هذا القانون قواعد تحكم الانتخابات ووفقها تم تنظيم انتخابات المجلس البلدي وفي العام 1938 تم إقرار دستور مكتوب وعقب فشل هذه التجربة تم إقرار الدستور المؤقت في 1961 ومن بعده تم وضع دستور 1962 وهو الدستور القائم. ونعتقد أن فهم الدستور القائم - وهو شهادة ميلاد الدولة الحديثة - لا يستقيم من دون الوقوف أمام بعض مظاهر التحول التي حكمت الكيان السياسي وصاحبت تطوره وصولاً إلى مرحلة الدولة.

المرحلة الأولى

          منذ 1756 إلى 1921؛ الدستور العرفي: التشريع لاحق على العرف كمصدر للقواعد القانونية، فهو يقتضي أولا انتشار التدوين، كما أنه يقتضي أن تكون تجربة الجماعة البشرية متقدمة إلى حد القبول بفكرة وجود جهة أو سلطة تكون مهمتها وضع القواعد القانونية، وإلى حين الوصول إلى هذه المرحلة فإن الجماعة تسد حاجتها في مجال القواعد القانونية من خلال ما تتعارف على الأخذ به من الأحكام في ما يعرض لها من الأمور وترتضي هذه الحلول وترى وجوب الأخذ بها. ولم يخرج الأمر في الكويت آنذاك عن هذا. وقد تعارفت الجماعة على أن يكون الحاكم من أسرة الصباح، ولا يكفي أن ترتضيه الأسرة للحكم، بل يلزم لتوليه الحكم أن تكون له البيعة من الأهالي. وهذه البيعة في جوهرها أقرب للعقد يلتزم وفقه الأهالي بطاعة الحاكم ونصرته وهو بدوره يلتزم مشورتهم والرجوع إليهم. ونلاحظ أن اختصاصات الحاكم في تلك الفترة كانت محدودة لسببين فالمجتمع قليل التعقيد والحاكم لا يمارس التشريع لأن القواعد القانونية مصدرها العرف في المسائل التجارية والمدنية والجنائية، أما في مسائل الأحوال الشخصية، فالقاضي يطبق أحكام الشريعة الإسلامية. كما نلاحظ أن أسلوب ممارسة الحكم لا يتسم باستخدام الشدة وهو أمر يجد تفسيره في طبيعة العلاقة المباشرة بين الحاكم والمحكومين، وحقيقة أن تولي الحاكم للحكم تمت بالرضائية من قبل أفراد الجماعة. وقد ظلت هذه القواعد مطبقة إلى حين تولي الشيخ أحمد الجابر للحكم (من 1921 إلى 1950) مع استثناء فترة تولي الشيخ مبارك للحكم (من 1896 إلى 1915) لأنه تولى الحكم بعد تصفية الحاكم السابق وفي عهده تم عقد معاهدة الحماية مع بريطانيا عام 1899 لمواجهة احتمالات تدخل الدولة العثمانية في أمور الكويت.

          المرحلة الثانية؛ وثيقة 1921: ظروف تولي الشيخ مبارك للحكم وميله للتفرد به وتراكم التجربة السياسية للكويتيين دفع إلى ظهور توجّه لوضع وثيقة مكتوبة عرضها الأهالي على أسرة الصباح بعد وفاة الشيخ سالم المبارك، وقد ورد فيها:

          «بسم الله
          نحن الواضعون أسماءنا بهذه الوثيقة قد اتفقنا واتخذنا - على عهد الله وميثاقه - إجراء هذه البنود الآتية:

          أولاً - إصلاح بيت الصباح كي لا يجري بينهم خلاف في تعيين الحاكم.

          ثانيًا - المرشحون لهذا الأمر هم: الشيخ احمد الجابر، الشيخ حمد المبارك، الشيخ عبدالله السالم.

          ثالثًا - إذا اتفق رأي الجماعة على تعيين شخص من الثلاثة، يُرفع الأمر إلى الحكومة للتصديق عليه. (والجماعة هي أسرة الصباح، والحكومة هي الحكومة البريطانية، وذلك من آثار اتفاقية 1899 المشار إليها أعلاه)

          رابعًا - المعين المذكور يكون بصفته رئيسًا لمجلس الشورى.

          خامسًا - يُنتخب من آل الصباح والأهالي عدد معلوم لإدارة شئون البلاد على أساس العدل والإنصاف.

          والنص السابق يعالج أمرين: أسلوب تولي الحكم (الفقرات أولا وثانيًا وثالثًا) وأسلوب ممارسة الحكم (الفقرات رابعًا وخامسًا). ومن قراءة الفقرتين رابعًا وخامسًا نستنتج أن من وضع النص المذكور لا يعتد بمبدأ الفصل بين السلطات أو لا يعرفه وهو الأرجح.

          وبعد تولي الشيخ أحمد الجابر أمور الحكم أنشأ مجلسًا للشورى، ولكنه عيّن أعضاءه من الأهالي، كما أن الاختصاصات المعقودة للمجلس أصبحت استشارية. ولم يستمر هذا المجلس طويلاً لعدم تحديد نظام العمل به ولإحساس أعضائه بعدم الحماس. وبالرغم من فشل تجربة المجلس الذي تصورته وثيقة 1921، فإن هذه التجربة مهمة من حيث آثارها المستقبلية، فقد كانت أساسًا لفكرة أن يكون أمر تنظيم وراثة الحكم في الدستور القائم بقانون يساهم ممثلو الشعب في وضعه وتطبيقه. كما أن الآلية التي سارت عليها الوثيقة لتنظيم أسلوب اختيار الحاكم أثرت على الدستور القائم، فوفق وثيقة 1921 يزكي الشعب ثلاثة وتختار الاسرة الحاكمة واحدًا منهم، أما دستور 1962 فقد جعل لرئيس الدولة تزكية ولي العهد وجعل للمجلس المنتخب إقرار هذه التزكية، فإن لم يوافق المجلس زكى الأمير ثلاثة يختار المجلس واحدًا منهم. فالدستور أخذ عن الوثيقة فكرة الاشتراك في تعيين الحاكم، ولكنه جعل عملية الاقتراح للأمير وعملية الإقرار للشعب، كما أنه أبقى على فكرة الاختيار من ثلاثة مرشحين كحل احتياطي. ونعتقد أن أهمية الوثيقة السابقة لا تقف عند هذا الحد، فهي في الواقع نموذج مهم للاجتهاد في تصور نظام للمشاركة الشعبية صادر عن مجتمع عربي في أطراف الجزيرة العربية عام 1921. بالتأكيد لم تكن الكويت معزولة عن العالم المحيط بها، فنشاطها في النقل البحري يعني أن عددًا من سكانها يحتكون بالتجارب السياسية للدول الأخرى، وقد كان لبعض الأسر التجارية من يمثلها في الهند وفي العراق، كما كان لبعض المثقفين متابعات للحياة الثقافية والسياسية في الخارج عن طريق السفر ومتابعة الصحف التي تصدر في الخارج. ولكن مظاهر الاتصال بالخارج لا تمنع من القول إن الوثيقة المذكورة تعكس بشكل أكبر الأثر المحلي، فهي لا تشير إلى الديمقراطية كتعبير يجسّد فكرة المشاركة الشعبية، ولكنها تصل إلى جوهر الديمقراطية من خلال الانتخاب الذي يقود لمجلس شورى. والمجلس المذكور هو مجلس للشورى، ولكنه يدير شئون البلاد على أساس العدل والإنصاف. واختصاص المجلس بإدارة شئون البلاد يعني أن مبدأ الفصل بين السلطات غير وارد في ذهن واضعي الوثيقة. الملاحظات السابقة تقودنا إلى الاعتقاد بضعف أثر النظريات الدستورية السائدة على مضمون الوثيقة وترجيح فهم مضمونها على ضوء التجارب المحلية، فمن يقرأ الوثيقة في هذا الإطار يرجح أنها ردة فعل على أسلوب الشيخ مبارك في ممارسة الحكم، فقد كان، نتيجة لطموحاته، أميل للانفراد بالحكم. وصورة ممارسة الحكم المقررة في الوثيقة هي أقرب للأسلوب الفعلي لممارسة الحكم في البدايات وفق ممارسة الشورى التي كان الحاكم يلتزم بها وفق عقد البيعة، فالحاكم وهو رئيس مجلس الشورى، يدير شئون البلاد مع أعيان أسرة الصباح وأعيان الأهالي، ولكن الأعيان أصبحوا منتخبين ولعل العنصر الأخير هو فقط الذي يعكس التأثير الخارجي. إذا كانت تجربة المشاركة الشعبية في الحكم، كما تصورتها وثيقة 1921، لم تنجح فإنها بالتأكيد أضافت للتجربة السياسية في الكويت بعدًا مهمًا.

          المرحلة الثالثة: من 1932 إلى 1938؛ المجلس البلدي والمجالس الإدارية: لا تشكل مؤسسات الإدارة المحلية أو حتى المشاركة الشعبية في تسيير الجهاز الإداري للحكومة، بالنسبة للمختصين بالدراسات الدستورية التقليدية، مظهرًا للمشاركة الشعبية في الحكم، لأننا لسنا بصدد مؤسسات سياسية. ومع ذلك فإن الديمقراطية السياسية ليست في واقع الحال المظهر الوحيد أو حتى الكافي لتحقيق فكرة الديمقراطية بمعنى اشتراك المواطنين في تسيير الشأن العام، ولذلك فإن مشاركة المواطنين في توجيه الإدارة أو تحديد وظائفها يسند الديمقراطية السياسية ويفعّلها. ووقوفنا أمام المجلس البلدي والمجالس الإدارية في الكويت في فترة الثلاثينيات لا ينطلق من الأمر السابق بشكل مباشر، على أهميته، ولكننا نعتقد أن هذه التجربة هي في واقع الحال جزء من التجربة السياسية التي ساهمت في نقل الكيان السياسي في الكويت نحو الدولة. وتجربة إنشاء المجلس البلدي كانت أيضا أول مظهر لممارسة الاختصاص التشريعي من قبل الحاكم، كما أن قانونها تضمن أول تنظيم تشريعي للانتخاب في الكويت.

          صدر قانون البلدية في 16 / 2 / 1932 وجعل هذا القانون للبلدية مجلسًا يديرها وإلى جواره جهازًا تنفيذيًا يقوم على تنفيذ المهام المنوطة بها. والمجلس البلدي يتكون من اثني عشر عضوًا منتخبًا، ورئيس من الأسرة الحاكمة يعيّنه الأمير. وقد أخذ القانون بنظام الانتخاب المقيد، فقررت المادة الثانية من القانون أن «الأعضاء ينتخبون من قبل وجهاء البلد من طلبة علم وتجار وكل من له علم باختيار الرجال». واختيار المشرّع الكويتي آنذاك لنظام الاقتراع المقيد لا يثير الاستغراب، بل هو المألوف في منهج الجماعات عند ولوجها إلى نظام الديمقراطية النيابية، فالأخذ بنظام الاقتراع العام يمثل مرحلة متقدمة لا تصل لها الجماعة في البدايات. ومن المسائل اللافتة للنظر أن الناخب لا يختار اثني عشر مرشحًا، وهو عدد المقاعد في المجلس البلدي، ولكنه يختار فقط ستة مرشحين، كما أن لجنة الانتخاب كانت تجتمع لتحديد أسماء من يحق لهم الانتخاب لعدم وجود كشوف رسمية تتضمن أسماء المواطنين. والقانون المذكور جعل للبلدية اختصاصات واسعة لعدم وجود أجهزة إدارية أخرى.

          و في عام 1936 انشئت إدارات للمعارف والصحة والأوقاف وهي وحدات إدارية تشكل جزءًا من السلطة التنفيذية يرأسها أحد أفراد الأسرة الحاكمة وهو مسئول أمام الأمير ومن اللافت للنظر أن لهذه الإدارات، حتى الخمسينيات، مجالس منتخبة كما المجلس البلدي. ولعل تفسير ذلك راجع لأمرين بينهما ترابط: مصدر تمويل أنشطة هذه الإدارات هو الضرائب وغياب المجلس السياسي المنتخب، فكأنما وجود هذه المجالس هو البديل للمجلس السياسي واستحقاق مترتب للممولين.

          المرحلة الرابعة: مجلس الأمة التشريعي ودستور 1938: ظهرت في الكويت مطالبات ذات طابع إصلاحي تتصل بأسلوب الإدارة الحكومية، ولم يتم التعامل بشكل إيجابي مع هذه المطالب. كما أن عددًا من الشبيبة في الكويت، وقد سموا تنظيمهم الكتلة الوطنية، كانوا متأثرين بالتوجهات القومية خارج الكويت التي كانت تدعو لإحداث تغييرات سياسية في المنطقة. وبعد تنامي مطالب المشاركة الشعبية وافق الحاكم على إنشاء مجلس منتخب تحت مسمى مجلس الأمة التشريعي وقد جرت الانتخابات وفق النظام الذي كان متبعًا في انتخابات المجلس البلدي والمجالس الإدارية، فقامت لجنة بتحديد أسماء من يحق لهم الانتخاب وفق المعايير التي ارتأتها. وفي الاجتماع الأول للمجلس المذكور قرر أعضاؤه أن يكون ولى العهد، وهو الشيخ عبدالله السالم، رئيسًا للمجلس، كما قرروا وضع قانون يبين صلاحيات المجلس المنتخب. وقد أقر الأمير القانون المقترح بعد تعديل يسير فيه وجاء نص هذا القانون:

          بسم الله الرحمن الرحيم
          نحن حاكم الكويت

          بناءً على ما قرره مجلس الأمة التشريعي، صادقنا على هذا القانون في صلاحية مجلس الأمة، وأمرنا بوضعه موضع التنفيذ:

          المادة الأولى - الأمة مصدر السلطات ممثلة في هيئة نوابها المنتخبين.

          المادة الثانية - على مجلس الأمة أن يشرع القوانين التالية:

          قانون الميزانية: أي تنظيم جميع واردات البلاد ومصروفاتها وتوجيهها بصورة عادلة، إلا ما كان من أملاك الصباح الخاصة، فليس للمجلس حق التدخل فيه.

          قانون القضاء: المراد به الأحكام الشرعية والعرفية، بحيث يهيأ لها نظام يكفل تحقيق العدالة بين الناس.

          قانون الأمن العام: والمراد به صيانة الأمن في داخل البلاد وخارجها إلى أقصى الحدود.

          قانون المعارف: والمراد به قانون للمعارف تنهج فيه نهج البلاد الراقية.

          قانون الصحة: المراد به سن قانون صحي يقي البلاد وأهلها أخطار الأوبئة أيًا كان نوعها.

          قانون العمران: ويشمل تعبيد الطرق خارج المدينة وبناء السجون وحفر الآبار وكل ما من شأنه تعمير البلاد داخليًا وخارجيًا.

          قانون الطوارئ: والمراد به سن قانون في البلاد لحدوث أمر مفاجئ يخول السلطة حق تنفيذ جميع الأحكام المقتضية لصيانة الأمن في البلاد.

          كل قانون آخر تقتضي مصلحة البلاد تشريعه.

          المادة الثالثة - مجلس الأمة التشريعي مرجع لجميع المعاهدات والامتيازات الداخلية والخارجية والاتفاقيات، وكل ما يستجد من هذا القبيل لا يعتبر شرعيًا إلا بموافقة المجلس وإشرافه عليه.

          المادة الرابعة - بما أن البلاد ليس فيها محكمة استئناف، فإن مهام المحكمة المذكورة تناط بمجلس الأمة التشريعي حتى تشكل هيئة مستقلة لهذا الغرض.

          المادة الخامسة - رئيس مجلس الأمة التشريعي هو الذي يمثل السلطة التنفيذية في البلاد.

          تحريرًا في يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الاولى عام 1357 هجري الموافق الثاني من يوليو 1938 ميلادي.

          تجربة مجلس الأمة التشريعي وجودًا وفشلاً تستحق وقفة، كما أن نص دستور 1938 يستحق وقفة أخرى.

          مجلس الأمة التشريعي: لم يعش هذا المجلس إلا ستة أشهر وانتهى أمره بالحل. على الرغم من الإصلاحات المتعددة التي قام بها، فإنه لم ينجح في خلق قاعدة صلبة من التأييد تلتف حوله، ولعل ذلك راجع لعدد من الأسباب:

          نظام الانتخاب الذي طُبق أدى إلى استبعاد عدد من المواطنين وهذا قلل بالتأكيد من إحساسهم بتمثيل المجلس لهم.

          بعض مساعي المجلس للإصلاح كانت محل عدم فهم وقلق من قبل شريحة من السكان. فعلى سبيل المثال كان عزم المجلس إجراء احصاء للسكان محل اعتراض البعض، لأنه يؤدي إلى عرض أسماء النساء وعدد الأطفال.

          وجود المجلس ونشاطه كان بالنسبة لشريحة مهمة من السكان يمثل صراعًا بين طبقة التجار والحاكم، ولذلك يُسمى هذا العام في الموروث الشعبي سنة المجلس بالنسبة للبعض، وسنة الانقلاب بالنسبة للبعض الآخر.

          محاولة المجلس إعادة بحث الامتيازات الممنوحة لبريطانيا نتج عنها مطالبة الأخيرة للحاكم باتخاذ موقف سلبي من المجلس، كما أن هذه التجربة كانت تشكل بالتأكيد نموذجًا غير جيد على مستوى نظم الحكم في المنطقة.

          دستور 1938: صياغة النص واللغة المستخدمة فيه تعكس ثقافة لم تعتد على التشريع، ولذلك حرص كاتب النص على وضع قائمة غير حصرية للمواضيع التي تدخل في نطاق الاختصاص التشريعي للمجلس، كما حرص على تبيان أهداف التشريع في ذات النص. والنص السابق مع إيجازه الشديد احتوى على أهم المبادئ التي تحتويها الدساتير، فهو قد حدد في مادته الأولى مصدر السيادة وأسلوب ممارستها كما حدد الهيئات العضوية للسلطات الثلاث في الدولة وحدد وظائفها. ونلاحظ أن هذا الدستور، من حيث العلاقة بين السلطات، أخذ بنظام حكومة الجمعية، وهو نظام يقوم على هيمنة المجلس المنتخب على أعمال السلطة التنفيذية واحيانا القضائية، وهذا النظام قليل الانتشار، فقد طبق لفترة وجيزة في فرنسا بعد الثورة الفرنسية في ما يُعرف بكميونات باريس ويُطبق حاليًا في سويسرا، أما بقية دول العالم فإنها تأخذ بالنظام البرلماني أو الرئاسي أو أنها تمزج بين هذين النظامين. ولعل التساؤل، عن إمكان تأثر تجربة دستور 1938 في الكويت بالفكر الدستوري في مسألة العلاقة بين السلطات أو بالتجارب الدستورية المقارنة، يطرح. ونحن نعتقد أن النتيجة التي وصل إليها واضعو دستور 1938 لا تجد تفسيرها في احتمال التأثر بالتجارب الدستورية المقارنة أو الفقه الدستوري، ولكن التفسير يكمن في ربط دستور 1938 بوثيقة 1921، وذلك على الوجه التالي:

          دستور 1938 قرر وجود السلطات الثلاث، ولكنه مثل وثيقة 1921 لا يعرف مبدأ الفصل بينها.

          الوثيقة جعلت عملية الحكم، بلا فصل بين السلطات، مشتركة بين الأمير رئيس مجلس الشورى ومجلس الشورى المنتخب، وذلك وفق المواد 4 و5 من الميثاق، أما الدستور فقد قرر في المادة الخامسة أن رئيس المجلس التشريعي، وهو ولي العهد، هو من يمثل السلطة التنفيذية.

          ومما يسند التحليل السابق هو موقف المجلس المنتخب إزاء مطالبة الأمير للمجلس بتأجيل إقرار النص، وكان رد المجلس بالمطالبة بسرعة إقرار القانون مستندًا إلى واقع القبول بميثاق 1921 وعدم تنفيذه، وهذا يقود إلى ترجيح أن دستور 1938 كان استمرارًا للوثيقة السابقة ورد فعل على عدم تطبيقها مع تطويرات في محتواها ناتج عن زيادة الاطلاع والمتابعة وتراكم التجارب.

          وبعد حل المجلس كانت هناك محاولة لتقديم البديل من خلال مجلس معين وطرحت فكرة مشروع دستور جديد، ولكن جذوة الحراك السياسي خفتت إلى حد كبير. مما ساعد على ذلك أن ظروف الحرب العالمية الثانية قادت إلى صعوبات في تجارة النقل البحري وهو النشاط التجاري الأساسي للكويت آنذاك. وبنهاية الحرب العالمية تم البدء بالإنتاج التجاري للبترول كما ظهر اللؤلؤ المستزرع وأصبح بديلاً للؤلؤ الذي كان يستخرج في منطقة الخليج، وكل ذلك قلل من أهمية مساهمة النشاط التجاري في تمويل الأنشطة الحكومية. نلاحظ أنه في الفترة من 1946 (بداية التصدير التجاري للنفط) إلى 1961 (إعلان الاستقلال) أن المشاركة الشعبية المنظمة اقتصرت على انتخاب مجالس الإدارة في بعض الدوائر الحكومية، وقد توقفت في الخمسينيات، إذًا فنحن أمام بروز أقل للتجربة السياسية ولكن كان هناك نشاط أكبر في تكوين هيكل إداري للاستعداد للانتقال إلى مرحلة الدولة.

          المرحلة الخامسة - من 1946 إلى 1961؛ الإعداد للاستقلال: العائدات النفطية أدت إلى تحسين مستوى معيشة السكان وانتشار التعليم في داخل الكوبت مع ازدياد البعثات التعليمية للخارج. وفي هذه المرحلة ظهرت القوانين الأساسية اللازمة لتنظيم الدولة وبعض هذه القوانين مازالت مطبقة وإن أُدخلت عليها تعديلات بطبيعة الحال. كما تم في هذه المرحلة استكمال الموئسات الإدارية. وفي أواخر الخمسينيات انضمت الكويت إلى بعض المنظمات الدولية مثل المنظمة الدولية للمواصلات السلكية واللاسلكية (14 أغسطس 1959) ومنظمة الصحة العالمية (9 مايو 1960) استكمال المقومات المادية والإدارية والقانونية، بالإضافة إلى وجود الوعي الشعبي كل ذلك جعل الظرف الدولي مواتيًا لإلغاء اتفاقية الحماية البريطانية التي وقعت بين حاكم الكويت المغفور له الشيخ مبارك الصباح وبريطانيا عام 1899. بإلغاء اتفاقية الحماية بتاريخ 19 / 6 / 1961 واستبدالها باتفاقية تعاون مشترك زال العائق القانوني أمام اكتمال سيادة الدولة وولادة الدولة الحديثة. واستكمال ولادة الدول الحديثة له مظهران؛ الاعتراف الدولي والدستور:

          الاعتراف الدولي - انضمت الكويت إلى جامعة الدول العربية في ثلاثين يوليو 1961، كما تم قبولها عضوًا في منظمة الأمم المتحدة في 14 مايو 1963.

          الدستور - عند إعلان الاستقلال كان نظام الحكم يقوم على اجتماع السلطة التنفيذية والتشريعية بيد الأمير، وذلك منذ إلغاء دستور 1938، مع تقرير استقلال المحاكم. وبعد الاستقلال قرر الشيخ عبدالله السالم وضع دستور بمشاركة الشعب، فانتُخب مجلس تأسيسي كانت مهمته وفق القانون 1 / 1962 بالنظام الأساسي للحكم في فترة الانتقال، الصادر في 6 / 1 / 1962، وضع الدستور على أن يعرض على الامير للتصديق عليه. وقد تم التصديق على النص الذي أعده المجلس التأسيسي في 11 / 11 / 1962 دون تعديل فيه. وقد كان رئيس المجلس التأسيسي هو أحد أعضاء مجلس الأمة التشريعي، الذي أعد دستور 1938 ومن صدق على دستور 1962 هو رئيس مجلس الأمة التشريعي السابق.

          ودستور 1962، وهو من أهم مظاهر تحول الكيان السياسي نحو الدولة الحديثة، لم يولد بلا علاقة مع الماضي بل هو - كما رأينا - امتداد لتراث دستوري سابق عليه. نعم استفاد هذا الدستور من التقنيات الحديثة لإعداد الدساتير، واستعان واضعوه بأفضل المختصين ولكن محتوى هذا الدستور من حيث أسلوب اختيار الحاكم وأسلوب ممارسة الحاكم لاختصاصاته لا يمكن فهمها من دون فهم التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية السابقة عليه.
-------------------------------
* أستاذ القانون الدستوري جامعة الكويت.

 

 

محمد الفيلي*