الآخر الاقتراب بدل الاحتراب

الآخر الاقتراب بدل الاحتراب

مع تزايد تعداد البشر وتناقص الموارد الطبيعية، وعلى رأسها المياه الصالحة للشرب، نسأل، إلى أين يتجه العالم فيما يتعلق بالتحديات البيئية التي تتهدد سلامة الحياة على الكرة الأرضية؟ وما مصير السلام بين الشعوب والمكونات التي تعيش داخل كل دولة مع تصاعد موجات التعصب؟ لم يكن موضوع البيئة هو محور هذا الحديث، ولكنه فرض نفسه بإلحاح، لأنه لا سلام ولا تعايش في بيئة تحتضر، ولا يمكن البحث في سبل إنعاش وسائل التخفيف من موجات الكراهية والتطرف التي تلف العالم وأحد مغذياتها نقص الموارد.

 

لم يعد الحديث عن ضرورة فهم واستيعاب الآخر، شأنًا خاصًا بالنخب والباحثين الأكاديميين في الجامعات ومراكز الأبحاث، بل هي قضية يجب أن تهبط إلى مستوى الشارع ووعي الناس الذين تفترسهم الأخبار المفبركة والأصوات المتشنجة المحرّضة على إزالة واقع لن يزول وتعده ببديل لن يأتي.
وفي دول عريقة في ممارستها مثل أمريكا، التي سرعان ما عكست لحظتها التاريخية الفارقة بانتخاب أول رئيس داكن البشرة، لتأتي بنقيضه ونقيض كل مَن سبقوه. هذه القضية التي تندرج تحت خانة التسامح وتقبّل الآخر، لا يمكن حلها مثل المعادلات الرياضية التي تبدو أسهل بكثير عند مقارنتها ببيئات مشبعة بالإرث التاريخي من الصراعات الدموية والذاكرة المليئة بالأوجاع والصور المفزعة، لا بل إن الأمر يبدو شبه مستحيل عندما تكون مرجعية الخلاف دينية أو مرتبطة بخلاف حدودي وحقوق تاريخية، هنا قد يصيبنا بعض اليأس، لكن عندما نسترجع تاريخ قارة أوربا سنجد أنها كانت السباقة تاريخيًا في كل ما هو بشع ومخيف من حروب ودماء أريقت باسم الرب وغير الرب، وأدخلت نفسها والعالم في حربين عالميتين مدمرتين، وهي أيضًا السبّاقة في النقد الذاتي وإرساء قواعد العدالة وحفظ الحقوق وإعلاء قيمة العلم والعلماء.

 قاعدة انتخابية عنصرية
لقد بات الأمر ملحًا، لأن شعارات التسامح وتطبيقاتها على الأرض، باتت في مواجهة فجة مع صيحات العنصرية، وحالة التراخي أو ربما العجز عن كبح جماح الموجات المتنامية من العنصرية، ظاهرة عالمية لم تدّخر عالمًا متقدمًا أو عالمًا ثالثًا، فالجميع في الهم واحد، بدليل التحولات اللافتة في نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية في بعض الدول الغربية، والتي لم تصدر سوى من قاعدة انتخابية آخذة في التزايد. تلك التحولات أجبرت بعض الأحزاب والمرشحين المعتدلين إلى نسخ بنود الأحزاب اليمينية لكسب بعض الأصوات من معسكرهم، والأهم كسب المزيد من الوقت في مواجهة أحزاب التطرف على أمل تطويقها وتحجيمها في ظروف أفضل.

المبدأ واحد
التطرف موجود بدرجات وأشكال مختلفة في جميع أرجاء العالم، وفي النظم الديمقراطية يتحرك مرتديًا الكثير من الأقنعة ويعتاش على الصدف التي تتوافق مع خطابه حين تقع، ولعل قضية المهاجرين في أوربا هبطت كالهدية من السماء على الأحزاب اليمينية التي اتخذت من تردي الأوضاع الاقتصادية مدخلًا لوجودها وانتشارها، وكل ذلك قبل جائحة كورونا التي قلبت موازين القوى لصالح تلك الأحزاب.
قد يبدو التقارب مع الآخر الذي يعيش في بلد بعيدة مختلفًا عن التعايش مع المكونات المختلفة في نفس البلد وبخاصة مع المهاجرين، ولكن المبدأ واحد، من يسلك طريق النبذ والإقصاء لن يسلك طريقًا غيره في تعامله مع كل ما هو مختلف عنه. 
في بعض مناطق أوربا اختلت الموازين، ففي الوقت الذي ترفض فيه المهاجرين القادمين من إفريقيا وتترك قواربهم تغرق في البحر، أو تقيم المتاريس على حدودها، نراها تفتح ذراعيها أمام اللاجئين من أوكرانيا في انحياز واضح لذوي البشرة البيضاء، رغم أن الظروف التي دفعت باللاجئين لخارج بلادهم هي نفسها مع اختلاف الألوان، تلك الموازين الأوربية تزداد اختلالًا في طريق المهاجرين القادمين من الحرب السورية ما بين الاستقبال والترحيب الحار في دول والصد المتشدد في دول أخرى لأسباب دينية معلنة!! 

حروب الأشقاء
 تتحدث أدبيات الوحدة العربية عن السمات المشتركة بيننا كعرب، وكيف أنها أقوى بكثير من تلك التي تجمع دول السوق الأوربية المشتركة، فنحن نتشارك في وحدة اللغة والدين والمصير، إضافة للجذور المتشابكة التي تربط بين العديد من الشعوب عن طريق الهجرات البشرية التي لم تتوقف بين كل بلد وآخر، رغم ذلك فالحقيقة المحزنة هي أن كل محاولات الوحدة باءت بالفشل، وكل إعلان سياسي عن مشروع جديد للوحدة لا يثير في نفس المواطن العربي إلا شعورًا بالسخرية المريرة، فالنتيجة معروفة سلفًا، فهناك تجارب للوحدة لم تصمد أكثر من يومين أو ثلاثة، وأثبت ذلك أن التناقضات بيننا أقوى من الروابط، ويؤكد ذلك أن الذين سقطوا ضحايا في حروب الأشقاء أكثر بكثير من الذين سقطوا في معاركنا مع العدو الصهيوني.
مشكلتنا الأولى إذن هي الوصول إلى توافق عربي، فرغم أن هناك حربًا كبيرة ودامية بين روسيا وأوكرانيا إلا أن هذا لا يجب أن يلفت أنظارنا عن الحروب العديدة التي كانت ومازالت مشتعلة في القلب العربي، في الجنوب هناك حرب باليمن، وفي الشمال حرب أخرى بسورية، وحرب ثالثة متجددة في ليبيا، أضف إلى ذلك العديد من التوترات المزمنة في العراق ولبنان، إنه مشهد محزن أن يصل بنا الحال إلى هذه الدرجة من الانشغال والتباعد فيما بيننا، وفي الوقت نفسه نمارس التناقض متذمّرين من تعامل الآخر معنا بفضاضة.
هذا الوضع من التشظي الداخلي يعرقل أي توافق عربي في تعامله مع الآخر، خصوصًا مَن نمتلك معهم تاريخًا من الحروب والصراعات، وهو ما يخلق حالة دائمة من التحدي بدلًا من التقارب وتحقيق الفهم المشترك. لعلنا نتذكر نظرية «صدام الحضارات» التي وضعها المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون في كتابه «نهاية التاريخ»، ويصف الإسلام فيه بأكثر العقائد تشددًا وصرامة، ومع انتهاء الانقسام الأوربي بين الشيوعية والرأسمالية، فإن الانقسام بين المسيحية الأوربية والثقافة الإسلامية صار هو المادة المثالية لملء الفراغ ما بين الفعل ورد الفعل. وهو ما يعيد إلى الحياة ذكرى الحروب الصليبية في القرون الوسطى وحروب الاستقلال من الاستعمار في القرن الماضي، وكأن الصراع بين الحضارة المسيحية والإسلامية مازال موجودًا على حاله رغم مرور مئات السنين.

مجموعة القيم والتعليم القسري
كل ما سبق عليه ألا يمنعنا عن مناقشة العلاقة بين الأنا والآخر، ليس على أساس التقسيم الجغرافي أو التنافر العرقي، ولكن على أساس مجموعة القيم التي أرستها كل حضارة في سياقها التاريخي، ويمكن القول إننا تفاعلنا مع الغرب كثيرًا بقدر ما قسينا منه، لقد تقبلنا مخترعاته الحديثة والعديد من نظمه الإدارية، وبنينا دولنا الوطنية الحديثة بناء على الخرائط التي وضعها، وقد تقبلنا ذلك حتى لا نزيد من وتيرة الصراعات الحدودية بين الأقطار المختلفة، وتفللنا بعضًا من فلسفاته خاصة التي تخص حقوق الإنسان، لكننا لم نتقبل منه كل ما يمس العقيدة والدين، كان هذا حدنا الباتر معه، ولم نتقبل - بالطبع - نمط الحياة المنفتحة التي ينادي بها ويعيشها أفراده، كان إحساسنا بالحرية الفردية - ولا زال محدودًا - ومرتبطًا بالحدود التي أتاحتها لنا الأديان والتقاليد.
لكن المؤلم في علاقتنا مع الغرب أننا تعلمنا كل ذلك من خلال احتلاله لدولنا، في تجربة يمكن أن نطلق عليها «التعليم القسري»، ويميل كثير من المفكرين العرب إلى ربط بداية النهضة العربية بمجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، فهذا الحدث هو الذي خرق قشرة الليل العثماني الطويل الذي كان مخيمًا على المنطقة العربية.
 والحملة الفرنسية لم تكن مسالمة بطبيعة الحال فقد استخدمت مدافع البارود الفتّاكة قبل أن تدخل المطبعة الحديثة، ودكت بيوت القاهرة واقتحم جنودها الأزهر بخيولهم قبل أن تؤلم المجمع العلمي، ولكنها كانت كافية لإيقاظ الوعي العربي على مواطن ضعفه والعجز الذي يعيش فيه، وبعد ذلك وقعت معظم الأقطار العربية تحت نير الاستعمار الأوربي، ولم يكن هناك أي مجال للحوار بين الأنا والآخر الذي هو المستعمر، وكما يقول المفكر «فيصل دراج»: «إن الأوربي يعتمد على تقدمه ويلغي ما عداه، ويتكئ على حضارته وينجب البربرية. فإن المدافع الأوربية، لا تؤمن مصالح التمدن. فلا مكان للمتعدد والمختلف إلا إذا كان الأخير وسيلة للإذعان والخضوع. يتم اختزال التاريخ الإنساني، إلى تاريخ المشروع الأوربي المنتصر».
لذلك فإن حوارنا مع الآخر لا يجب أن يتم أبدًا من منظور سياسي، فالتجربة التاريخية بيننا مريرة، وما زال الكيان الصهيوني الذي زرعه في أرضنا المثال الأوضح على بؤس هذه السياسة وعدم النظر إليها بإنصاف، ولكن أن يتم النظر للحوار بقدر ما يحتاج كل منا من الآخر، بشرط أن نأخذ منها ما يفيد ويطلق الطاقات المخزونة في داخلنا، علينا أن نتغلب على كل عوامل الهيمنة القديمة وأن نؤكد على ذاتنا الحضارية التي قادت العالم إبان ازدهار الحضارة الإسلامية، لا نريد أن ننحبس داخل ذواتنا وفي الوقت نفسه لا نريد أن يهيمن عليها الآخرون، وأن ندرس تراثنا بعمق لنستخرج منه كل النظم التي تساعدنا على تنظيم حياتنا بدلًا من النقل الحرفي لتجارب الآخرين، وهكذا يكون الحوار مجديًا وذا فائدة ■