بورتسودان مدينة تختزل الفصول

بورتسودان  مدينة تختزل الفصول

   عندما تغدو أسراب طيور الرهو مغردة في منتصف شهر سبتمبر من كل عام، من الشمال القصي متجهة نحو الجنوب، عابرة سماء مدينة بورتسودان الساحلية، يخامر المرء شعور جميل بأن فصل الصيف انقضى بخيره وشره، وفي المقابل عندما تعبر ذات الأسراب أجواء المدينة في منتصف أبريل، وهي تغرّد عازفة أغنية الوداع مترحّلة إلى مواطنها في الشمال، يعتري الناس شعور قاسٍ بأن أيام الشتاء توارت، وما على الناس إلا مجالدة قوارع الصيف بالصبر الجميل حتى ذهابه، أو الرحيل الاضطراري.

 

 هكذا نلاحظ وجرت العادة أن يكون الحد الفاصل ما بين قدوم فصلي الشتاء والصيف في مدينة بورتسودان هو عبور أسراب الرهو جيئة وذهابًا من وإلى شمال الكرة الأرضية.
   وبورتسودان التي نحط على رحالها في هذه المرة مدينة ظرفية، مدينة غريبة الأطوار، وعلينا ألا نرفع حاجبي الدهشة حينما ندرك أن البحر أمامها والجبال خلفها، تؤثر فيها الظروف والأحوال المناخية إلى حدٍ كبير، ورغم أنها تقع فلكيًا بين خطي طول 37.1329.2 وعرض 19.3652.6، إلا أنها تتميز بمناخ لا بحر أبيض متوسطي قح، ولا مداري صرف، ولا أبالغ إن قلت إن أهم ملامح غرابتها أنها مدينة تختزل الفصول، بل هي من فصلين فقط، الخريف في جوف الشتاء، والربيع يبتلعه الصيف، ولا أحد يحس به، كأنه ليس من الفصول المناخية المتعارف عليها، إذ تبدأ درجات الحرارة في الارتفاع من منتصف شهر أبريل حتى تبلغ ذروتها في شهري يوليو وأغسطس، ثم تبدأ في الانخفاض ببطء من منتصف شهر سبتمبر مع رطوبة مزعجة، مما يجعل الصيف يمضي مناصفة مع الشتاء، حتى نوفمبر حيث يعتدل المناخ، وتعود أجواء المدينة إلى الحالة التي يتمناها الفرد.

تراجيديا الصيف
قصة الصيف في هذه المدينة مكررة لا تنتهي، وكأنما تحاول الطبيعة أن تجدد قساوتها على الناس مرة في كل عام، وأقسمت بألا يكون الموسم بأحسن من سابقه إلا بدرجة حرارة واحدة أو اثنين في أغلب الأحوال، مصحوبة بارتفاع رطوبة الجو، وقلة الأكسجين الذي يفضي إلى صعوبة التنفس، ويجعل المرء وكأنه على فوهة مرجل يغلي، ما يؤدي لضربات الشمس التي تفضي إلى الموت في بعض الأحيان كما حدث في الأشهر الماضية. 
 وفي مثل هذه الأجواء يهرع الناس هربًا من مدينتهم، تفاديًا للفصل العنيد وضراوته، إلى المصايف أو المستجمعات العائلية الأدنى حرارة، سواء في أركويت أو سنكات اللتين تقعان خلف جبال البحر من الناحية الغربية، أو إلى مدن السودان الأخرى، أما الميسورون وذوو النزعات الترفيهية فيصطافون خارج السودان، وغالبيتهم في دول مصر وإريتريا وإثيوبيا، وغيرها، وما دونهم من العامة يظلون يبحثون ويبحثون عما يخفف عنهم لسعات الشمس الحارقة، هذا فضلًا عن الشباب والصغار الذين يقضون أوقات الظهيرة يسبحون في مياه البحر الأحمر، أما النساء فيكون الصيف عليهن أشد ضراوة ولا حيلة لهن، إلا أن يتلفعن بالصبر، حيث تضطرهن العادات والتقاليد على البقاء في بيوتهن مهما عظمت الخطوب. 
   حدّثني الدكتور مصطفى كمال الجزولي، أستاذ القانون بالجامعات السودانية بقوله: «حينما قدمت لمدينة الثغر بدواعي العمل في منتصف التسعينيات، قدمت إليها وفي ذاكرتي الكثير مما سمعته عنها، وأنها ميناء السودان الأول، وأن مناخها هو مناخ البحر الأبيض المتوسط، وغالبية بيوتها من الخشب، وبها حركة تجارية كبيرة وواسعة، ولها ساحل ساحر، هذا فضلًا عن قصص خيالية أقرب للخرافة عن القطط الكبيرة الحجم وفرط تعاملها مع الإنسان وهكذا... كل هذا حملته معي وجئت به إلى المدينة علني أتحسسه وأعايشه في مقبل أيامي، ولم يكن في بالي أن أفاجأ بطقس غريب، أغرب من قصص الخرافة التي سمعتها عنها، ولعل ما يحير حقًا أنه قد تمر ساعات اليوم ويمر خلالها على الإنسان كل فصول العام، ولك أن تتخيل!... لعلك صادفت في السنوات الأخيرة نزول الأمطار في غير ميعادها بكثير. وبورتسودان تتميز بطقس نسيج وحده، ففي الصيف (يا ساتر) رطوبة عالية ودرجة حرارة مرتفعة، وفي الشتاء دفء تتخلله أمطار وشبورة ندية».
   ونظرًا لتراجيديا الصيف المستمرة العام تلو العام اتخذت بورتسودان وضعًا تعليميًا يختلف في التوقيت عن بقية مدن السودان، ولا ينسجم معها إلا في امتحانات الشهادة السودانية، التي يجلس لأدائها الممتحنون في كل ولايات السودان في توقيت واحد، كما يصادف هذه الفترة انخفاض في العمل سواء في دواوين الحكومة أو مرافق القطاع الخاص، مما ينعكس سلبًا على الإنتاج، لذا ما كان غريبًا أن يكون غدو ورواح طيور الرهو بشيرًا ونذيرًا.

بين الساحل والجبل
 إن تأثير الموقع الفلكي والجغرافي على طقس بورتسودان لا يحتاج إلى برهان، إذ تقع على السفوح الشرقية لسلسلة جبال البحر الأحمر فيما يشبه (الحفرة)، وتقدر المسافة ما بين الجبل والساحل حوالي 70 كليومترًا، وهي في متاخمته بانحدار قد يبلغ 3000 قدم، وارتفاع عن سطح البحر بحوالي مترين.
 لكن هذا الموقع أكسب المدينة بعدًا استراتيجيًا مهمًا إقليميًا وعالميًا، من خلال ميناء بورتسودان الذي يقع بالكاد في منتصف ساحل السودان الغربي للبحر الأحمر بطول يبلغ حوالي 780 كيلومترًا، ممتدًا من ناحية الشمال من بداية الحدود المصرية حتى منطقة رأس كسار جنوبًا عند الحدود الإريترية، يجاوره شمالًا «ميناء العين السخنة» في مصر، وجنوبًا «ميناء مصوع» الإريتري، ويقابله من الناحية الشرقية تقريبًا «ميناء جدة الإسلامي» في المملكة العربية السعودية، الموقع الذي جعلها واسطة العقد الذي يربط الشرق بالغرب بحريًا، ما جعلها تتميز بقيمة اقتصادية وجيوسياسية بالغة فيما تميزت عن غيرها من مدن السودان بالسياحة البحرية، خاصة إذا علمنا أنها تبعد عن العاصمة السودانية الخرطوم بحوالي 680 كلم، وتجاورها عن بعد من مدن الولايات الأخرى كسلا في الشرق، ومدينة عطبرة على نهر النيل في ولاية نهر النيل في الوسط.

شيخ برغوث
 يُحكَى عن هذا الشيخ ما يُحكى، وجاء في الأدبيات والأخبار المروية، بأن فقيهًا إسلاميًا صالحًا أتى مهاجرًا من أرض الحجاز، وعاش في منطقة الميناء الحالية، حتى توفي ودفن فيها قبل عقود عدة، ومن ثمّ اتخذ البحارة والصيادون قبره مزارًا لهم، فيما أشارت بعض المصادر إلى أن الموقع نفسه تصل جذوره التاريخية إلى قديم الأزل، إذ ظهر في الأطلس الجغرافي لبطليموس (10 - 175ق.م) باسم «تيو سيتيرون»، ومع تقدم القرون كان قد زاره الملاح البرتغالي خوان دي كاسترو في عام 1540 م وأطلق على كل المنطقة الواقعة شمال مدينة سواكن اسم «تراديت». ويحدثنا المؤرخ جعفر بامكار مؤلف «سلسلة مقالات عن البجا»: لقد أنشأ البطالسة - اليونان وهم من قُوَّاد الإسكندر الأكبر عام 300 ق.م - ولأول مرة في التاريخ الموانئ على الساحل البجاوي، وكان أعظم هذه الموانئ ميناء «بطليموس ثيرون»، وهو ميناء عقيق الحالي، وقد أنشئت عام  270ق.م، ثم الموانئ الأخرى مثل «ثيرون سوتربا»، وهو تحريف لـ«اسوتربا» وهو الجبل الكبير الواقع غرب بورتسودان، ثم ميناء «إيفانقليز»، وهو ميناء سواكن، لكن الذاكرة الجمعية البجاوية احتفظت بكل الأحداث جيلًا بعد جيل، وبورتسودان الحالية كانت ميناء يونانيًا زاخرًا بالحياة قبل أكثر من ألفي عام عكس ما يظن الكثيرون، وجبل أسوتربا العظيم غرب بورتسودان شاهد على كل ما يجري بالخليج الواقع شرقه وهو خليج برؤوت.
 لكن الثابت لما استولت الحكومتان «البريطانية - المصرية» على زمام الحكم في السودان عام 1898م، ارتأت الحكومة البريطانية ضرورة إنشاء ميناء جديد يكون بديلًا لميناء سواكن الذي كان يخضع رسميًا لحكومة الخديوي، زاعمة بأن التطور الذي حدث في مجال النقل البحري وازدياد سعة وحركة السفن الحديثة يتطلب إنشاء ميناء جديد قادر على مقابلة ذلك، وهو ما يُعجِز ميناء سواكن على الإيفاء به لضيقه وعدم صلاحيته لاستقبال السفن الحديثة ولكثرة الشعاب المرجانية التي تعيق الملاحة.

خليج طبيعي 
ومن ثم عمد المستعمر الإنجليزي إلى استكشاف موقع آخر لتشييد ميناء جديد لسودان حكومة الحكم الثنائي، وبعد تمحيص ودراسات وجد ضالته، واستقر رأي اللجنة الفنية للإدارة البريطانية على أن تكون المنطقة الواقعة شمال سواكن وعلى بعد 60 كيلومترًا المسماة بـ«شيخ برغوث» هي المكان الأنسب لتشييد الميناء، لكونها تمثل خليجًا طبيعيًا ممتازًا لإنشائه، إذ يبلغ طوله نحو ستة كليومترات ويقسم اليابسة إلى قسمين: البر الشرقي، والبر الغربي، الذي كان خيارًا من خيارات عدة، في أرض يباب، ليس فيها ما يوحي بالحياة، وليس فيها مكان يُهتدَى إليه. 
 وبمبادرة من اللورد كرومر في العام 1900م بدأ الإنجليز في تشييد الميناء عام 1905/1904، والشأن المعماري هو الذي أزعج السواكنيون (أهل سواكن) وحسبوه مؤامرة لسحب البساط من مدينتهم، لكونها تمثل الشاهد الحي على حضارة العرب والمسلمين بالسودان، والدرع الحامي المساند للثورة المهدية والحارس القوي لها على ساحل البحر الأحمر، خاصة بعدما خاضوا معارك شرسة ضد الاستعماريين. ويحدثنا الأستاذ أحمد المجذوب في كتابه «حكاية بورتسودان... ملحمة الإنسان والمكان»: «جاءت توصية اللجنة الفنية برئاسة مستر كينيدي بنقل ميناء سواكن إلى موقع جديد، وبالتالي اعتقد أهالي سواكن أنه استهداف لمدينتهم جراء مناهضتهم للمستعمر وقتالهم بشراسة بواسطة القائد عثمان دقنة».
 والطريف أنه مع بدء تشييد الميناء الجديد، أدرك الإنجليز صعوبة وقساوة الصيف في هذه البقعة، وأنها تتميز بدرجة حرارة تذيب رأس الضب، مما ساقهم للبحث عن موقع جديد آخر يصطافون فيه، حتى لجأوا إلى قمة سلسلة جبال البحر الأحمر عند مدينة أركويت.

الذهنية الكولونيالية
  كان بديهيًا أن يبتدع الإنجليز اسمًا مستحدثًا لهذا الوليد الجديد الذي حل محل ميناء سواكن، وكحال الذهنية الكولونيالية التي دائمًا ما تبقي آثارها في مستعمراتها، ولو في الأسماء على أقل تقدير، سرعان ما أطلقوا عليه الاسم الإنجليزي (PORT SUDAN) ما يمكن تعريبه بـ«ميناء السودان»، مثله مثل العديد من مدن الموانئ المستعمرة بريطانيًا، وعند تداوله بين الناس دائمًا ما يسقطون أو يميليون إلى (إغفال التاء) ليبقى «بورسودان» وكما كتب كينيث ج. بيركيز في كتابه «بورتسودان... نشوء وتطور مدينة استعمارية» هذا ما يجري على نسق المدن الساحلية التي شيّدها الإنجليز في مستعمراتهم خاصة في إفريقيا، أو على بعض الموانئ المصرية بورسعيد، أو بور فؤاد أو بور توفيق، وهكذا.
 ويشهد التاريخ الحديث أن بعد انتهاء العمل في تشييد الميناء الجديد، بما فيه من أرصفة ومرابط للسفن، ومخازن، ومبانٍ إدارية، وجمركية، وخطوط سكك حديدية، تم افتتاحه في أبريل 1909م بحضور خديوي مصر عباس حلمي باشا، واللورد كرومر القنصل البريطاني.
   وبموازاة هذا كان البدء في تشييد المدينة الجديدة بورتسودان، الشيء الذي جعل الكثيرين يرون أنها من المدن المصنوعة.

مدينة من عدم
  إن الخلفية لهذه الزيارة التاريخية هي معرفة الوجود لمدينة خُلقت من عدم، وغرزت معاولها وأخضعت أدواتها رهن التقدم والتطور عبر الزمن حتى ظفرت بأهمية وشهرة عالمية... لكن كيف كان ذلك؟ 
  بلا شك أن قيام الميناء تطلب أعدادًا وفيرة من الأيدي العاملة التي تخدم مرافقه المتعددة، ما قاد الإدارة للسعي إلى إيجاد الحلول لتوفير القوى العاملة المدربة والمؤهلة للقطاعات المختلفة، ومن ثمّ فتحت الأبواب مشرعة لتوظيف العاملين من أنحاء السودان المختلفة، خاصة أن كثيرًا من أبناء سواكن، كما حدّثنا محمود الأمين أرتيقة ــ عمدة سواكن وعموم قبائل الأرتيقة في السودان – بقوله: «ظلوا في مدينتهم، لم يتحركوا البتة صوب المدينة الجديدة، نكاية بالمستعمر الذي عمل على تدمير مدينة سواكن، لصمودهم ضده في حروب الثورة المهدية، وكسرهم المربع الإنجليزي بانتصار «الفزي أوزي»، ولم يتوجهوا إلى بورتسودان إلا بعد منتصف العشرينيات من القرن الماضي على استحياء، حينما قطعت عنهم كل مظاهر الحياة».
 إثر ذلك الحدث الكبير تقاطرت الجموع من كل أقاليم السودان للعمل في الميناء، ومن ثمّ بدأت الإنشاءات تترى في تكوين المدينة الجديدة، يقينًا بأن ليس ثمة في التاريخ ولا الجغرافيا ولا الإنسانية من كانوا يعرفون قبل أكثر من مئة وعشرين عامًا مدينة تسمى بورتسودان، ولولا قيام الميناء - كما حدثنا أرتيقة - لِمَا كان في الوجود مدينة تسمى بورتسودان، بل كان هناك مكان صغير يعرف بلغة البجا باسم - أوشي برؤوت - ويعرَّب إلى «الشيخ برغوث».
 ثم مضت تنمو رويدًا رويدًا، وتزدهر خدماتها بتوافد أعداد كثيرة من البشر لممارسة نشاطاتهم العملية والمرتبطة بالميناء، فتشكلت الأحياء والديوم في المدينة ما بين البر الشرقي والبر الغربي.
وكان «حي الأسكلة» من أقدم أحياء البر الشرقي، ويقع ما بين الميناء والساحل، وفي شماله حي ديم التيجاني (يجمع موظفو وعمال الميناء)، ويجاوره أحياء أبو حشيش، أبو الدهب، سلبونا، ثم حي المزاورية (وهم جماعة الكلات التي تقوم بعمليات شحن وتفريغ البواخر)، وترب هدل، والثورة، وديم النور. وفي البر الغربي ديم العرب، ديم المدينة، حي العظمة، طردونا، حي السوق، حي السكة حديد، ترانسيت، ديم سواكن، ديم جابر، حي كوريا، ديم حجر، ديم الشاطئ، دون النظر إلى الأسبقية، فيما تشكلت أحياء وديوم وفقًا للمهن التي يمتهنها الناس، منها حي الممرضين، ديم البوليس، ديم السجن، حي البلك، وهكذا. 

بوتقة انصهار الأجناس 
 وبمرور الزمن أخذت أهمية بورتسودان تتصاعد إقليميًا وعالميًا، فضلًا عن أهميتها القصوى للسودان ككل، وتم إنشاء العديد من المؤسسات والهيئات المرتبطة بالميناء، ومصفاة شل لتكرير النفط مثالًا. ونظرًا للتقدم المستمر في العمل المينائي والذي تكلل بإنشاء هيئة الموانئ البحرية في العام 1974م التي غدت منظومة تشمل عدة موانئ (الميناء الشمالي/ الجنوبي/ الأخضر/ ميناء سواكن/ داما داما/ ميناء هيدوب/ ميناء كوستي الجاف)، وبالتالي شهدت بورتسودان تطورات كبيرة ومهمة في شتى المجالات تعكس مدى التأثير الاقتصادي والسكاني والجغرافي على المنطقة، وحينئذٍ أخذت تزين بالأزياء التي تتناسب مع عصرها. 
  وإذا نظرنا إلى الجانب العمراني على سبيل المثال نجد أن أهم سماته الانقلاب الذي حدث في المفاهيم وثقافة الناس، إذ تخلت المدينة عن المنازل الخشبية، وأصبح المعماريون يبتدعون أنماطًا جديدة من المباني المتعددة الطوابق، ذات التصاميم الراقية، فيما صار يعمها تصور جديد لأنواع السكن العمالي، والاقتصادي البسيط الذي يتوافق مع مستويات الدخل.
  كما تبعجت المدينة ما بين الساحل والجبل، نظرًا للتوسع السكاني الذي أفرزه التقدم الاقتصادي بفضل تطور الميناء، وازدياد حركة النقل والخدمات، خاصة إذا علمنا أنها المدينة الاقتصادية الأولى والعاصمة الثانية في السودان، وأنها معبر مهم لكل الدول الإفريقية المغلقة بحريًا، فبعد أن كانت في بداياتها في دائرة ضيقة قد لا يزيد قطرها عن بضع كيلومترات فتمددت كما لو أنها تود أن تلاحق الجبال، بظهور أحياء أخرى جديدة، مثل سلالاب، دار السلام، ديم مايو، دار النعيم، ديم كوريا، الوحدة، ديم فيليب، شقر، ولع، الإسكندرية، الطائف، الصفا، حي المطار وديوم ومربعات لا حصر لها، لتسع كل تلك الأعداد الوافدة، وحقيقة جمعت فأوعت حتى صارت سودانًا مصغرًا، وبوتقة تنصهر فيها كافة الأجناس، ومختلف الإثنيات والعرقيات والمعتقدات والثقافات، وأصبح المجتمع البورتسوداني خليطًا متمازجًا مع البجا سكان شرق السودان الأصليين، لتجسد المدينة الساحلية أكثر من غيرها ملامح المجتمع السوداني، ولعل هذا المزيج الغريب من الأحياء والديوم، والاندماج السكاني الفريد أوحى للشاعر الكبير صلاح أحمد إبراهيم بعامية متوهجة قوله:
يا قلبى دق... لكن بشيش 
من ديم مدينة... وديم عرب... وديم أب حشيش
للمينا... لي رامونا... أو من أربعات لتراب هدل
ومن أقوياي ميل جاي... وجاي...
 شيل عند الأصيل لمصفى شل...
بالله هل؟؟
شفت الورد في باقة ماشي وفي شفافيو بيندي طل
أو لمحة من شباك أطل
شباكو شيش
يا قلبى دق... لكن بشيش...
   وفي زيارتنا هذه كان لابد أن نتعرف على البجاويين لكونهم أهل المنطقة، وهم أقدم شعوب القارة الإفريقية، فثمة من يرى أنهم ينتسبون إلى كوش بن حام بن نوح. وهناك من يعتقد أنهم من سلالة سام بن نوح. ولكن يقول - بامكار- (المنطقة الواقعة جنوب مصر، وشرق النيل حتى سواحل البحر الأحمر، ومن منطقة أسوان بجنوب مصر وحتى مصوع بالأراضي الإريترية). وقد شهدت مناطقهم كثيرًا من هجرات القبائل العربية كالقريشيين والأمويين والبلويين، كما شهدت غيرهم من الجنسيات المختلفة، كاليمنيين والمصريين، والأتراك، والهنود، والأفغان، واليونانيين وغيرهم، منذ أن كانت سواكن ميناءً تجاريًا ضخمًا على البحر الأحمر، ثم ارتحلوا بعد نقل الميناء إلى بورتسودان، واستقروا فيها.
 وينقسم البجا إلى مجموعات قبلية هي الهدندوة، الأمرأر، البشاريون، الحلنقة، الأرتيقا، البني عامر، الحباب، الأشراف، الكميلاب، الشيعاياب، والحسناب. وتتحدث معظم القبائل البجاوية لغة «البداويت» أو «التبداوي» الحامية وتسمى باللغة الكوشية الشمالية، أما قبائل البني عامر والحباب فيتحدثون لغة «التقراي» السامية، وربما لغة «البداويت».
 وفي داخل هذه المجموعات القبلية ينقسمون إلى نظارات وعموديات، يتحدثون اللغة البجاوية ولهم قوانينهم العرفية وتقاليدهم وعاداتهم المشتركة، - كما حدثنا بامكار- وحياتهم في الأساس قديمًا وحتى الآن تعتمد على حياة البداوة ورعي المواشي مع قليل من الزراعة الموسمية، ثم بعد ذلك بدأوا يشاركون في النشاط التجاري بين الموانئ على البحر الأحمر، مثل ميناء باضع في إريتريا، وميناء عيذاب، وسواكن، وكناقلين للبضائع المصدرة والواردة على ظهور جمالهم لقرون عديدة، حتى إنشاء السكك الحديدة في بداية القرن العشرين... والبجا ينتشرون في كل مناطق شرق السودان، لكنهم في بورتسودان يتمركزون في «ديم عرب»، ولديهم ارتباط قديم ووثيق بالميناء، ولهم دور مشهود في أعمال الشحن والتفريغ، ومعدات مناولة السفن الراسية على الرصيف، ولعله الدور الذي تعهدوه منذ قيام ميناء سواكن منذ عهود سحيقة. والبجا لديهم ثقافة فطرية، ففي ترحالهم بالليل يهتدون بالنجوم لإدراكهم التام أسماء ومواقع النجوم.
   
السلات والصيادية
 إذا تجول الزائر في حي «ديم العرب»، وفي سوقه بين المتاجر لرأى بأم عينيه صورة حية لما هي عليه الحال في أغلب شوارع المدينة، ومنظر الشارع العرباوي هو عبارة عن ثقافة وحضارة بكاملها.
 وأهم ما يلفت النظر حقًا أن الإنسان البجاوي عندما يستقبل الزائر يستخدم لغته في الترحيب «دبايو» أو «اتينينا»، والتزامه الزي البجاوي أو ما يُعرف بالزي السواكني المكون من السروال الطويل والعراقي والصديري، والشعر الطويل، والخلال، وهي الصورة التي أوحت للشاعر صلاح إبراهيم قصيدة «دبايوا»:
صداره والثوب والسروال 
وشعره المغوف الوديك والخلال (مشط)
والسيف والشوتال (خنجر)
وعلبة التنباك (تبغ)
يراقب الزقوم والصبار والأراك
 وبينما كنا على مشارف سوق ديم العرب، في صباح يوم ماطر أغر أخذت رائحة الشواء تثير انتباهنا، وهي تفوح في جميع المناحي، وكذلك الأدخنة المتصاعدة، إنها رائحة شواء «السلات»، وهي الوجبة التي تميز أهل شرق السودان عامة، والمحببة لكثير من سكان المدينة، وحتى القادمين إليها، وهي تتكون من لحم الضأن الخالي من العظم والعصب، المشوي على جمر الحصى، وبعد إنضاجه يتم تقطيعه إلى شرائح صغيرة، ثم يؤكل خاليًا من البهارات، وهناك من يتناوله مخلوطًا بالعسل، أو مع العجوة، وهي وجبة غنية تحتاج طريقة إعدادها إلى ممارسة وخبرة، ولديها أناس متخصصون وأماكن محددة.
   ومن لم يكن له نصيب في «السلات» ربما يجد حظه في «الصيادية»، وهي من الوجبات الشعبية الشهية المشهورة أيضًا في المنطقة، مكونة من شوربة السمك.
  والبجاوي بطبعه يحب الحياة الحرة، قادر على التأقلم في كل الأجواء، وفي أكثر الأماكن قساوة، يحارب بالسيف، والسكين، والخلال، والشوتال، وهذا شعاره، ومهما عظمت الأمور لا يتخلى عن شرب الجبنة سواء في منتصف الليل، أو قبل طلوع الفجر، أو في ساعات النهار، وقد عرفوا بالكرم وحدة النظر، والذكاء المفرط، وروح الفكاهة واللذوعية، والسخرية، لكأن المرء فيهم يسخر من نفسه، وهو في الغالب يخبئ سرًا حفظه عبر تاريخ طويل، فيما يتمتع بمرونة نفسية عظيمة، وهو بكل هذه الخصال يجسد طموحات الطائفة التي ينتمي إليها.
 وبمرور الزمن والتعايش المستمر صارت غالبية الإثنيات والعرقيات التي عاشت في شرق السودان وتوزعت بينهم تتزيا بزيهم البيجاوي في المناسبات، وتتحدث لغتهم، ومهما شهدت المدينة من أزمات أو صراعات كما حدث في أيام سابقة فالناس قادرون على إيجاد الحلول لها، وبمقدورهم أن يتجاوزوا أي أزمة، خارج الأطر القانونية، وليس من أزمة تؤرق الجميع سوى شح المياه التي لم يوجد لها حل جذري منذ ميلاد المدينة وحتى لحظة زيارتنا.
   والزائر لمدينة بورتسودان أو ما جاورها من مدن شرق السودان يجد أن التعليم دفع بهم إلى أفق أرحب في الزمان والمكان، واختلطوا بالأجناس التي تساكنت معهم، ودرسوا ثقافات هؤلاء وأولئك وحضاراتهم وعلمهم، وهضموا، ونهضوا، وظلوا شعبًا له خصوصيته التي تميزه عن الآخرين.
  وأهم ما يلفت النظر أن الشريحة الكبيرة من السكان تتصل أعمالها بالميناء، من جمارك، تخليص للبضائع، وأعمال الشحن والتفريغ وما يتعلق بالملاحة والنقل بشقيه البري والبحري، وكذلك ما يتصل بالبحر وما يرتبط به من رزق وأنشطة مثل صيد الأسماك، وصيد الصدف والكوكيان، فضلًا عن السياحة البحرية، لذا يُشكل المجتمع البورتسوداني مزيجاً من الاتجاهات المختلفة، وتكاملاً بين الوسائل القيمية التي تختلف بين هذا وذاك بحسب المفاهيم والأهداف التي يتوخاها وراء كسبه المستمر.

طريق العقبة
   إذا كان ما ذكرناه هو الصورة التي يمكن أن يضعها الزائر في مخيلته، وهي صورة حقيقية مبسطة، قبل زيارته إلى بورتسودان، ليبقى السؤال عن كيفية الوصول لملامسة الواقع، وهذا ما يجرنا إلى الجهر بالقول بأن القادم إلى مدينة بورتسودان لا يأتي إليها إلا عبر واحد من ثلاثة طرق، الجو أو البحر أو البر، وفي كل مسار تأخذ المدينة شكلًا يختلف روعة وجمالًا عن الآخر، فالزائر لها عبر الجو عندما تقترب الطائرة من مطار بورتسودان لا يراها إلا كسفينة رابضة على الساحل في وداعة، هادئة مطمئنة، مثقلة بالخيرات، والقادم إليها عن طريق البحر لا يرى إلا وكأنها لؤلؤة كبيرة متكئة على الساحل الفضي. أما الذي يأتي عبر الطريق البري وخاصة في المساء، فعندما ينظر إليها من مسافة عدة أميال يدرك أنه موعود بزيارة سفينة عائمة في البحر تتلألأ أنوارها المتنوعة وهي تعانق السماء.
   وفي كل الأحوال أصبح الطريق البري (الطريق القومي) هو الأكثر استخدامًا وحركة، والذي يربط الموانئ السودانية بالعاصمة وبقية مدن السودان الأخرى، وتأتي أهميته لكونه الشريان المغذي لبقية أجزاء البلاد، ولعل أهم قطاع فيه ما يعرف بـ «طريق العقبة»، ورغم أنه يمثل جزءًا ضئيلًا من الطريق القومي، إلا أنه الأعظم خطرًا وأهمية، فهو بمثابة الحلقوم الذي ينشق منه المريء ليغذي المعدة، والقصبة الهوائية التي تنقل الهواء للرئة، ولعل انزلاق حجر من قمة الجبال في عرض الطريق يكون بمثابة الغصة التي تعترض الحلق مما يلحق أضرارًا بالغة بكل ما تبقى.
 والعبور عبر طريق العقبة محفوف بالمخاطر، وعندما تعبره السيارة أو الشاحنة أو غيرها، فكأنما تمر عبر سرداب أو دهليز طويل، كثير المنعطفات والتعرجات بطول يمتد لحوالي 9 كليومترات، كان قد شقته الآلة الألمانية بالمتفجرات والديناميت في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، بديلًا لشارع ترابي أكثر وعورة وخطرًا، يتسع لشاحنتين متعاكستين، حينما كانت السيارات والشاحنات بمختلف أنواعها محصورة وقليلة، بينما كانت تقوم السكك الحديدية بأعباء النقل للجماعات والبضائع من وإلى المدن التي تصلها بسهولة ويسر، ولكن في السنوات الأخيرة أخذ هذا الدهليز الضيق يضيق مرارًا ولا يتسع لكثرة الشاحنات والسيارات التي تمر خلاله، وما فتئ هو الممر الوحيد الذي يربط مدينة الميناء ببقية مدن السودان، وإذا ما حدث حادث قدري أو عارض انعزلت المدينة وما حولها عن بقية مدن السودان، وصار عيش الناس من صادرات وواردات تحت رحمة الأقدار، بعد أن تقلصت خدمات السكك الحديدية، وأصبحت لا تصل إلى غالبية المدن السودانية.
 لكن عبور العقبة في حد ذاته سياحة ما بين الوجل والتأمل، إذ يجتاح المرء شعور بالخوف يخالطه شيء من الاستمتاع والدهشة، فكلما نظر المرء إلى الهاوية وطالع حطام السيارات والشاحنات التي غدرت بها تعرجات الطريق، كلما تصاعدت الأنفاس، وبلغت الروح الذرى، ولكن ما أن تأمل سيجد صورًا شتى من مظاهر الحياة بين تلك الجبال، ومناظر لا يمكن أن يشهد مثلها إلا في الأفلام، تارة عندما تكون السيارة محازية لقمة الجبل، وتارة عندما يجد نفسه في هوة لا قرار لها، وأخرى حين يمد إحدى يديه خارج السيارة ليلتقط أكوام السحاب، كنا نمضي بسيارتنا ببطء شديد أرتال من الحديد تتقدمنا، وأخرى تزيد من خلفنا، ومن حولنا أكوام من السحب المتراكضة كما العهن المنفوش، وثمة أناس أسفل الجبل، أصغر من أحجامهم الطبيعية، يجرون وراء قطيع من الأغنام، يمارسون حياتهم حيث لا زرع ولا ماء بطبيعة يحسدون عليها، ويستمر الحال هكذا حتى يستقر المرء في قلب المدينة، على أرض مستوية ليس فيها ما يعيق من تضاريس، إلا تلك الخيران التي تتوسطها وتقسمها إلى أحياء وديوم.

قلب الحياة
   مَن وجد نفسه في قلب الحياة البورتسودانية عاش ذا طابع بحري، وغلبت عليه صفة التجارة، أما حين يضع الزائر قدميه على أرض مدينة بورتسودان فيدرك منذ الوهلة الأولى أنه في عالم جديد، عالم مختلف مليء بالنشاط الاقتصادي والتجاري والاجتماعي، بحكم أنه في مدينة الميناء الأول، والعاصمة الاقتصادية الأولى في السودان، كما يشعر بأنه في بيته الثاني، وأول ما يلفت انتباهه آيات الترحيب وأجمل عباراته سواء بعامية أهل السودان أو اللغة البجاوية «البداويت» (ايتانينا – دبايوا)، وكذلك سهولة الحركة وتوافر وسائل النقل في داخل المدينة، وارتباط أحيائها وديومها وتجاورها مع بعضها، كما يمكن له أن يطوف على جميع أرجاء المدينة على دراجة هوائية خلال ساعات محدودة، طالما الشوارع مرصوفة، وكل شارع يسلمك لآخر، وعلى امتداد الشارع ربما ثمة أحياء عدة، وغالبية شوارعها حية وضاجة بالحركة خاصة مع بداية شروق الشمس في الصباح وعند الظهيرة.
 ومثلما دامت بورتسودان مدينة اقتصادية محضة، فهي أيضًا مدينة تعج بمناطق سياحية ذات طراز نادر، وحتى فصل الصيف الذي دائمًا ما يضعها في موقف لا تحسد عليه، فلها روادها من الأجانب وعشاق السياحة في هذا التوقيت لممارسة هواياتهم من الصيد البري والبحري والسباحة والغطس، والغوص تحت الماء.
 ولكونها من أصغر مدن السودان فسرعان ما يكتشف الزائر أنه في أحضان الطبيعة البحرية الخلابة وجاذبيتها التي لا تُمل، وأنه موعود بقضاء أيام جميلة فيها من الإشراق والبهاء والصفاء ما يجعله يبقى أو يعود إليها مرة أخرى، خاصة إذا كانت زيارته في عز الشتاء، حيث يجدها أخذت طابعًا مريحًا وهادئًا، وأخذت من الجمال ما يدهش، ومن الأناقة ما لا حد له، ولشدة ما تتمتع به من جماليات، ظلت واحدة من المدن الشاعرية والملهمة لأهل الفن والإبداع، وقد نعتها الكثيرون بـ«عروس البحر»، «ثغر السودان الباسم»، «حورية الشرق»، فيما افتتن الأدباء والشعراء والمطربون بجمالها وكتبوا الكثير عنها وتغنوا بجمالها، مثلما صدح المطرب الشهير بـ«حيدر بورتسودان»:
عروس البحـــر يا حـوريه
  يا بورتســودان يا حنــــيه
مـن قلبي التائـه في حــبك
  أهدي سلامي وألف تحـيه

   وهكذا غنى كروان الثغر فاروق محمد صديق من كلمات الشاعر المبدع محمد عثمان لوممبا: «بورتسودان يا جنة/ يا قبلة وطنا / يا أم المدائن /الطير في الجنائن / بي حسنك تغنى»، وكان الفنان محمد عبدالرحيم حمدتو تغنى أيضًا بكلماته: «القليب مفتون افتنان /بي جمالك يا بورتسودان»، كما لا ننسى المطرب عادل مسلم والشاعر محمد عبدالله وهما يصدحان:
في حســـنك ياما إتلفـــينا
 وغنيـــنا دبايـــوا وأتنيـنا
صــداح كــروانك لـو غنا 
 يا جــنة بحـــبك جنيـــــنا
  ويعرف ملايين السودانيين أن الشاعر الكبير حسين بازرعة، أحد أشهر شعراء بورتسودان بل السودان قاطبة، كان له غرام مع البحر لا يدانيه غرام، وأمسيات مشهودة جرت على ألسنة الرواة، وهنا المطرب عثمان حسين يغني معه: 
إنها رقيتي التي خلدت لحن شهرتي
أسرجت ليل وحدتي بالآسى والصبابتي
يارؤى البحر اشهدي ها هنا كان موعدي وهنا كان مقعدي
  وغير هؤلاء فقد خرج من رحم المدينة كثير من المبدعين مثل عبد الكريم الكابلي، كما استقبلت العديد من الشعراء، أمثال الشاعر والمطرب صالح الضي، مصطفى سند، والنور عثمان أبكر، والحقوقي الشاعر الطيب محمد سعيد العباسي، عبدالله شرقي، عثمان علي، محمد بابكر عبدالله، وغيرهم كثر. 

الضباب الصباحي 
 خرجنا في صباح باكر للتجوال بين أحياء بورتسودان في طقس بديع، يغطي السماء ضباب صباحي (الشبورة)، عبارة عن سحب منخفضة وهي قطرات مائية عالقة في الهواء غير مزعجة وتضفي على الجو كثيرًا من المتعة والراحة، كنا نمضي في سيرنا برفقة المصور مبارك (حتة) في ثقة واطمئنان، نتنقل من مكان إلى مكان، نرنو إلى الأفق وزخات ناعمة من المطر، هكذا بدت المدينة في أبهى صورها، وكأنها تحمي جمالها من أشعة بركام السحب، وصوت اصطخاب مياه البحر الأحمر له وقع غير عادي، ودائمًا ما يكون الصباح الشتوي في المدينة أكثر إشراقًا وطراوة. وبينما كنا نسير راجلين في شوارع وطرقات المدينة، دون أن نشعر وجدنا أنفسنا في محازاة الشاطئ على كورنيش «الكافاب»، والصبايا وأناس من مختلف الجنسيات يمارسون الرياضة، والأطفال يلعبون بدراجاتهم الهوائية، هكذا الحال عندما تغلق المدارس أبوابها ولو لساعات، هذا غير الذين يجلسون لشرب الجبنة ويتبادلون الأنس، أو يستمتعون بالطقس ومشاهدة البحر وبواخر الميناء، جلسنا معهم وقضينا الساعات نستمتع بما يستمتعون به من مناظر وأجواء منعشة. 
  من هذا المكان عقدنا العزم على زيارة سوق السمك بحي سلبونا في البر الشرقي، لم يكن الوصول إليه عسيرًا، وما هي إلا دقائق معدودة، ورائحة الأسماك تملأ الأنوف والأمكنة، نزلنا في قلب السوق، أنواع مختلفة من أسماك البحر الناجل، الشعور، الكشري، البياض، وغيره مما يود المرء، وبأسعار مختلفة معقولة، وعلى بعد خطوات وصلنا مجمعات مطاعم الأسماك، ما يُعرف بـ«السقالة»، حقًا هي منطقة مبهرة، وإعداد وجبة السمك فيها أكثر إبهارًا، أناس من مختلف المشارب، على المستويين الرسمي والشعبي، وهذا بالكاد ما يحدث يوميًا خاصة في فصل الشتاء، ولعل «سقالة السمك» أصبحت من أشهر مناطق بورتسودان على نطاق العالم، مقارنة بما تستضيفهم الولاية من وفود رسمية من السودان وبقية البلدان، والسياح وغيرهم من الزوار.
 وبعد أن يأخذ المرء حظه ويتمتع بوجبة السمك الدسمة، كان من البديهي أن يشهد تجمعًا غفيرًا من البشر يقف على حافة الشاطئ ليأخذ حظه في القارب الزجاجي القاع ليستمتع برحلة داخل البحر، لمشاهدة الأسماك الطبيعية الملونة، مناظر تتراءى، وما رأينا مثلها في حياتنا، لم تكن جميلة فحسب وإنما غاية في الدهشة.
  
يوم جديد
ولما عزمنا على التجول في سوق المدينة كان لابد أن نمر على الشاطئ، طالما الطقس ساحر ويملك العقول، كان يومًا جديدًا، أتاح لنا فرصة أن نشاهد ما لم نشاهده من قبل، توجهنا راجلين إلى سوق المدينة الذي يقع على مرمى حجر من الشاطئ، لم يكن في ذلك مشقة، لكنه انتقال مفاجئ من الهدوء الشامل إلى الزحام، والضجيج وحركة الباعة المتجولين وبائعي البضائع المفروشة، وأسواق الخضر والفاكهة، والملبوسات التي تجاري الموضة، كما يوجد العديد من المتاجر التي تعرض كثيرًا من أصناف البضائع الراقية المعروضة بأسعار عالية، وأخرى بأسعار معقولة. ومن السوق أكثر من شارع شهير ولكل شارع صفة تميزه وبضائع تعرض فيه مثل شارع الصياغ، الدلالة، المنطقة، السجن، سوق البلح، وحتى المستشفى لديه شارع، وكذلك البلدية والسكة الحديد، دار الرياضة، وكلها تنسل من السوق ويمكن الوصول إلى تلك الأماكن سيرًا على الأقدام، هذا غير الشوارع المنتشرة المعروفة في المدينة.
وما يلفت النظر أن مدينة الساحل تنفرد كذلك عن غيرها من مدن السودان الأخرى بميزة أن بإمكان المرء أن يقضي العديد من الأغراض في يوم واحد وربما أقل من يوم، بينما يستحيل عليه ذلك في بقية المدن، وفي نفس الوقت لا تستغني عن اجتماعاتها وأنديتها الرياضية والاجتماعية وملاهيها والزيارات والنزهات، والتمتع بكل لحظة من لحظات العمر، وغالبًا ما يتوجه الناس بعد قضاء حاجاتهم وأوقاتهم الاجتماعية مساءً إلى أماكن صناعة وبيع المخبازة ليتناولوا ما طاب لهم منها، وهي من الوجبات التي اشتهرت بها مدينة الثغر، وتتكون من فطيرة الدقيق ويتم فرمها مع الموز، ثم ترش بالسمن والسكر، وقد يضاف إليها الطحنية، أو الزبيب، أو العسل، أو الزبادي، كل حسب مزاجه، وقد اشتهر ديم سواكن بورتسودان بإعداد هذه الوجبة، وهناك الكثير من المحلات التي لها سمعة عالية في إعدادها.

تقليد قديم متجدد
إذا تهيأ للمرء أن يقضي احتفالات رأس السنة الميلادية، سيشهد العجب العجاب، وما لم تر عيناه مثله في مدن السودان، الاحتفال على وقع صخب السفن الأجنبية الراسية في الميناء، وفي هذه الأيام يتوافد الناس بأعداد هائلة من مختلف الولايات لقضاء رأس السنة الميلادية والاستمتاع بأجواء وشواطئ المدينة الساحلية، فيما تعمل العديد من الأندية وصالات الأفراح والمؤسسات على تنظيم الحفلات الغنائية باستقدام كبار المطربين في السودان. 
وفي بورتسودان تقليد قديم يتجدد في نهاية كل عام، حيث يبدأ الناس الطواف بالسيارات من قرب «الكافاب» في طابور طويل قد يلتقي أوله بنهايته، ويطوف حول منطقة السوق إلى أن ينتهي حيث بدأ، صورة من صور الزحام ظلت تشهدها المدينة في رأس كل سنة جديدة، حتى يخال المرء لكأن العام يبدأ من هنا، وفي صبيحة اليوم التالي يبدأ الناس في ممارسة هواياتهم السياحية، والتجوال بين الأماكن المشهورة لزيارتها والتعرف عليها. 


ملتقى السياحة
كثيرة هي المعالم التاريخية والسياحية التي تزخر بها بورتسودان كحاضرة لولاية البحر الأحمر، وتحظى باهتمام كبير من قبل المهتمين والباحثين وغيرهم، وضمن ذلك فثمة جزيرة سنغنيب المرجانية التي تقع على نحو 27 كلم داخل مياه البحر الأحمر، شمال شرق بورتسودان، بطول يقارب الـ 6 كلم، من الشمل للجنوب، وعرض يساوي 2 كلم تقريبًا من الشرق للغرب، ومنذ أن عرفها الإنسان دائمًا ما يبدأ الإبحار إليها من مدينة بورتسودان سواء بجرارات الميناء أو اليخوت السياحية، حيث يوجد فنار سنقنيب الشهير، وأحد أهم معالم السودان البحرية.
وتكمن جماليات سنقنيب في كونها عالمًا مفصولًا عن عالم الأرض تمامًا، وموطنًا لأكثر من 250 نوعًا من الأسماك المختلفة، خاصة الملونة الزاهية المختلفة الأحجام، وكذلك الأسماك النادرة، كأسماك القروش، والاستاكوزا، والسلاحف البحرية، كما هي غنية بالأحياء البحرية من الشعاب المرجانية والحدائق والمنتزهات البحرية المتنوعة، والتي تجاوز 
الـ 125 نوعًا، اللافتة للأنظار والمثيرة للدهشة والتأمل، ما حدا إلى ضمها مع خليج دونقناب في يوليو 2016م إلى قائمة التراث العالمي ضمن اللجنة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو).
أما دونقناب فهي محمية طبيعية تحيط بجزيرة مكوار، تقع على بعد 120 كلم شمال مدينة بورتسودان، محازية لساحل البحر الأحمر بطول يزيد عن الـ 80 كلم، واشتهرت المنطقة في منتصف القرن العشرين باستزراع المحار لاستخراج اللؤلؤ، والصدف والكوكيان، ولكن سرعان ما توقف ذلك، غير أنها من أكبر المحميات البحرية على ساحل  البحر الأحمر، ومرتع خصب للسلاحف البحرية، وناقة البحر والمانتاري والقرش الحوتي، والطيور. كما تمتاز بتنوع حيوي نادر بما تحويه من أحزمة مرجانية، الأمر الذي أكسبها أهمية علمية وسياحية، خاصة وأنها تضم العديد من مناطق السباحة والغوص تحت المياه العميقة، ما جعلها منطقة دراسات بحرية وسياحة علمية.
كما توجد على بعد 50 كلم تقريبًا شمال بورتسودان قرية أو منتجع عروس السياحي، وهي القرية التي ما زالت عالقة بالذاكرة الجمعية، على المستوى العالمي لما صاحبتها من قصص واقعية إبان فترة الحكم المايوي  (1969-1985م)، ومهما يكن فالمنطقة رغم أنها شبه صحراوية إلا أنها ذات طبيعة رائعة ومغرية للترفيه والراحة والصفاء الذهني، بجانب ممارسة السباحة والغوص تحت الماء، وما أكسبها ميزة إضافية وشهرة نقاء مياهها البحرية.
وغير هذه فهناك كثير من المناطق السياحية التي على ساحل البحر، وتزخر بها بورتسودان، ويرتادها غالبية سكان وزوار المدينة، لقضاء العطلات الأسبوعية وإجازات الأعياد والمناسبات، مثل قرية إيماني السياحية، وكيلو (8)، ذي الشاطئ الرملي الجميل، وخليج شنعاب، وتوارتيت، ومنطقة أربعات التي تقع في داخل سلسلة جبال البحر الأحمر وتمتاز بوجود السدود والخيران، ما أضفى عليها ميزة أخرى وأهمية عظمى لكونها المورد الرئيس الذي يمد المدينة بمياه الشرب.

سواكن التاريخية
ولا يمكن للزائر لمدينة بورتسودان ألا يزور مدينة سواكن التاريخية، وتبعد عنها جنوبًا بنحو 60 كليومترًا، وهي المدينة التي عرفها الناس والتاريخ قبل أكثر من 30 قرنًا، ورسخت أساطيرها في الوعي الإنساني، والتي كانت مسرحًا تراجيكوميكيًا دراماتيكيًا عريضًا لصراعات زمانية ومكانية، فضلًا عن الصراع الحضاري والاجتماعي والثقافي والتجاري القديم الذي نالت به كميناء شهرة عالمية، ولما أدار الزمان ظهره لها أصابها ما أصابها من دمار تقف أطلالها شاهدة عليه، وصارت واحدة من أكثر مدن البحر الأحمر المكنوزة بالتاريخ والآثار العمرانية، وقبلة للمهتمين والباحثين والسياح.

فردوس الشرق
 ومن السياحة في عالم البحر، ومسرح التاريخ، إلى السياحة في المصايف والبحث عن الهدوء والراحة، فهناك على بعد حوالي 200 كليومتر من جنوب غرب بورتسودان يوجد مصيف أركويت، وهو المصيف الذي - أشرنا إليه سابقًا - اتخذته الحكومة البريطانية ملاذًا للراحة والاستجمام هربًا من حرارة الصيف اللاهبة، إذ كان يرتاده الحاكم العام الإنجليزي لقضاء فصل الصيف فيها، ومازال الزعماء وكبار رجالات الدولة والميسورون ومختلف الأنماط يهرعون إليها للتمتع بأجوائها. 
وأركويت التي هيأ لنا الله أن نزورها بعد أن جسنا بين أطلال سواكن برفقة المصور إبراهيم إسحاق كانت رحلة أشبه برحلة البحث عن مفقود، وكم كنت أسأل نفسي أي راحة يجدها المرء وهو يجتاز العقبة، ويقطع المسافات البعيدة، ويتخلل الجبال الشاهقة نشدًا للهدوء والراحة؟ وكيف عرف الإنجليز هذا الموقع وفي أي خارطة وجدوه، ومن أنبأهم بأنه المكان الأجدر للاستجمام والخلود للراحة وهو في قمة الجبال؟ أسئلة كبرى محيرة تزاحم النفس!
ولكن بعد أن حطت أقدامنا في جوف سلسلة جبال البحر الأحمر بعد مسيرة أكثر من 3 ساعات من صعود شاهق وهبوط مخيف، بين الجبال الغنية بالنباتات المزهرة وأشجار الزقوم، في طريق مسلفت يبعد بالكاد عن الطريق القومي حوالي 60 كليومترًا، أدركنا كل شيء وعظم ما نحن فيه، في مدينة لا يغشاها حر الصيف ولا السموم والملل، أجواء مليئة بالغيوم وعبق الجبال والصمت، أجواء العزلة والتأمل والقصيدة، وكنا أكثر متعة ودهشة ونحن في قمة جبلية تحيط بنا كتل السحب الباردة، والهواء الطبيعي المنعش يحتل كل زوايا المدينة، إنها لأكثر المصايف مثالية، مهيأة بجميع الوسائل التي تتعلق بحاجة الفرد وتجعله يقضي أيامه بلا نقصان أو وجل، وهي تتميز بهطول الأمطار في فصلي الشتاء والصيف إن كان للأخير وجود فعلي، ومن أشهر معالمها «جبل الست»، وهو في أعلى قمة جبلية يحتله ضريح رفاة الزعيم المغوار دقنة، وعلى سفوح الجبال يوجد عدد من المنتجعات السياحية والشقق الفندقية ما يهييء الفرصة للتمتع بهذا الهدوء.
وغير هذا يرتاد هذه المنطقة وما حولها كثير من هواة الصيد، إذ تزخر بالغزلان، والعوي، وغيرهما من الحيوانات الجبلية.
الحديث عن بورتسودان لا تشغله الصفحات وإنما يحتاج لكتب، رغم تاريخها القريب، إذ أصبحت خلال عقود قليلة مدينة ذات وهج كوني، يشع في الأرجاء لكل من يقصدها أو يتغشاها برًا وبحرًا وجوًا، وتبقى جزءًا من التاريخ الإنساني، خرجت من رحم العدم، وصنعت في مسار بقائها وأسباب تقدمها وتطورها، إن كانت مصنوعة أو غير هذا■

عندما تكون سماء المدينة ملبدة بالغيوم

مبنى أمانة ولاية البحر الأحمر

هكذا تسفر بورتسودان عن جمالياتها

من شوارع بورتسودان

الميناء الجنوبي والصومعة

الجرار يغادر ميناء بورتسودان في طريقه إلى سنقنيب

مبنى سياحي على الساحل

كورنيش السيلاند

قوارب الصيد

بوابة سواكن

منتجع جبل الست بسواكن

مظاهر الحياة بين الجبال