الْفَاشِيةُ الرَّقْمِيةُ وَعَوْلَمَةُ الرُّعْب

الْفَاشِيةُ الرَّقْمِيةُ  وَعَوْلَمَةُ الرُّعْب

تمرّ الإنسانية، في الألفية الثالثة، من منعطف تاريخيّ وحضاريّ مؤلم؛ ومثير للاستفسارات المقلقة والمحيّرة في الآن ذاته، نظرًا للارتكاسة الحضارية التي تتخبط فيها دول المعمور، ولمظاهر الموت من حروب مشتعلة هنا وهناك، وخراب يستشري في كل البقاع، ورحلات تهجيرية سيزيفية تتعرض لها الشعوب، وخرائط جديدة يخطط لها من لدن الدول العظمى للعالَم، وانهيار قيمي قلّ نظيره مقارنة مع المراحل التاريخية السالفة، وهذا جراء ما شهده الزمن المعاصر من ثورة تكنولوجية هائلة، ونتيجة تغول الدول المتحكمة للسيطرة على العالَم، وبنشر ثقافة الرعب التي حولّت الكون إلى مارستال كبير تعتقل فيه شعوب الدول باسم الأوبئة واستتباب الأمن والاستقرار ظاهريًا، لكن باطنيًا التحكم في كل شيء ورسم معالم عالم جديد، من يمتلك فيه الثروة الرقمية والثورة هو من يقود العالَم، ويجعله في قبضة سلطة التكنولوجيا الغاشمة.

 

منذ وجود الكائن على هذا الكون وهو في حيرة أبدية، عمودها الفقري سؤال الأمن والاستقرار والسكينة، نظرًا لما يهدّده من مخاطر جمّة تختلف باختلاف طبيعتها، كالقفار ومآلاته وامتداداته اللامتناهية، الفيضانات والحرائق والبراكين والجفاف والجوع والاستبداد والظلم والجور، ممّا ولّد لدى الموجود ميولات للتفكير في مصيره وابتكار الوسائل الممكنة لحماية الكينونة من هذه التهديدات، ليظل سؤال المواجهة قائمًا وفارضًا قوته وجبروته، فشرع الإنسان في اختياراته المتعددة المفتوحة على أفق مجهول وغامض، لذا نجده يتوزعه شعوران متنافران؛ وفي الآن ذاته متكاملان يتعلّق الأمر بذعر النوازع ونوازع الذعر، ومن تمّ فُتح الباب على مصراعيه لاختيار الطريق الأنسب لبلوغ برّ النجاة وإيجاد الحلول، التي بإمكانها التخفيف من الصدمات والاحتمالات الممكنة. فالخوف والارتجاف والارتعاش والرعب مشاعر تنبثق من وعي ولاوعي الموجود، فهي فطرية مكتسبة على وفق التنشئة الاجتماعية للكائن، فالخوف من المجهول والمصير والتّعرّض للحوادث المرعبة والمفاجئة، يمكن تجسيدها (المشاعر) في صور نفسية ومادية متنوعة تزيد اليقين ثباتًا وترسّخًا والشك مسلكًا طبيعيًا للوقوف على حقيقتها المتضاربة. كل هذا يعقّد من وضع الكائن في الوجود، ويطرح عليه الكثير من علامات الاستفهام والتعجب تجاه ما تتعرض له الذوات من اهتزازات وارتجاجات صاعقة ومثيرة للاستغراب، ومحفّزة على مقارعة الوجود. 
الذعر شعور يأتي من المناطق المطمورة في الجسد، وتصيير هذا الأخير إلى فضاء للتجسّد والتمثّل، والنوازع، في عمقها، ذاتية محضة، ونفسية مرتبطة بعلاقة الموجود بكينونته الهشة. فالكائن ذات تحيق بها المخاطر، وتهددها منزلقات أكثر. هكذا فالجسد مرآة تنعكس عليها نوازع الذعر، فالملامح تتغيّر، وحركة الجسد تخرج عن نطاقها الطبيعي، وحالات القلق والتوتر تكشف عن حقيقة الذعر، وهو يلتهم هدنة الذات وسكينتها في حالتها الطبيعية.
وأشكال عولمة الذعر كثيرة، مسالكها مفتوحة على هذا العالَم المتغوّل والسائر إلى جحيم يصنعه الكائن، ويبدع في نسجه على وفق حاجاته ورغباته وأهوائه، فطغيان الكماليات من عوامل تعطيل العقل واندحار القيم وإشاعة ثقافة مادية محضة، وغدا النزوع إلى الفردانية ظاهرة قائمة الذات داخل المجتمعات، مما كان له تأثير سلبي على العلاقات الاجتماعية سواء داخل المحيط الصغير (الأسرة) أو المحيط الكبير (المجتمع والعالَم). فعندما تطغى الماديات وتسود فإن المجتمع يكون عرضة للتشظي والقيم في انهيار. 
 إن صناعة الذعر صناعة دولية غايتها إقامة عالَم القطيع والحشود يكون تحت سطوة القوانين الزجرية وعودة التسلط بقفازات من حديد، ليجد الكائن نفسه في سجن كبير تحكمه تشريعات جديدة جوهرها عبودية جديدة؛ تخدم المصالح الدول العظمى، وهذه من أسباب أزمة الإنسان الوجودية ومحنته.

آلِيَاتُ الرُّعْبِ وَمَدَاهَا الْبَعِيد 
اتخذت الدول الأوربية العظمى، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، شعار «المركزية الأوربية» طريقًا للهيمنة على الشرق العربي وإفريقيا، بدعوى إخراجهما من واقع التخلّف وانخراطهما في الحضارة الإنسانية، هذا على مستوى الظاهر، لكن المخفي يكمن في أمور أخرى خطيرة. ومن تجلياته أن ما سميّ بفلسفة الأنوار المنبنية على العقل لم يكن إلا ذريعة للتحكّم في رقاب هذه الدول المتخلفة أولًا ورسم الخرائط ثانيًا؛ وثالثًا العمل على تعطيل التنمية ودحر الديقراطية في المهد، ورابعًا بدعوى تحرير إنسان العالم الثالث من قيود الثقافة الخرافية، وما استنزاف خيرات هذه الدول ونهب ثروات الدول المُستعمَرة لبناء اقتصاديات الدول المُستعمِرة، وإغراقها في الحروب وإشعال الفتن والصراعات المذهبية والإثنية، حولها إلى بؤر مشتعلة غير مستقرة، ينعدم فيها الأمن والاستقرار. وما الحربان العالميتان الأولى والثانية - وذلك في إطار الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي - إلا وسيلتان من وسائل صناعة الذعر وتفشي عِلل نفسية زادت من حدّة الأوضاع الاجتماعية، لكن نتائج الحربين كانت كارثية لما خلّفته من فظائع إنسانية، ولما أشاعته من مظاهر القبح، فازدادت حدة الاستبداد والهيمنة على دول الشرق العربي والقارة الإفريقية، بصناعة خرائط جديدة وترك الحدود بين دول العالم الثالث مشاعة لم يتم ترسيمها، لتكون من بين الأسباب لإشعال الحروب بين الإخوة الأعداء، كل هذا كشف الوجه الحقيقي لشعار المركزية الأوربية، وفضح العقلية القرسطوية التي تحرّك دواليب الدول العظمى، ليكون مفهوم العقلانية مثار السخرية والتهكم، لأنه مفهوم لا صلة له بما يمارس من تقتيل وتنكيل واستغلال واستنزاف الطاقات باسم هذه المركزية اللعينة، التي كانت وبالًا على المستعمَرَات، حيث حرمتها من ارتياد أفق حضاري أساسه المساواة والعدالة الإنسانية والجغرافية واحترام الخصوصيات، لكن هذا كشف عن عقل غربي شوفيني الرؤية، عقل مصلحاتي، استبدادي. ليزداد الاستعمار شراسة والجَوْر استفحالًا؛ فضاعت الحقوق وسُلبت الإرادات ولم تحقق هذه الدول المتخلفة استقلالاتها، بقدر ما ظلت تحت سلطة المستعمر الذي خرج ودخل من أبواب أخرى، من خلال، تكريس أنظمة تجتهد في الولاء والتبعية العمياء، وترسيخ ثقافة الطاعة والخنوع وتشجيع الغرب على استنزاف الخيرات، غير أن الدول التي حاولت التحرّر من سياسة الدول العظمى تعرضت لأبشع الحروب وإثارة النعرات وإحياء صراع المذهبيات، وما الحرب الأفغانية وحرب الخليج الأولى والثانية، والحروب المشتعل أوارها في سورية والعراق وليبيا وفي الدول الإفريقية، إلا صورة معبّرة عن واقع يثير الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام، مما نجم عنه انهيار الوحدة العربية وتفتيت المفتت في العالم العربي وازدياد حدّة الانقلابات في إفريقيا وأمريكا الجنوبية تعبير مجسّد لوضع مشين ومُدين للعقلانية الغربية. 

الأَوْبِئةُ وَخَلْقُ مُجْتَمَعِ الرُّعْب 
يسعى الكائن، منذ البدايات لوجوده، إلى الحفاظ على الكينونة، والعمل على حمايتها من الأخطار المحدقة بها، لذا قاوم هذه الأخطار بكل ما يملك من إرادة علمية لتفاديها والنجاة من هولها المفزع، هكذا واجه وجابه هذا الكائن أمراضًا عدة كالجذري والسلّ وغيرها، دون نسيان مظاهر الجفاف وما ترتب عنها من انتشار مهول للمجاعة في العديد من دول العالم الثالث، غير أن الدول العظمى؛ وبغاية وضع سلطتها على شعوب العالَم تفنّنت في صناعة الأمراض كالسّيدا أو مرض فقدان المناعة، لتحوّله إلى موضوع السّاعة والتهويل بمخاطره ونتائجه على حياة الناس، من خلال الحملات الإعلامية المضلّلة، فعاشت الإنسانية سنوات من الضغط النفسي والرعب الذي بثت سمومه وسائل الإعلام الغربي، ليتبين في النهاية أن الشركات الكبرى لصناعة الأدوية هي من كانت وراء هذه الحملة المنظمة لبيع الأدوية للشعوب المقهورة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا. وقد توجت الدول العظمى سياستها الجهنمية باختلاق فيروس غير مرئي لتزيد الوضع الإنساني ارتباكًا وحيرة ودهشة، يتعلق الأمر بكوفيد19/ كورونا، ليغدو العالَم تحت رحمة دول تتصارع من أجل مصالحها الجيوستراتيجية مختبرًا لتجريب لقاحات للعلاج، فدخلت الإنسانية زمنًا موسومًا بحرب وهمية ضد فيروس غير مرئي، حسب ادّعاءات ومزاعم منظمة الصحة العالمية، فعاد التغول والتسلط وحالة الطوارئ وسجن الناس في منازلهم ليكون اللسان الناطق باسم مرحلة تاريخية ستتميّز بعودة الاستبداد في لبوسات جديدة بدعوى حماية العالم من كارثة تهدّد الإنسانية في القادم من الأيام، فازداد الذعر في النفوس واستوطن الشعور بالنهاية المحتومة على تفكير الجميع، وتحوّل الفرد إلى كائن يعزز من فردانيته وانعزاليته، وفقد البعض زمام وجوده، فبرزت ظواهر الارتباك النفسي جلية على الوجوه والملامح. ويطرح بحدّة سؤال الفناء، بل إن الحياة أصيبت بسكتة قلبية، حيث الأرض انعدمت فيها الأنشطة والحركة، ليتحول العالَم إلى سجن كبير يفضي إلى مالانهاية من الاحتمالات والتكهنات المفترضة. وأعتقد أن «كورونا» هي الأخرى آلية من آليات التحكم في مصائر البشرية جمعاء، والذي يؤكّده هو التضارب القائم بين منظمة الصحة العالمية بخصوص هذا الداء الفتاك، وآخر الصناعات يتمثل في مرض القرود، وهذا الأخير ما هو إلا مشجب آخر يعلّق فيه مصير الكائن. ما نخلص إليه أن الدول العظمى بترسانتها الإعلامية تمكنت من عولمة الذعر، كوسيلة قديمة جديدة لاستتباب الفوضى في العالَم، وهي صناعة غربية مقصديتها الأولى والأخيرة بناء عالَم جديد والدخول في مرحلة تاريخية أخرى. 

الْفَاشِيةُ الرَّقْمِيةُ وَعَوْلمةُ الرُّعْب
رحلة الإنسان عبْر قطار القرن العشرين، ستتوقف عند محطات مهمة في صيرورة العالَم، تميزت بمتغيرات رهيبة ومقلقة/ محيّرة وطارحة الكثير من التساؤلات حول مصيره المحفوف بالغموض والالتباس. مما يفرض على الإنسان المفكر والمنشغل بالقضايا الإنسانية أخذ المسافة الكافية للتأمّل والتدبّر فيما يجري من وقائع وأحداث كانت بمثابة صفعة للبشرية قاطبة. ومن ثمّ فأهم ما ميّز هذا القرن يتمثّل في شمولية التّسلّح وهيمنة العنف بتجلياته المختلفة وما عرفه من طفرة رقمية شكلت منعطفًا حاسمًا بين مرحلتين، مرحلة الحرب الباردة، ومرحلة العولمة التي اكتسحت العالَم وضيّرته تحت رحمتها، بعبارة أخرى الفيصل بين الشمولية العسكرية والشمولية المعلوماتية وما طرحته من إشكالات عميقة حول ما ينتظر البشرية من مستقبل غامض ومثير للجدل. فإذا كان العالَم تحت سطوة الديكتاتوريات الكلاسيكية التي جاءت بمشروع فاشيستي حول العالَم إلى بؤر للصراع والحروب، مخلّفة المآسي وإنسانية معطوبة نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا بسبب تهور زعماء الفاشستية كهتلر وموسوليني وفرانكو، فإنه في القرن العشرين أصبح رهين الإمبراطوريات الإعلامية التي عملت على ذيوع سياسة التوجيه الأوحد وتشكيل الرأي العام الفاقد للبوصلة ولمشروع مجتمعي، والتأثير على مجريات الأحداث في دول المعمورة. وتكمن هذه الإمبراطوريات الإعلامية في غوغل وأبّل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت وغيرها التي تؤدي وظيفة توجيهية وتعتيمية وتحكمية وتشويهية ساعية إلى تسييج إرادة ورغبات الإنسان بترسانة من الآليات الإعلامية المختلفة الصور والأدوار، مما يطرح على العالَم سؤال الخصوصيات التي لم تفلح فيها العولمة وباءت كل جهودها إلى الفشل، وسؤال الخصوصية قد يبدو للبعض مجرّد حشو في سياق الكلام، ولكن في جوهره يمثّل مركز الإشكال الذي تتخبّط فيه البشرية. فهذا الفشل لم يكن من ورائه غير محنة إنسانية تنبئ بكوارث خطيرة محدقة بالوجود الإنساني، وتحتمل انهيارًا مدويًا للأنظمة السياسية، وقيام أنظمة ديكتاتورية تسلطية وهنا مكمن الداء الذي يستشري في منظومة عالَمية عمياء. 
هذا الوضع يفرض، اليوم قبل الغد، على الإنسانية أن تعيد النظر في الكثير من السياسات، التي لا تخدم الإنسان بقدر ما تخدم أجندات القوى العالَمية، وترزح تحت تبعاتها الدول الفقيرة والمتخلفة والخاضعة لسلطة القوى الاقتصادية والعسكرية. وذلك لأن هاجس القوى العظمى جعل الإنسان مملوكًا لأجهزتها الرقمية التي ينعدم فيها البعد الإنساني، بل هي الأخرى تعتبر من الوسائل التي تنتهجها لإثارة الرعب في العالَم، وتحويله إلى همّ يشغل بال الأمم والشعوب في كل الأمصار، ليصبح العالَم مجالًا لممارسة العنف المادي والرمزي من لدن المتحكمين في السياسة الدولية، إن هذا التوصيف للحال المزرية والكارثية التي تتخبط فيها الإنسانية يطرح الكثير من التساؤلات حول مستقبل الناس في عالَم ينحدر فيها إلى الهاوية وترتكس الحضارة الإنسانية وتنتفي كل القيم النبيلة والعدالة الوجودية. إنها فاشية الرقمي المهيمنة والسائدة والمتحمة في الرقاب والعباد والبلاد، ولا مخرج من هذه الفاشية إلا بالعودة إلى ما يجمع الناس لا إلى ما يفرقهم ويجعلهم أكثر عداوة وغابوية. فمن حق الإنسان أن يحلم بأرض خالية من الحروب والخراب والفناء، وأن يصبو إلى أرض تستحق الحياة بلغة محمود درويش، أرض الجمال والجلال، أرض تزرع الورود بدل الشواهد، تعزف أناشيد الفجر بدل أن تكتب تراجيديا جديدة أليمة من صنع أعداء الحياة ■