في صلاح الأمّة وفلاحها تجسير الرؤى بين الدِّين والتُّراث

في صلاح الأمّة وفلاحها تجسير الرؤى بين الدِّين والتُّراث

عرف البحث التاريخي ارتباكًا غير مقصود في مسألة التّعالُق الفكري والعضوي بين الدّين والتُّراث، من أجل تحديد طبيعة تماس مجموعة المفاهيم والعناصر المادية والمعنوية بينهما، اتفاقًا واختلافًا، مما يمكن إرجاعه إلى أسباب عديدة أهمها افتراق فريقَي التنظير لتلك المسألة بين القومي والديني، كلّ على حِدَة، مع الإقرار بأنّ طروحات ناجعة وجهودًا جبّارة بذلها من عملوا في هذا المضمار بمرجعيات منوعة: بنيوية، لغوية، عقلانية، مادية، وجمالية، فكان لكلٍّ منهم منهجه ورؤيته كالفارابي والتوحيدي وابن مسكويه وابن خلدون وعلماء الجامعات الإسلامية (الأزهر، الزيتونة، القرويين...) والمستشرقين الغربيين ومن تأثّر بهم من العرب، إلى زكي نجيب محمود وعبدالله العروي ومحمد مفتاح وعبدالفتاح كيليطو وعبدالكبير الخطيبي، عطفًا على منجزات نصر أبو زيد ومصطفى ناصف ومحمد عابد الجابري وإدريس بلمليح وكمال الصليبي ومحمد عمارة وغيرهم كثيرون. 

 

 نعني بالتراث هنا أحوال العمران والمحسوسات الفنية والماديات الهندسية، والعلوم والمعارف والعقائد والكتب والعادات والتقاليد والمبادئ السلوكية والقيم الاجتماعية، مما اتّصل عضويًا بعمقه التاريخي وواقعه الجغرافي بين أول ظهور اجتماعيّ للعرب إلى بداية الدعوة الإسلامية وخلالها وحتى وقت قريب. من المفيد القول إن الإسلام ليس دينًا عقديًا بقوة التنزيل والقداسة فحسب، بل بكونه مثالًا إنسانيًا يُحتذى ومحرّكًا حضاريًا في التعبير الموضوعيّ عن الوسطية التي تُترجم منهجه الصحيح وجوهره السّليم مصداقًا للآية الكريمة {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرسولُ عليكم شهيدا} (سورة البقرة، الآية: 143) وبمعنى آخر أكثر وضوحًا، فهو البديل الصائب من أية خياراتٍ أُخرى دخلتْ وتدخلُ على الأمّة مُفسِدةً لأحوال دنياها حجرًا وبشَرًا، ما أكده ابن خلدون في مقدمته عن العرب الذين «لا يحصل لهم المُلك إلا بصبغةٍ دينية من نُبوّةٍ أو ولايةٍ أو أثرٍ عظيم من الدِّين على الجملة... فإذا كان فيهم النبيّ أو الوليّ الذي بعثهم على القيام بأمر الله تمَّ اجتماعهم وحصلَ لهم التغلّبُ والمُلْك». 

تآلف العقيدة
 بهذا المعنى تتحقق للإسلام الولاية الدينية، بمعناها الأبوي، وهي تحمل السّمةَ الروحية السّمحة، وتتواءم جدًا مع الركائز الصلبة والنقية المتوارثة لكينونة الإنسان العربي ووجدانه كسلامة الطّباع وصفائها وغنائيّة اللّغة ومبدأ أمومتها وطيبة الأحاسيس ورغَدِها وقبول الخير وسهولة التكيّف، وغيرها ممّا استقام على الفطرة في نفسه مصداقًا للحديث الشّريف «كل مولود يولد على الفطرة»، ممّا فسّرَ إمكانية تآلف العقيدة توًّا في المكان والزّمان مع أيّ مشروعٍ قوميّ يهدف إلى نهوض الأمة وتقدمها وتحررها الدائم، ولا يبتعد من مبدأ تقاسم المسؤوليات بينهما في بناء مجتمع جديد بتوجهات سليمة. 
  في مثل هذا التصور ترجم محمد علي باشا مشروعه القومي في بنائه مصر الحديثة واجتهاده من أجل استقلالها الوطني، بصرف النظر عن اعتباراته الشخصية أو طموحاته العائلية مما حفلت به الدراسات التاريخية حتى اليوم، إذ فتح للدِّين طريقًا عمليًا في ترتيب علاقة متجددة بالتراث تخدم ذلك المشروع، وفي أَخْذِ المبادرة للانفتاح على تجارب ووقائع مدنيات أُخرى تطوّرتْ تقنيًا وعلميًا، وهو ما علِمناه في سِيَر مجموعة علماء تلك المرحلة كالشيخ رفاعة الطهطاوي وسفره إلى باريس على رأس بعثة علمية وعودته من هناك غير مُتحرّجٍ من نقل أفكارٍ مدنية غربية معاصِرة لا تتعارض وأصول العقيدة، أو الإمام محمد عبده الأزهري المُنفتِح الذي لم يتأخر عن أستاذه وصديقه جمال الدين الأفغاني في الدعوة للإصلاح والتنوير بين فرنسا ومصر على عهد أُسْرةِ محمد علي أيضًا، ثم محمد رشيد رضا، تلميذ عبده، الدّاعي إلى مزج الأصالة بالمعاصرة، إلى غيرهم من ثلّة رجال الدين المسلمين الذين احتفظوا وحافظوا في الوقت نفسه على ذخائر التراث العربي بل ووجّهوا بذكاء إلى ضرورة ابتعاثها ونشرها بمناهج علمية توثيقًا وتحقيقًا، وبما أتيح لهم في سبيل ذلك من طرائق كان أهمها مطبعة بولاق الأميرية الشهيرة التي تُعتبر معينًا معرفيًا لأجيالٍ عديدة مُتلاحقة.

الانفتاح الديني
وحِجاجِيّة الشّواهد كثيرة على هامش هذا التوجه، تؤكّد عُمْقَ وعَوِيَّة الانفتاح الديني على إيجابيات التّراث، مما لا حاجة للحذر الفقهي إزاء كثير من أجناسه بعدما أقرّتْها العقيدةُ من أعلى رأس القيادة الإسلامية، كحديث تأبير النّخل (تلقيحه) الذي أخرجه مُسلم عن أنس  ووافقَ فيه رسولُ اللهﷺ أهلَ المدينة على ما تواضعوا عليه من تقليدٍ دنيويٍّ مُتوارَث في تلك المسألة قائلًا: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» مُتطلِّعًا برؤيةٍ عصرية إلى ما يخدم معيشة الأمّة ورعاية آمال ومصالح البلاد والعباد، وكذلك استساغته، عليه الصلاة والسلام، الشِّعرَ ولو هجاءً لإعلاء شأن المسلمين والدفاع عنهم في مواجهة الكفّار، وهو يأمرُ شاعرَهُ حسّان بن ثابت: «يا حسّان اهجهم وروحُ القدس يؤيّدك»، عطفًا على تمثُّلهِ الدّائم بالشِّعر الحِكَمي الجاهلي كترداده قول طرفة بن العبد الشهير كُلّما استبطأَ خبرًا ما: 
ستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
        ويأتيكَ بالأخبار من لم تزوّدِ
وبهذا المنطق الانفتاحي نفسه، يُمكنُ القول إنّ القرآن الكريم قام بعملية لمّ الشّمل لعناصر اللغة العربية وإمكاناتها، بما هي أساسٌ أوّل في بناء التراث العربي والتعبير عنه، فلم يُركّز بدهيًا وبتدبيرٍ إلهيّ على درجة الاهتمام بِلُغتِنا فحسب، بل على نوع ذلك الاهتمام في حفظ كينونتها بالمعنى المصيري للكلمة، أيْ مواجهة تهميشها وإضعافها، وتضفير قدرتها على التجدد والتأثير في العرب توكيدًا لقوله تعالى: {إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلّكم تعقلون} (سورة يوسف، الآية: 2 ) مع ما امتدّ على صفحاته المباركة من بيانٍ لغويّ ساحر وإعجازٍ مُعجميّ شهدَ له القاصي والداني، في ظلّ غيابِ تاريخٍ كتابيٍّ مُدوّن شبه تام لصالح سيطرة الشفاهيّ منه. 
نقرأُ في كلّ ذلك أنّ طبيعة العلاقة بين العرب قوميةً والمسلمين دينًا، أخذتْ منحًى عضويًا، مصيريًا، انطلقَ من الطّابع الديني للحضارة العربية منذُ عبَدَ ناسُها الأوثان (بل وللمفارقة منذ سجدوا للكعبة وكفروا بربّ الكعبة) إلى أنْ دانوا بالإسلام وحتى يومنا هذا، مما يحتاج إلى اشتغالٍ عِلِّيّ يأوّلُ طبيعة تلك العلاقة من جهة، ويُجدِّدُ مشروع الأمّة الأوّل الكُليِّ المبادئ، نعني حفظ النّفس والدِّين والعقل والعرض والمال، وتفعيل مركزيته بين حضارات العالم، من جهةٍ ثانية.  
إنّ مسألة التجديد بين الدين والتراث تقتضي بسط آليات اشتغال الأول في قضايا الثاني وأنواعه ومفاصله ومكوناته، أي النهوض على مضامين الاعتدال والتوازن والوسطية مما اشتُهرَ به الإسلام وقام عليه رؤيةً وعملًا، لتأكيد أنه لا يزال صالحًا كعقيدة ونهج ومنظومة حياة يحتاجها الناس في تصميم وكتابة مناخهم السياسي والثقافي والاجتماعي بما يناسبهم في أيّ زمان ومكان عاشوا فيهما.

إحياء التراث
من هنا تتمظهر الحاجة الدائمة إلى الإسلام في إحيائه للتراث، آخذةً شكلَ ومعنى الاجتهاد الديني بِبُعدهِ الثقافي في بحث وتمحيص وتأويل الأخير الذي ترى إليه الدكتورة بنت الشاطىء «كتعبير عن أصالة أمة وإدراك لحقائق وجودها، ليس غثًا كله وليس سمينًا كله، ففيه من هذا ومن ذاك والاختيار مهمة غير يسيرة ينبغي أن يسهم بها كل ذي رأي وفكر» (مجلة العربي عدد يونيو 1985)، مع الاستظلال بالبُعد الشّرعي لذلك الاجتهاد راعيًا وهاديًا وشريكًا في سبيل تحقيق تلك الحاجة. وهكذا فإنّ الأفُق المعرفي للدِّين ينطلقُ من عدم الشّعور بالغربة عن الموروث بما هو ثروةُ تنوُّعٍ ثقافيّ ونتاجات فكرية ومكونات شعائرية ذهنية وعضوية، مادية ومعنوية، أبدى المسلمون فهمًا مُتقدّمًا لطبيعة التعامل معها، فلم يلتفتوا إلى إعادة إنتاج التجارب السّابقة عليهم بل ذهبوا مباشرةً إلى الإفادة منها بما يخدمُ واقعهم في تحسين وتطوير ظروف معايشهم على أنواعها، بل وفي تفسير وتقريب مقاصد الدِّين الشرعية إلى أفهام الناس مما تواضعوا على تسميته «استلهام التراث». 
أهمية استلهام التراث أنه يقدمُ وظائف عديدة تخدم سيرورة الحالة المدينية الحضارية العربية واجتماعها الإنساني، أهمها الوظيفة النفسية التي تعيدُ التوازن إلى شخصية الإنسان العربي في كل مرحلةٍ تاريخية يشعرُ فيها الأخير بتراجع دوره الحضاري العام والمصلحيّ الخاص، وتفتحُ له دائمًا آفاقًا معرفية هي عصارةُ ذخائرِ ما توارثه كمُنجزٍ تاريخيّ /اجتماعي قبل الإسلام وبعده ما انفكَّ حاملًا لبذور التجديد الذي هو قانون الحياة ومُبرهِنًا أنّ ما يُتداوَلُ اليوم من تقاليد ومبادئ أخلاقية ومفاهيم إنسانية عامة كالحوار والديمقراطية وحرية الرأي ونظم الحُكْم والعدالة والأخوّة والمساواة وما شابهها إنما هي قِيَم تراثية لا تزال حاضرة بقوة حتى عصرنا: فانظُر مثلًا إلى صحّة ما وقع للعرب من مكارم الصفات الخُلُقية قبل الدعوة من الوفاء بالعهود والصِّدق والكرَم والإجارة وحفظ الذّمم وتقديس الأشهر الحُرُم وختان الأطفال والحجّ إلى الكعبة على دين نبينا إبراهيم عليه السلام، ثمّ انظُر بعد الدعوة أيضًا إلى مبادئ العدالة التي اشتهر بها معظم الخلفاء، أو الديمقراطية التي تمثّلتْ في الشّورى، أو محاورات المعتزلة العقلية، أو ثنائية العقل والنقل عند شيخ الإسلام ابن تيمية، أو تنظيرات فلاسفة الأخلاق المسلمين، أو بعض أنساق طاعة الله وعبادته التي ابتدعها المتصوفة، أو الدعوة إلى الحرية والثورة التي أشعلها استبداد النُّظُم الحاكمة في مُددٍ مُتقطّعة من تاريخنا، أوغير ذلك من المنطلقات الفكرية التي قد نتفق في مقاربة بعضها وقد نختلف، بين أخذٍ وردّ في التّنظير والتطبيق. 

الوقوع في الفخ
أقولُ انظُر إلى كلِّ ذلك مجموعًا بأجناسه وظروفِ تشكُّلِهِ منذُ وُجِد العرب وحتى اليوم لتجد أنهُ لا يزال يفعلُ فعله ويكتبُ مناخه، ودائمًا تحت سقف التعالق الفطري والعفوي بين المُتوارَث المفيد والعقيدة السَّمحَة. من هنا وجب الحذر من الوقوع في فخّ فصْل التّسميات بين تراثٍ ديني وآخر قومي أو ما قد يتسلل من تسمياتٍ مشابهة إلى مسوّغات فهمنا لهما، باستثناء ما يخدم دراستهما تقنيًا، لأن ذلك مضيعة كبيرة للوقت واختراعُ مشكلةٍ غير موجودة، أو أقلّه يمكن تجاوز ما كمنَ الشيطان لنا في تفاصيلها، إذا وُجِدتْ، بما يبتعد بنا من الوقوع في شِتات الرّؤى وفوضاها بتبصُّرٍ وحكمة، ولا يحتاج إلى كبير اجتهاد، كَأَنْ نبسط بعض الملاحظات الحسّية والتاريخية التي تفكُّ الاشتباك بين فهم الإسلام وفهم التراث. أيضًا، وفي الشواهد العامّةِ معنًى، العميقةِ دلالةً، فإنّ انتصار دولة المسلمين من الصِّين إلى الأندلس ولقرون توالت إنما عضدَتْهُ، إلى جانب الجهاد والعمل والإيمان السّليم من قِبَلِ رجال مؤمنين أكفاء وأشدّاء، عواملُ أخرى مُساعِدة هي حزمة الخِلال الحميدة التي نشأ عليها العرب قبل الإسلام ومارسوها في إعلاء كلمة الدين، كالشجاعة والمروءة وإتقان فنون القتال والفراسة وحسن اقتفاء الأثر والرماية والفروسية والعزّة بالنّفس ونصرة المظلوم، في مشهدية تحيلنا إلى إمكانية القول إنّ ذلك الانتصار أمَدّنا بِأَمْرَين مُهمّين جدًا في فهم دروس التاريخ بين الأمس واليوم: 
الأوّل: أنّ دحض الباطل ومواجهة الأعداء المتعاقبين على سلب ونهب وغصب بلاد العرب وخيراتهم ومقدّراتهم هو مفهوم مُتوارث لطالما وحّدَ هذه الأمة تلقائيًا لأنّ ناسها «أسرع قبولًا للحقِّ والهُدى، لسلامةِ طباعِهم من عِوَجِ المَلَكات وبراءتها من ذميم الأخلاق» كما يقول ابن خلدون في مقدمته.
الثّاني: أنّ الأمّة لم تخرج طوال تاريخها وحتى اليوم عن حالتَي الاستعداد والانتصار، أو الموادعة والانكسار، عربًا ومُسلمين. فالسّلم وحسنُ الجوار والمعاملة، والتّسامح والمودة مع المُجتمعات الأُخرى هي حالة ثالثة خُلُقيةٌ قومية وإسلامية مطلوبةٌ عُرفًا وشرعًا، لكنها في الواقع لطالما اصطدمت بتخاذل الطرف الآخَر عنها واستهانته بأهميتها بل وافتعاله الحروب هازئًا بها كلما شعرَ بفائض القوة، ما جعلها غير مُمكنةٍ عمليًا منذُ نقضَ اليهود الصلح مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في العام الثالث للهجرة، وليس انتهاءً بالحروب الصليبية التي ابتدرها الأوربيون بغزو المسلمين في عقر دارهم لأسباب توسعية واقتصادية تجارية، قاطعين آلاف الكيلومترات ليهلكوا الحرث والنسل، فاسدين مُفسدين، في تصرُّفٍ لا يمكن وصفه إلا عدوانًا على حضارة مُسالِمة، أمّةً ودينا. لقد تمخضت حيوية التلاقي العقدي/ العُرفيّ بين الدين والتراث عن حاضرةً أنثروبولوجية أكّدتْ وتؤكّد دائمًا حتميةَ تجسير الرؤى بينهما فكرًا وممارسة، وصلاحيةَ مشروعِ الاجتهاد والتحديث في قضايا الأمة في غير زمانٍ ومكان، وانفتاحها على مجمل الأدوات المعرفية المتوافرة لنجاح ذلك المشروع، كوسائل الثورة الرقمية وتكنولوجيا الذكاء الصناعي في عصرنا، التي تذخر شجاعة الكشف الدائم عن مسلّمات إنسانية كثيرة ليس أقلها حقيقة نهوض الغرب الحديث على أسس عربية/إسلامية فكرية وعلمية مما يحتاج بحثه إلى مقام آخر ■