حوار الحضارات في فكر محمد عابد الجابري

حوار الحضارات  في فكر محمد عابد الجابري

 عرف «حوار الحضارات» محطّات تاريخيّة حاسمة، أسهمت في انبثاقه وبلورة معانيه ورسوخها في الفكر العالمي المعاصر، ويتعلق الأمر بصدور كتاب روجيه غارودي عام 1977، وحدث سقوط جدار برلين عام 1989، ونشر كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير لفوكوياما عام 1992، ثم ظهور كتاب صِدام الحضارات لصمويل هنتنتجون عام 1996، وإعلان مبادرة الأمم المتّحدة لحوار الحضارات عام 2001، وإطلاق مبادرة تحالف الحضارات عام 2005، ثم جائحة كورونا وما تمخّضت عنه من حوارات بين الدول والمختبرات العلمية ضمن جهود محاربة هذا الوباء، وحوارات بين المفكرين والفلاسفة في أبعاد الجائحة وتأثيراتها في الفكر الإنساني المعاصر، وأخيرًا الحرب الروسية الأوكرانية وتصاعد دعوات الحوار والتفاوض، إضافة إلى تزايد تيار السلام في الشرق الأوسط. 

 

وتبعًا لذلك، فقد تحدّث الكثيرون عن حوار الحضارات، واحتلت دراسة التفاعل بين الأنا والآخر موقعًا متميّزًا عند علماء الأنتروبولوجيا والحضارات والتاريخ والفلسفة، فضلًا عن علماء النفس والاجتماع... بل إنَّ هذا المفهوم احتل مركز الصدارة في السياسة الدولية، وأصبح شعارًا يحمل رؤى أصحابه، ويتداوله الدبلوماسيون ورجال الفكر والثقافة والإبداع، ولعل من بين المفكرين الذين انبروا لتأصيل حوار الحضارات نستحضر المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري.
كيف نظر الجابري لحوار الحضارات؟ وهل يمكن بعث الحوار الحضاري انطلاقًا من استيعاب التراث وإعادة قراءته وتجديده؟ وهل العقل العربي عقل حوار؟ أو لا بد من الأخذ بعين الاعتبار رؤية الآخر والبحث عن نقاط التقاء مشتركة؟

الجابري وحوار المشرق والمغرب
مرّ على رحيل الدكتور محمد عابد الجابري، أزيد من عشر سنوات، فقد توفي في الثالث من مايو 2010، بعد عمر حافل بالعمل الثقافي والفكري الجاد، كانت حصيلته تقدر بنحو ستة وعشرين مؤلفًا أغنت الخزانة الفلسفية العربية والإسلامية، بآراء وأطروحات فكرية عميقة، شكّلت محور الكثير من النقاشات الفكرية والسياسية، كونها تحمل طابعًا تجديديًا في التصور والمنهج وجرأة في التناول والطرح، وخاصة مشروعه الفكري الرائد الموسوم بـ«تكوين العقل العربي» الذي صدر عام 1982، ثم تبعه كتاب: «بنية العقل العربي» عام 1986، وبعده بأربع سنوات صدر كتاب «العقل السياسي العربي»، ثم اختتم بـكتاب «العقل الأخلاقي العربي» عام 2001، وهذا المشروع أحد أكبر المشروعات الفكرية في العصر الحديث، بقي ينهل منه الشرق والغرب، منذ صدوره وإلى اليوم.
ومن جملة ما ألَّفَ الدكتور محمد عابد الجابري، يأتي كتاب حوار المشرق والمغرب: نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي، وقد صدر بالاشتراك مع حسن حنفي عام 1990.
وأصلُ هذا الكتاب، حوار نُشِر في مجلة «اليوم السابع» الصادرة في باريس، عام 1989، في سياق دعوة هذه المجلة الباحثين لنقاش عدد من القضايا العربية المركزية على صفحاتها، وهكذا ناقش الدكتوران محمد عابد الجابري (المغرب) وحسن حنفي (مصر)، وعلى امتداد عدة أسابيع مسائل متصلة بالليبرالية والأصولية والوحدة العربية والناصرية والعلمانية، وغيرها من قضايا الساعة في تلك الفترة، إضافة إلى إشكالات مرتبطة بالحركة الإسلامية، والمقارنة بين نظام الكنيسة والدولة والإسلام والحداثة.
هكذا، يأتي حوار الحضارات على رأس اهتمامات الفيلسوف الجابري، حيث يدعو إلى تجديد الرؤية في كثير من القضايا الكبرى المعاصرة؛ كالنهضة والحداثة والأصالة والتراث، وفحص العلاقة بين الدين والدولة، وبناء فلسفة عربية عقلانية تملك القدرة على حل المشكلات وتحفيز التفكير، موظفًا في هذا المشروع مناهج حديثة، وآليات النقد الأبستمولوجي لتفكيك الخطابات سواء القادمة من التراث أو الوافدة من الغرب.

مركزية الحوار في فكر الجابري
يرى الفيلسوف محمد عابد الجابري أنّ الحوار في سياق الخطاب العربي المُعاصر، يجد مرجعيتهُ الاصطلاحيّة مباشرةً في اللغات الأوربيّة، فلفظ الحوار يعود إلى الأصل اليوناني وتحديدًا محاورات أفلاطون ثم من بعده سقراط وغيرهما من فلاسفة اليونان، كما يرى أنّ الحوار هو تفكير يجري على الأقل بين شخصين اثنين، ولذلك فإنّ الهدف من الحوار هو التفاهم، ولذلك يختلف عن الجدل أو المفاوضة أو المناقشة، كما يختلف عن الدّردشة، أي أن الحوار أساسًا هو وسيلة إلى التواصل بين فكرين.
ويؤمن الدكتور محمد عابد الجابري بأهمية الحوار في السياسة والتدبير، حيث يَعتبر العقل السياسي عقلَ حوار بالدرجة الأولى، وهذا ما ينفي عنه رفضه للحوار مع الآخر باعتباره مختلفًا، فهو لطالما تقبَّل الرأي المغاير المبني على الحجة والبيّنة والبرهان والدليل، وفي ذات السياق ومن خلال مواكبته للإنتاج العقلي العربي الحاضر كشف أن هذا العقل ما زال محكوما بالقيود نفسها التي كان مكبلا بها من قبل.
إنَّ الكتابة عند محمد عابد الجابري نوع من أنواع الحوار، فهي مسؤولية تاريخية وأخلاقية، تقتضي بذل الجهد قصد إيصال الفكرة إلى أكبر عدد من القراء والمتلقين، وألا تنحصر في نخبة ضيقة، وهذا يعني ديمقراطية الكتابة، بوصفها جزءًا من الحوار، ويتطلب ذلك تبسيط اللغة واختيار الأسلوب الملائم، ومراعاة خصوصية القارئ، بكل الوسائل الممكنة في استشراف طبيعة القراء، حتى يضمن الكاتب وصول النص إلى الجمهور والتفاعل معه، ويبدو أن الغاية من هذا الحرص، هو تحويل الفكر إلى قوة فاعلة ومؤثرة، تصنع سيرورة التاريخ وتتحكّم في الأحداث، وتضع قيودًا أمام كل أنواع الاستلاب الفكري والتاريخي والسياسيّ المحتمل.
وعلى الرغم من انفتاح الدكتور الجابري على الآخر، وسعيه لأن يكون الحوار واضحًا ودقيقًا يفهمه الجميع، فقد اتهمه البعض بأنه كان مثقفًا منزويًا في عزلته لا يتواصل إلا من وراء حجاب، بدليل عدم تفاعله مع مخالفيه ومنتقديه، فلم يكن يردّ عليهم، ولا شك  في أن هذا لا يعني رفضه للحوار، بقدر ما يعني حكمته وتبصّره، والجابري نفسه في أحد الحوارات معه يؤكد أنه لو انشغل بالرّد على المنتقدين والمخالفين لما ألّف ما ألّف، ولما كَتَبَ ما كتَب.
يرصد محمد عابد الجابري بعض عوائق الحوار، حيث يرى أنَّ تقييد الحرية في العالم العربي، يحدّ من فعالية البحث العلمي ومن انتشار الإبداع، معتبرًا أن المنع والمراقبة تؤدي إلى قطع الطريق على الكتب والمجلات التي كان بالإمكان أن تحمل المزيد من تعميق المعرفة وإغناء النقاش، كما يتحدث عن أهمية الحوار مع المخالفين، بغض النظر عن الانتماءات الأيديولوجية أو الحزبية أو المذهبية، وغيرها من المرجعيات والمنطلقات الفكرية، إذ لا يمانع أن يكون الحوار مع الجميع في احترام تام للخلاف وفي قبولٍ للمخالف.
ويبدو أن ابتعاد الجابري عن الدخول في خطاب الردود، بعدم الرد على مخالفيه، كان بغرض الابتعاد عن دوائر السّجال والجدال الذي لا يأتي بخير، وهذا يعني أن القناعات لا يمكن تغييرها بالسهولة التي يظنها أغلب الناس، لأن مَنْ يبحث عن الحق سيجده، ومَن كان يبحث عن التعجيز وتبخيس رأي الآخر والتقليل من أهميته، فلن يقبل بالحقّ مهما بدا واضحًا أمامه، وهو ما جعل الجابري مدافعًا عن الحرية باعتبارها شرطًا في حوار الحضارات، وأيّ حوار لا بد فيه من الإحساس بالأمن والسلام، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ (سورة البقرة - الآية: 208) ■