عمار علي حسن بين المجاز السياسي وسياسة المجاز

عمار علي حسن بين المجاز السياسي وسياسة المجاز

 قد يكون من غير المألوف للساسة التوغل في مفاتن اللغة وفنونها؛ حتى وإن كانوا ممن يجيدون استخدامها والتعبير بها، ويتحرون الدقة فيها لدقة وحساسية الشأن السياسي، والحسابات الكثيرة المترتبة على السياسة أو التحدث فيها أو عنها أو حولها، ولكن أن يخوض كاتب وخبير في علم الاجتماع السياسي أعماق الفنون اللغوية ولا يكتفي باستخدام اللغة بمفرداتها كأدوات للتعبير عن رؤاه وأفكاره واتجاهاته فقط؛ بل يتخطى هذا للخوض في فنون اللغة والغوص بين مفاتنها ويأخذ بأحد أهم مباحثها البلاغية وفنونها - ويلقيها بين جدران السياسة، فكأنه يستحضر تمكنه اللغوي كأديب إلى جانب خبرته السياسية، فيجول تارة في الخيال السياسي - كما كان عنوان كتابه السابق - في ربط بين السياسة والخيال، وفي هذه المرة يزيد عمقًا في الإبحار في فنون اللغة ويلتقط فن المجاز ويضيف إلى السياسة، وهو ما فعله عمار علي حسن في كتابه الحالي «المجاز السياسي» (الصادر حديثًا ضمن سلسلة «عالم المعرفة» التي يصدرها المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب).

 

   لم أندهش من العنوان هذه المرة، فقد استنفدت كثيرًا من دهشتي مع الكتاب السابق «الخيال السياسي»، ولكن ما انتابني تجاه هذا الكتاب الجديد هو شعور الفضول نتيجة لطبيعة تكويني كشاعرة، وتارة أخرى لشغفي بالسياسة، وتقديري وإعجابي بالمؤلف عمار علي حسن، الذي من وجهة نظري كاتب سياسي مميز؛ عندما يكتب لا بد أن نرى ونحلل ما يكتبه.
  إن أول ما يصادفك في كتاب «المجاز السياسي»، مقولات حول اللغة والمجاز ودورهما في البيان ودور المجاز في النقاش ولغة السياسة، الملفت أن هذه الكلمات والمتكلمين قد اختارها بعناية كبيرة لمتكلمين من الأعلام مثل عبدالقادر الجرجاني، ونيتشه، وأحمد الهاشمي، وكأنه يريد أن يفتتح كتابه بالرد على التساؤلات التي ستجول في عقل المتلقي والقارئ، لماذا المجاز؟ وما العلاقة بين المجاز والسياسة؟ ولماذا اخترت هذا العنوان لكتابك؟ 
  فيكون بهذه الكلمات لم يجب على تلك التساؤلات فحسب، بل وبدأ بالتدليل الذكي على العلاقة بشكل تاريخي ودارج، ومن ناحية أخرى قد أوضح وجهته، فهو لم يستخدم مصطلح المجاز لمجرد التعبير بلفظيته، بل قصد وبكل وعي معنى ومفهوم المجاز بل ودلالته ونقله إلى نطاق علم السياسة، ولعل هذا ما اتضح من المقدمة الطويلة التي بدأ بها الكاتب كتابه، التي بدأ فيها بالتبرير لكتابه هذا، حيث قال إنه يرى أن المعنى لم يكتمل بكتابه السابق «الخيال السياسي»، فكأنه أراد أن يدخل إلى بستان الخيال اللغوي وانتقى من زهوره «المجاز» وجاء به إلى السياسة ومعتركها ليس كزائر جديد من استحداثه؛ بل كساكن أصيل لا شك في إثبات وجوده وأصالته.
  فكأن عمار أراد - كما جاء في مقدمة كتابه - مشاركة القاعدة وانتزاع السياسة من الممكن إلى مادة الخيال في كتابه السابق، وفي الكتاب الحالي أراد أن يشاكس الذين يعتقدون أن السياسة تدور حول حقائق ثابتة ليثبت لهم أنها قد تكون حلولها وتفسيراتها في المجاز، فيثبت الكاتب في مقدمته هذه همزة للوصل بين كتابه السابق «الخيال السياسي» والحالي «المجاز السياسي»، وهو الأمر الذي جال بفكري عندما رأيت عنوان الكتاب الجديد لأول وهلة، فالمجاز درب وفن ونوع من الخيال، فالكتاب الحالي تفصيل بعد إجمال، وما انتابني أيضًا قبل تصفح الكتاب مصطلحات أخرى كالاستعارة السياسية أو الكناية أو التشبيه أو غيرهم من مصطلحات البلاغة قد أضيفت إلى لفظة السياسة، وهو ما وجدت بعضه بالفعل بين فصول الكتاب.

حقائق محل نزاع
   وانطلق الكاتب من تعمقه في هذه الرؤية الجديدة في تناول الموضوعات السياسية من زاوية اللغة، أو لنقل جماليات اللغة وبلاغتها بالأخص، وبرر لذلك الطرح بأن الحقائق محل نزاع، ودلل على هذا بموقف البعض من الثورات العربية؛ التي برغم كونها حقائق شارك بها الملايين، لكنها رغم هذا كانت محل نزاع وادعاءات تجاذب، وهو ما عشنا منه تجربة عملية في المجتمع المصري بعد ثورة يناير 2011، بل وزاد من شدة المبالغة في التقليل والتشكيك في ثوريتها أن أصبح يطلق عليها أحداث، ناهيك عن التشكيك فيمن شاركوا بها وتخوينهم أو اتهام بعضهم - في أحسن الظروف - أنهم تعرضوا للخداع، والمدهش أن الأمر لم يقابل باعتراض صريح حتى من بعض من كنا نظنهم من قادة تلك الثورة وقوتها الدافعة!! وإن كان الأمر أيضًا له تأويلات كثيرة غير اقتناع الجميع أو موافقتهم على هذا الأمر، فقد يكون الخنوع والخوف أحد الأسباب.
  وانطلق المؤلف بعد هذا إلى التنويه عن تناقض كبير يصيب اللغة العربية في عقر دارها عند تدريسها، حيث يتم إهمال تدريس البلاغة ويكتفي بالتعرض لها من خلال النصوص أو القراءة، رغم أهميتها وكأنهم يريدون الترسيخ لفكرة أن البلاغة لا يستخدمها غير اللغويين والمبدعين، ولعل ما يقوله عمار محق فيه، فإهمال البلاغة الآن وتهميشها لا يتفق مع أهميتها ولا يتوافق مع تأصلها وإتقانها في الإنتاج الأدبي واللفظي العربي الجاهلي وتلك المباريات اللغوية التي أثيرت بين الشعراء والأدباء وعقدت لها الندوات بالأسواق كما في سوق عكاظ قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام بمعجزة القرآن ليرسخ لهذه الأهمية، بما احتواه من تشبيهات وصور وكنايات ومجازات في معجزة لغوية لتتحدى تمكن العرب من لغتهم وفنونها. 
  كما يدّعي الكاتب ويؤكد على علاقة المجاز بالعلم ومزاحمته للتفكير العلمي في عقر داره وخاصة في علوم الإنسانيات ويحدث هذا عندما يوحى ويقال إن العلم يتقدم لخدمة أغراض أخرى كالصراعات الدولية أو الهيمنة.
   ثم يلخص الكاتب بعد هذه الوجبة الدسمة في مقدمته من التوغل في اللغة وبلاغتها لينفض يده من كونه عالمًا لغويًا، وكأنه أراد أن يرد على المتخصصين في اللغة من اللغويين الذين كانوا سيشمرون أياديهم ويقولون له ما لك باللغة؟ فأراد أن يستبقهم ويجيب أنا لست متخصصًا لغويًا ولا أقدم دراسة لغوية، ولكنها دراسة في علم الاجتماع السياسي، واستخدامه لفن لغوي كالمجاز أراد أن يبرهن على حضور هذا الفن اللغوي في علم السياسة، ليس هذا فحسب بل هو فن أصيل، ومن هذا المنطلق يكون من اليسير فهم كثير مما يحدث في السياسة.

دخول معترك السياسة
  ينتهج عمار علي حسن طرحًا أكاديميًا جديدًا في تقديم مباحث السياسة لدارسيها والمهتمين بها دون تعقيد أو تحزلق بلغة اصطلاحية صعبة، مما يجعل من مفاهيم السياسة قادرة على الوصول لأبسط الناس ثقافة في هذا الحقل، ولعل المنحى الذي انتهجه في طرحه هذا وانفرد به هو دخول معترك السياسة من بوابة اللغة العربية، فيعتبر هذا المدخل اللغوي هو مجرد وسيلة لتيسير وفهم أمور كثيرة وألغاز عديدة يصعب فهمها وتفسيرها في غياب وتجاهل المجاز، وبهذا يكون المجاز السياسي كما أراده الكاتب وسيلة لكشف جوانب الخطاب السياسي في الفكر المعاصر، والخروج بهذا الخطاب - أقصد الكلام في السياسية - من وهمية كونه حقيقة واضحة إلى أنه قد يكون مُحملًا بالخيال والمجاز باعتبار أن السياسة ليست سلعة ولكنها خطاب الكلام جزء محوري فيه، ومن ثم يسكن المجاز ويستقر وتكون له مكانته التي لا يمكن تجاهلها.
  وحتى في خطاب الحكومات نفسها والدول عند التعبير عن الخطط والإجراءات التي تستوجب التزامات وعهودًا، تأتي لغة المجاز لتصبح مخرجًا آمنًا لهؤلاء الساسة ومهربًا للتنصل من الوعود والعهود، ولعل هذا ما يفسر - من وجهة نظري - ذلك التباين في الخطاب السياسي العربي ومثيله في الدول الغربية، فالأول يأتي في صورة خطب رنانة يُلمع من قائليه ويُظهرهم في صورة نجوم يتجمع حولهم العامة، فتسمع ألفاظًا وتعبيرات غريبة من منطق السياسة، مثل أنا أحب هذا الرئيس أو ذلك السياسي ويعجبني، أو غيره أبغضه أو لا يروق لي! بينما في الغرب تسمع أن هذا المسؤول صادق وغيره مخادع ومراوغ، وقد يكون هذا التباين نتيجة طبيعية يمكن تفسيرها من منطق الكتاب الحالي، فالخطاب العربي استخدم اللغة وجماليتها للتأثير على مشاعر المتلقي فخرج به من وظيفة السياسة الأساسية، وهي التي تقوم على فكرة الالتزام والمسؤولية إلى نطاق رحِب غير محسوب من المهاترات والمكلمات والتراشق والتلاسن الذي نشاهده على شاشات التلفاز وأوراق الصحف، والنتيجة تصب في مصلحة المسؤول، فهو لن يُحاسب على ما يقول ولن يُطالب بتنفيذ وعود أو غيره.
   ولعل هذا ما يُفسر ما يحدث في الوسط السياسي في مصر، فتقوم الانتخابات وتظهر النتائج وينقسم الناس دون وجود برامج انتخابية، أو بوجود برامج وهمية غير ذات علاقة بالواقع، ويأتي المسؤول ويذهب آخر ولا يحاسبه أحد على تنفيذ أو عدم تنفيذ شيء، وتستمر الملاسنات وما يتغير فقط الوجوه، أمر غريب بل ومثير للريبة، من الذي دبر هذا للواقع السياسي العربي؟ هل الموضوع محض صدفة؟ أشك في هذا، فالأمر يسير في صورة شبه مسستمة ومنظمة ومتسمة بالتكرار والديمومة، هل يكفي أن يفسر هذا من منطلق الخيال السياسي أو المجاز السياسي في رؤوس بعض الساسة كما يوضح عمار علي حسن في كتاباته؟ وهل حدث شبه اتفاق لدى هؤلاء الساسة، وتوافق عقلهم الجمعي على هذا رغم اختلافاتهم وانتماءاتهم؟ أم أن الأمر يكون على وتيرة أخرى؟
   يروق لي أن أفسره من منطلق زاويتي التربوية، فقد يكون الساسة اتفقوا واجتمعوا على «منهج خفي» شكل لديهم جميعًا عقلًا جمعيًا، ومن مفردات هذا المنهج الخفي تلك الخيالات والاستعارات والمجازات التي يتحدث عنها كاتب هذا الكتاب، ليس هذا فحسب، بل وتجمعوا على نمط متوافق لإيهام العامة بصدق مقولاتهم حتى وإن اقتضى الأمر التشكيك في حقائق ملموسة ومعاشة، واستعانوا على ذلك بكل الآليات والمستحدثات من الكلمات الرنانة المستوردة التي يستخدمونها لتهويل الأمور، مما أصبحنا نسمعه كل يوم في ميدان السياسة من مصطلحات جديدة، بداية من «الحرب الباردة» و«الحروب الذكيةَ» و«حروب الجيل الرابع والخامس والسابع»، وغيرها من المصطلحات الكثيرة التي هي مجرد أدوات لغوية يستخدمها الساسة بكل إتقان واقتدار وبراعة، ليشغلوا بها العامة ويجعلوهم يدورون في دائرة مفرغة من الأحاديث والمكلمات والمخاوف، المهم أن يخرجوا من الدائرة الحقيقية للسياسة وهي التي يجب أن تكون عن الأفعال والالتزامات والحقوق والواجبات، وبهذا يترك العامة ميدان السياسة ملعبًا رحبًا لمحترفيها والمتكسبين منها والمنتفعين بها.
 وكان عمار علي حسن محقًا في مقولته باعتبار السياسة خطابًا وليست مجرد سلعة كما يدعي الساسة، ومن هذا المنطلق يبرر لمدخله اللغوي في فهم السياسة، وبلاغة اللغة من خيال واستعارات ومجازات هي مفاتيح هذا الفهم الصحيح وليست مجرد حُلى يستخدمها الساسة للترويج لسلعتهم إما لإقناع المستهلك (الزبون) كما هي الحال في الدول الغربية والديمقراطية الواعية، أو لخداع الزبون وإيقاعه في دوائر الوهم لإبعاده بشكل واقعي عن معترك السياسة، مع إيهامه بأنه فاعل وينتخب ويختار ويمارس مستحقاته السياسية كما هي الحال في الدول العربية الغارقة في الديمقراطية الظاهرية أو تمثيل الديمقراطية بينما الحقيقة غير ذلك! ويتضح ذلك من انحياز الخطاب السياسي العربي إلى القول لا الفعل، وما يعتري هذا الخطاب من مراوغة وخداع لإشغال العامة عن الحقيقة واستخدام المجازات التي تؤيد هذا القمع السلطوي، فتسمع عبارات مثل «المعارضة تعرقل المسيرة»، لشغل العامة وإقناعهم بهذا الطرح وإبعادهم عن الحقيقة وهي فشل الحكومة وعدم عملها بالكفاءة الكافية.

 تأثير الاستعارة على السياسة
  وفي الجزء الخاص بالاستعارة كان عمار علي حسن مبدعًا في عرض نماذج من الاستعارات السياسية وخاصة في خطب جورج بوش الابن الذي استعاض بتلك الاستعارات عن الفقر البلاغي لديه، كما كان موفقًا في إشارته لارتباط الاستعارة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، بالأنساق الفكرية أكثر منها ارتباطًا باللغة.
  وعندما أراد المؤلف التمثيل لأهمية الاستعارة ومدى تأثيرها في مجال السياسة مثل بأربع استعارات سيطرت على ميدان السياسة وأصبحت دارجة وجارية على ألسنة متحدثيها، وهي: مقولة ماركس «الدين أفيون الشعوب»، ومقولة نيتشة «الدين ثورة العبيد»، ومقولة فرويد «الدين رغبة نفسية» ومقولة برتراند راسل «الدين تفكير طفولي يقوم على الخوف»، وكم كان عمار علي حسن مجيدًا في طرحه لهذه الاستعارات، فهي في مضمونها تحمل لب الموضوع الذي يتناوله كتابه الحالي وأهمية المجاز في الخطاب السياسي، رغم أن جميع الاستعارات السابقة حول الدين وأثره؛ إلا أنها تُعبر عن فكر واتجاه قائليها والأثر الذي تريد أن تحدثه في متلقيها، فكأن تلك الاستعارات مثل أسهم موجهة بكل دقة وحرفية مضمونة التأثير، والدليل تأثر شعوب بأكملها بتك الاستعارات لفترات طويلة على مر التاريخ، وخروجها من مجرد صور لغوية إلى توجهات فكرية ترسخت في عقول وضمائر تلك الشعوب وظهرت في سلوكياتها.
  وعند الحديث عن المبالغة أجاد عمار علي حسن عندما فرق بين الفصاحة والبلاغة والمبالغة، لينتقل إلى المقبول وغير المقبول من المبالغة ومدى توظيف الشعر العربي في المبالغة السياسية والتفريق بين المبالغة المقبولة والنفاق والمبالغة الرخيصة.
وعند الحديث عن الصورة ودورها في المجاز السياسي الذي يعتمد على الصورة بشكل لا يقل أهمية عن الكلمات، سواء كانت هذه الصور راسخة في مخيلة وذهن المتلقي أو متناقضة معها، أو متعددة تجمع بين الحالتين.
 وفي آخر ارتباط للسياسة بالبلاغة تحدث المؤلف عن الصمت ودوره في مجال السياسة، والذي اعتبره في بعض الأوقات لا يقل أهمية عن الكلام، حيث يكون الصمت في بعض الأحيان إحدى وسائل المقاومة، فالصمت في مضمونه معنى لكلام مستتر لا يُنطق، فمجاز الصمت أوسع وأكبر من ضيق الكلام في بعض الظروف، ويتضح هذا من توظيف هذا الصمت وخاصة في ظل وجود الأنظمة القمعية، والتعبير عن بعض المسكوت عنه والذي يُخشى من التصريح به في حالات التظاهر السلبية التي ينتهجها بعض المصريين عند الكتابة على الحوائط والسيارات، ودلل عمار علي حسن على توظيف الصمت السياسي أيضًا بالعنصرية الصامتة في بعض المجتمعات، والحروب الأهلية الصامتة في مجتمعات أخرى دفعتها الحاجة والفقر إلى التمسك بقشور الدين وتراجع دور المؤسسات التربوية، ويتفاقم دور الصمت السياسي ويتعاظم دوره حتى يصل إلى السيطرة الصامتة كقوة سيطرة ناعمة وخفية، ورغم عدم اعتراف الحكومات صراحة بهذه القوة وأثرها إلا أنها موجودة وفاعلة ومؤثرة.
  وينطلق المؤلف من الصمت السياسي إلى الصوم السياسي؛ ليوضح الحالات التي يلجأ فيها الناس للصوم عن السياسة، إما لإخفاقهم أو للإصابة بالملل أو الخوف من الاستبداد السياسي والبطش، وهذا الصوم أو الاستراحة السياسية إما أن تكون اختيارية أو إجبارية، وللصمت السياسي دوره الذي لا يقل عن المواجهة، ومن أكبر الأمثلة على هذا صوم «غاندي» وزهده احتجاجًا على بطش الإنجليز وكيف خرج بالصمت من كونه تعذيبًا للنفس إلى إعلان لولادة الإرادة.

تسييس اللغة وفنونها
  إن الطرح الذي يقدمه عمار علي حسن في كتابه الحالي حول تسييس اللغة وفنونها أو فن لغة السياسة وخصوصيتها طرح ليس بالجديد من ناحية الاستخدام، ولكن يمكن أن نعتبره إثباتًا وتقريرًا للواقع الموجود، وتفسيرًا للمعهود والمستخدم، حتى يمكننا أن نقول إن الساسة درسوا بلاغة اللغة واستخدموها ووظفوها واستفادوا منها بصورة قد تفوق الأدباء والشعراء ممن كنا نظنهم أهل البلاغة ومُلاك أدواتها، فقد استخدم السياسيون اللغة على - حد تعبير الكاتب- باعتبارها قوة ناعمة ووظفوها لخدمة خطابهم السياسي، وأنا أتفق مع هذا الطرح بشكل كبير، رغم ما زال يساورني من شكوك حول تفسير هذا الاتفاق الخفي بين هؤلاء الساسة على هذا، الذي سبق وفسرته من منطق التربية بـ «المنهج الخفي» بين من يدخلون مجال السياسة.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح هنا هل اللغة تكفي أن تكون برهانًا على الواقع في ميدان السياسة؟ أم هي أداة تستخدم للتعبير عن هذا الواقع؟ 
وتأتي الإجابة متفاوتة، حيث تعتبر اللغة برهانًا في الدول التي تسودها المكلمات والديكتاتوريات الناعمة المغلفة بادعاءات الديمقراطية - كما في الدول العربية - فيتجمع العامة يسمعون خطبة من مسؤول ويصفقون ويهللون ويعظمون ويتفقون ويختلفون في حديثه رغم أنه لا يلتزم بأي شيء على أرض الواقع، ورغم ما يعانونه من واقع مرير، لكنك لا تسمع منهم كلمة واحدة تلزم هذا المسؤول بشيء أو تطالبه بأمر، بينما الأمر في المجتمعات الغربية مختلف تمامًا فقد يدفع مسؤول ثمن الإبعاد والعزل والمحاكمة نتيجة لكلمة في خطابه أوضحت عدم التزامه بما وعد، أو نتيجة لكذبة حتى ولو في حياته الشخصية، فمن منا لم يتذكر حادثة «كلينتون» رئيس أكبر دولة وهي الولايات المتحدة الأمريكية وفضيحتة مع «مونيكا» التي كانت بداية الرياح العاصفة التي أطاحت به.
  إن ما يحتاج إلى تفسير من وجهة نظري ودراسة، كيف اجتمع كثير من الساسة العرب، ممن يُفترض لديهم مرجعيات أخلاقية وثوابت دينية على شبه اتفاق على هذا المنهج الخفي اللاأخلاقي لاستخدام اللغة، بينما على النقيض في الغرب أو الشرق غير العربي تجد سيادة الممارسات السياسية تلتزم أمام المواطنين بسياق أخلاقي مسؤول رغم التحرر من الالتزامات الدينية والتقاليد الخلقية في هذه الدول، فهل مستحدثاتهم الوضعية كالحوكمة والمساءلة لديهم أصبحت أقوى من معتقداتنا وعقائدنا الدينية والتزاماتنا الأخلاقية؟!
  رغم أنني يكاد يستقر في عقلي بعد قراءة كتاب «المجاز السياسي» أن هذه المقارنة بين الواقع السياسي العربي والأمر في الغرب هي بالتحديد ما أراده الكاتب، فهو أراد أن يظهر ويبرز هذه المفارقة في الخطاب السياسي بين لغة السياسة في الغرب التي تلتزم بالمعايير اللغوية كأدوات للفهم والإيضاح، وسياسة اللغة لدينا من براعة مستخدمي اللغة الذين استطاعوا أن يأخذوا اللغة ليأسروها في ميدانهم السياسي، ويلووا ذراعها وينهكوها كالجارية التي لا تستطيع أن تخالف أو تعارض مالكها.
  إلا أنني كنت أرجو أن تناقش هذه النقطة تحديدًا بشكل أكثر تعمقًا في الكتاب الحالي، خاصة أن المؤلف ذو خلفية سياسية متعمقة ومتجذرة في المجتمع المصري وذو عقلية تحليلية لا يُستهان بها، فمن وجهة نظري هذا العرض الأكاديمي العلمي للكتاب رغم ما فيه من براعة وإتقان وعلمية؛ إلا أنه غير كاف أو لا يتواءم مع كاتب وناقد بحجم عمار علي حسن، كان الأجدر به أن يكتب للعامة أكثر وهو قادر على هذا، وما أثار دهشتي أيضًا ما لاحظته في الكتاب من غياب عرض وتفسير الأمثلة والنماذج العربية والمصرية وخاصة من التي عاصرها الكاتب بنفسه، بل وكان من بين فاعليها، فهل هذا من قبيل الصدفة، أم منطلق الصمت، أم أن عمار علي حسن في الوقت الحالي قرر أن يركن إلى حالة من الصوم السياسي؟! ■