شعرية المكان في القصة المغربية القصيرة قراءة في تجربة مبارك ربيع القصصية

شعرية المكان في القصة المغربية القصيرة  قراءة في تجربة مبارك ربيع القصصية

للمكان أهميته الكبرى في تشكيل وعي الإنسان وتقديم صورة العالم إليه وفق زوايا النظر إليه، ولهذا المكان وقع مختلف داخل العالم التخييلي، وقد تجسد سواء في الشعر أو النثر بمختلف تجلياته، ونوعية حضوره. وقد تعددت الصور التي حضر بها المكان في هذا العالم التخييلي تبعًا لمدى قدرة المبدع على عملية تقديمه في العوالم الإبداعية التي يُشيدها، لكنه مع ذلك يمكن القبض عليه انطلاقًا من صورتين تتكاملان فيه، هما صورة المكان الفردي وصورة المكان الجماعي، وهو ما سنسعى للقيام به، ونحن نقترب ونقارب العوالم التخييلية التي شيدها بحنكة وبراعة الكاتب المغربي الكبير مبارك ربيع في مجاميعه القصصية، متخذين من المجموعة القصصية «من شرق...لغرب» نموذجًا تحليليًا لذلك. 

 

بنية المكان الفردي وشعرية الألفة: نقصد بالمكان الفردي هنا، ذلك المكان الذي يتواجد فيه الإنسان، ويشعر فيه بالألفة، على حد تعبير «غاستون باشلار»، إنه الذي نسكنه ويسكننا بالتالي، نرتبط به ارتباطًا قويًا، ولا نستطيع الانفلات منه، ويرتبط بنا إلى حدود أن يصبح جزءًا منا، وصورة لنا. وحتى لو انفلتنا منه، فإننا نحمل صورته في دواخلنا، ويتراءى لنا عبر الأحلام والذكريات. 
إن هذا المكان يشكل وعينا، ويمنح لذواتنا إمكانية تحقيق الاستقرار الداخلي والشعور بالأمان، وفي غيابه، نشعر دائمًا أننا تحت وطأة سلطة مكان آخر، مكان غريب لا يمدنا بالقوة للقاء مع الآخر، والقدرة على تحقيق التواصل معه وفق ما نريد. ذلك أن الذي يمتلك المكان، يمتلك سلطة التحكم في الآخر. هذا المكان يتجلى في البيت بالدرجة الأولى، حسب «باشلار»، لكنه قد يتجلى أيضًا في مكان العمل، إذا استطاع الإنسان أن يحول هذا المكان من إطاره الخارجي الجماعي إلى إطار فردي داخلي، خصوصًا إذا كان المكان قابلًا لفعل التحويل ذلك. نتبين ذلك في قصة «التشعيلة»، هذه القصة التي تبتدئ بوصف حركة الناس، عن طريق العلاقة التي تربطهم بالأمكنة التي يقصدونها، والزمن المرتبط بفعل هذه العلاقة، حيث الخطو لا ينقطع، وحيث مواقع ورشات ومكاتب بالجوار، يقصدها من الجنسين، الأفراد والجماعات، وحيث مرابض سيارات، مراكن ومواقف، وهي طريقة سردية تتميز بالدينامية التصويرية، حيث تتراءى الفضاءات الخارجية، وهي تمر بسرعة أمام عين المتلقي، لتستقر بعد ذلك أمام فضاء خاص، هو فضاء الشخصية الرئيسة في القصة، أي شخصية «مي هشوم». 
فضاء خاص، تحول من فضاء خارجي لأنه فضاء غير محدود، بالنسبة للآخر الذي يراه، لكنه بالنسبة للشخصية التي تمتلكه بحكم الزمن، وبحكم التواجد اليومي فيه، فهي كما يصفها السارد في فضائها الفردي هذا، فهي «تظل جاثمة جامدة، على لبدة صوفية مطوية على قعدة خشبية صغيرة، من دون سند ولا ظهر، وتفيض عن سطحها جلسة القرفصاء، من كيان المرأة الثخينة المديدة، وحدها لا يخلو منها الوضع شتاء ولا صيفًا... وحدها، لا يتغير منها اللبس قرًا ولا حرًا». ص 26. 
  إن هذه الشخصية قد ارتبطت بمكان عملها ارتباطًا قويًا، بحيث قد أصبحت جزءًا منه، كما أصبح هو جزءًا منها، رغم أن هذا المكان لا يعدو أن يكون حيزًا صغيرًا داخل فضاء أرضية المحطة، حيزًا أصبح خاصًا بها، تبيع فيه السجائر بالتقسيط، وتتآلف مع كل الشخصيات المتواجدة ضمنه، سواء العابرة فيه أو المقيمة. لقد «حطت، جثمت مي هشوم»، كما يقول سارد القصة عنها، بل إنها حسب تعبيره أيضًا «فرضت نفسها على المكان والزمان، عند مدخل المحطة، وأصبحت معلمًا ملازمًا، لا ينافسها محاك أو مزاحم». ص27.  من هنا فهي تدافع عن مكانها هذا، وتحذر أيًا كان من الاقتراب منه، أو حتى مضايقة وجودها فيه. لقد أصبح يشكل لها وجودًا خاصًا بها، لا تستطيع أن ترى نفسها إلا وهي جالسة فيه تبيع سجائرها للزبائن، وترد على تحيات الذين يمرون بالقرب منها، وتدافع عن كيانها انطلاقًا من دفاعها عن مكانها هذا. 
هكذا نجد أن السارد يقدمها في عملية ارتباطها بفضائها الخاص على الشكل التالي: «أحيانًا، يقف منتظرًا بسيارة يحجز الرؤية عن «مي هشوم» يحجب موقعها، حينئذ يسمع صوتها واضحًا قويًا منبهًا، لا يتبين له مصدر من تحت لثام... أحيانًا أخرى يلتئم جمع شباب، من فتيان وفتيات، يتحلقون بالقرب، حينئذ يلفها اختناق حقيقي، يعمها إحساس قوي عميق بالحاجة إلى أنفاس هواء، من خارج التحلق والزحام، فتنتصب كأنها تتمطى، تنتفض أطرافها المديدة... تنشق هواءها بقوة، دون أدنى إزاحة أو تعديل لشبه اللثام، وقبل أن تعود إلى ربضة الصقر، تكون قد نبهت أو نهرت ما يكفي، بشدة أو لين، لانحراف عن موقعها...» ص28. 
إن السارد هنا، وهو يقدم لنا هذه العلاقة الوطيدة بين المكان والشخصية، يجعل من المكان شخصية في حد ذاته، من خلاله نرى الوجه الخفي للشخصية التي تملكه كما يملكها، فقد اعتاد الكل عليها، بحيث أصبحت هي المكان الذي تتواجد فيه، فلا معنى له في غيابها، كما أنها تشعر هي الأخرى بأن لا وجود لها إلا في مكانها ذاك، بحيث «وحدها لا يخلفها القصد ظلًا ولا شمسًا... وحدها، لا تخطئها العين مساءً ولا صبحًا...» ص26.
إن هذا التعامل السردي الذكي مع المكان والقدرة على توظيفه بشكل خفي غير مصرح به، في سيرورة الأحداث، قد جعل هذه القصة تمتلك دينامية نصية قوية، وترابط فيما بينها ترابطًا تشابكيًا، يتولد من خلال التعارض بين المكان باعتباره يمثل أنا الشخصية من جهة، وبين المكان الآخر، الذي يشكله الآخرون، بكل ما تحمله كلمة الآخرين من دلالة نفسية واجتماعية.

بنية المكان الفردي وشعرية الغرابة 
نقصد بالمكان الجماعي، المكان الذي يكون مفتوحًا في وجه الجميع، تلتقي فيه الذات بالآخر، دون أن يكون لأحدهما سلطة على الآخر، إنه فضاء لقاءات عابرة، أو فضاء طريق. في هذا الفضاء قد يحدث التعاون كما قد تحدث المواجهة، بتعبير الناقدة «سيزا قاسم دراز» في دراستها عن المكان ودلالته. هذا الفضاء الخارجي يحضر في تجليات عديدة في قصص المجموعة القصصية «من غرب ... لشرق»، لكننا سنقتصر في عملية تناوله على دراسة القصة الحاملة لعنوان المجموعة فحسب، على اعتبار أنه يتجلى فيه بشكل أكثر وضوحًا.
    يتكون عنوان هذه القصة من فضاءين، يشكلان ثنائية ضدية حينًا وثنائية تفاعلية حينًا آخر، تتكامل فيما بينها لتشكل فضاء متجانسًا، يطبعه فعل الحركة وخاصية التحول، ذلك أن نقطة الانطلاق ترتبط بالغرب، في حين أن نقطة الوصول ترتبط بالشرق. ومع ذلك يظل فعل التساؤل حاضرًا، ويخص بالتحديد دلالة كل من كلمتي «الغرب» و«الشرق»، فقد تحيلان كذلك على الزمن، على اعتبار أن «المكان هنا يحتوي عن الزمن مكثفًا» على حد تعبير «غاستون باشلار». وإذا نحن عُدنا إلى القصة، فإننا سنجد أن الفاصل بين هذين المكانين - الزمانين، هو فضاء الجدار، باعتباره يشكل فضاء عبور بامتياز، وهو ما سنقف عنده بالتحديد.

بين الغرب والشرق 
 تحتوي هذه القصة على مجموعة من العناوين الصغرى، هي كالتالي: «يقظة»، و«سخاء»، و«مناجاة» و«غفوة» بالإضافة إلى «منتهى» الذي يأتي، على غير المتوقع، في البداية و«مفتتح» الذي يأتي، انسجاما معه، في النهاية. وكل هذه العناوين الصغرى لا تحيل كما هو واضح إلى أي فضاء معين. لكن مضامين الحكايات الواردة في هذه القصة، تحيل إلى مكان مهيمن هو «الجدار»، على اعتبار كونه يشكل محطة عبور أساسية بين الغرب والشرق. يصف السارد هذا المكان بقوله «جدار قائم يعلو بمقدار قامتي شخص متوسط، يبدو أعلاه مختلط البياض من أثر الأنواء، بينما أسفله حائل البياض بفعل الاحتكاك... تبدو آثار أقدام مختلفة متداخلة وكأنها تسير فوقه، على صفحته...» ص61. 
لكن السارد، وهو يصف هذا المكان، سرعان ما ينفتح من خلال وصفه على الشخصيات التي تخترقه. على اعتبار أن المكان لا يعرف إلا من خلال القاطنين فيه أو العابرين منه أو إليه، كما هي الحال هنا. وكما تشير إلى ذلك جملة السارد نفسه، التي وهي تصف الجدار تركز على ذكر آثار العابرين الذين مروا فوقه أو بالقرب منه، فالجدار هنا يصبح بفضل هؤلاء المارة و«كأنه لا نهائي على الطريق» ص 62. إنه يشكل مرآة لهؤلاء المارة، رجالًا أو نساء. الجدار في هذه القصة يتحول إلى شخصية قوية فاعلة في مختلف الأحداث، إنه لا يشكل فقط الإطار الخارجي لها بقدر ما يشكل عاملًا من أهم العوامل بتعبير «غريماس»، في عملية سيرورتها. 
هكذا يصف السارد مختلف التحولات التي تطرأ عليه سواء في الصباح أو في المساء، من خلال تركيز التبئير على لعبة الظلال المحيطة به. الظلال هنا تأخذ صفة مشير دال على حدوث شيء أو على إمكانية حدوثه، فتحول الظلال هو بشكل أو بآخر دليل على التحوّل من الهدوء إلى الفعل، من السكون إلى الحركة، من الطمأنينة إلى التوجس. في هذا المكان الذي يشكله الجدار تقع أحداث نظرًا لعملية تكرارها اليومي تكاد تفقد أهميتها في السيرورة السردية. لكن من خلالها يتنامى الحدث الأساس، الحدث الذي يمنح للقصة معناها، ويمنح حتى لهذه السيرورة السردية منتهاها الفعلي. وهو ما يخلق بؤرة التوتر، ويجعلها تمتد إلى النهاية، كما يمنح لهذه النهاية ذاتها دلالتها.
السارد يصف الشخصيات التي تمر من هذا المكان كما يصف الشخصيات التي تتجمع بالقرب منه، مستفيدة من الظل الذي يمنحه لها، وهذا ما يشكّل لب القصة، ويصف العلاقة القوية التي تربط شخصية الفتى، الشخصية الرئيسة في القصة، بهذا المكان. الفتى يقف، ينظر إلى الجدار، الفتى يغير موطئ قدميه مرارًا، ثم يغير نقطة الوقوف نفسها، الفتى يظل محتفظًا ببسَمته في وقفته المسامتة للجدار الملتحمة به، الفتى يحس فجأة كأن شيئًا يتسرب، الفتى يرتمي إلى الظل الطويل، الممتد نحوه ويعالجه بحُسامية غاص بها حد السيف في الأرض، وانفطر بها نهر دماء يجري. 
هكذا تتنامى قصة المكان والشخصية، قصة الجدار والفتى في علاقة تكاملية، يتحول فيها المكان إلى مرآة للشخصية كما تتحول فيها الشخصية ذاتها إلى مرآة له. 
وفي الختام تأسيسًا على ما تمت الإشارة إليه يمكن القول بأن المكان في هذه المجموعة القصصية «من غرب... لشرق» يتمظهر في أشكال مختلفة، تارة يكون مكانًا فرديًا داخليًا، تشعر فيه الشخصية بالأمان والاستقرار، ويمنحها ألفة تحمي، بتعبير «غاستون باشلار»، «أحلام اليقظة»، كما تتيح لها أن «تحلم بهدوء»، وتارة يكون مكانًا خارجيًا، يشعرها بالتوجس، ويدفعها إلى الاحتراس، ومحاولة التغلب على المخاطر التي قد تصادفها فيه، فالمكان كما تقدمه هذه المجموعة يتحول من مكان طبيعي طبوغرافي إلى مكان ثقافي منغرس في أحداث القصة ومرتبط بها بنيويًا، بحيث يتحول فيها من إطار تزييني يؤطر أحداث القصة إلى عامل وظيفي في عملية خلق الأحداث كما الشخصيات وفي عملية تشكيلها ■