حجر رشيد وأسرار مصر القديمة

حجر رشيد  وأسرار مصر القديمة

جاء اكتشاف مصر القديمة من خلال اكتشاف حجر رشيد. ويعد اكتشاف حجر رشيد الأثري واحدًا من أهم الاكتشافات الأثرية في تاريخ الإنسانية عبر عصورها التليدة والمجيدة، ومفتاحًا مهمًا لكشف رموز وأسرار اللغة المصرية القديمة، ونافذة مضيئة أطل العالم كله منها على سحر مصر القديمة واستمتع بجمالها الذي لا ينتهي، ونورًا ملهمًا يتجلى أتاح للعالم المتحضر إماطة اللثام عن واحدة من أعظم الحضارات البشرية قاطبة في عمر كوننا الأرضي ومجرتنا الهائلة، إن لم تكن أعظمها على الإطلاق.

 

كيف كان لنا أن نتنسم عطر مصر القديمة الفواح ونستنشق عبيرها الخلاب ونعيش بين أريجها الأخاذ لولا اكتشاف ذلك الحجر المفسر للحضارة المصرية القديمة ومفتاح سرها؟ وما تلاه من محاولات جادة ودؤوبة لفك الأسرار المصرية القديمة على يد الكثيرين إلى أن جاء النابغة الفرنسي الأعظم عالم المصريات جان - فرانسوا شامبليون، ووضع نقطة النهاية، معلنًا اكتشافه ومؤسسًا بذلك علمًا جديدًا هو علم المصريات بشكل أكاديمي، ذلك العلم الذي ما زال العالم أجمع يتفيأ ظلاله ويستكشف أسراره، وجاعلًا مصر القديمة ولعًا فرنسيًا خالصًا في البداية، وقبلة العالم، وتتردد على كل لسان من بعد، وخالقًا موجة من الهوس بمصر أو ما يعرف بـ«الإيجيبتومانيا» (الولع بمصر) في العالم الغربي وغيره من العوالم. فما قصة هذا الحجر العظيم؟ وما قصة هذا الكشف المذهل؟ وكيف تم التوصل لسبر أغواره التي لم تبح بكل مكنوناتها كاملة إلا للعبقري الفرنسي جان - فرانسوا شامبليون، ذلك العالم الذي لا يتكرر كثيرًا؟

اكتشاف حجر رشيد
اكتشف حجر رشيد الضابط الفرنسي بيير- فرانسوا أكسافييه بوشار يوم 15 يوليو 1799 أثناء قيام قواته بتوسعة قلعة جوليان (قلعة قايتباي الثانية من عصر المماليك الشراكسة)، بمدينة رشيد في دلتا نهر النيل الخالد، التي تختلف عن قلعة قايتباي الأولى الموجودة في مدينة الإسكندرية عروس البحر المتوسط. وسمي باسم حجر رشيد نسبة للمدينة التي اكتشف بها. وأرسل إلى القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت الذي أرسله إلى مقر المعهد العلمي المصري في القاهرة حتى يتمكن علماء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) من دراسته. ثم أخذه القائد مينو، خليفة كليبر، القتيل، في قيادة الحملة الفرنسية على مصر، إلى مقر إقامته في الإسكندرية. 
وكان القائد الإنجليزي نيلسون حريصًا كل الحرص على الحصول على هذا الحجر النفيس، الذي لم يكن يعلم أحد عظمته كاملة بعد، من براثن الفرنسيين. فبعد اتفاقية الجلاء عن مصر بين الفرنسيين والبريطانيين أو ما يعرف بـ«اتفاقية العريش» في عام 1801، صادرت القوات البريطانية حجر رشيد وشحن على إحدى السفن البريطانية إلى لندن حيث وضع في مقر جمعية الآثار المصرية هناك. ودخل هذا الحجر إلى المتحف البريطاني في نهايات عام 1802 بعد أن أهداه ملك المملكة المتحدة جورج الثالث للمتحف البريطاني.
ونُحت حجر رشيد من لوح حجري اختير من حجر عالي الجودة وقوي الصلابة هو الحجر الديوريتي الجرانيتي. ولهذا الحجر لونان هما اللون الوردي واللون الرمادي. ويبلغ طول الحجر حوالي 112 سم وعرضه حوالي 75 سم وسمكه حوالي 28 سم ووزنه حوالي 762 كيلوجرامًا. ويوجد في قسم مصر القديمة والسودان ويحمل رقم 24 ومعروض حاليًا في قاعة 4.
وبوجوده الآن في المتحف البريطاني في العاصمة البريطانية لندن يعد واحدًا من أروع روائع ذلك المتحف، إن لم يكن أروعها وأشدها أهمية على الإطلاق، وأكثرها مقصدًا من قبل السائحين والزائرين البريطانيين على السواء، فهو بحق مفخرة الإنجليز بعد انتصارهم المدوي على الفرنسيين على حواف الأرض المصرية بالقرب من البحر المتوسط ذلك البحر الذي قارب بين الشمال والجنوب والذي كان وما زال شريانًا للحضارة والتواصل بين جنوب الصحراء الكبرى وشمالها. ويزين حجر رشيد المتحف البريطاني، ذلك المتحف العريق الذي يحفظ للبشرية ذاكرتها من الضياع، وصار حجر رشيد درة التاج على جبين ذلك المتحف الذي يعد مدرسة متفردة تعلم الجميع من كل مكان في العالم أسرار حضارات الدنيا وتاريخها وفنونها وجمالها. ومن الجدير بالذكر أنه بين عامي 2010 و2011، تم عرض حجر رشيد من قبل المتحف البريطاني وهيئة الإذاعة البريطانية ضمن معرض «تاريخ العالم في مائة قطعة».

مكانة أسطورية
ويحتل حجر رشيد مكانة أسطورية في تاريخ علم المصريات وفي تاريخ الكتابة البشرية جمعاء، ويعد محطة مهمة نحو توصل البشرية لأصولها العريقة ومعرفة جذورها العتيدة. وصار قبلة لكل المهتمين بمصر والعالم والحضارة وفجر الضمير الإنساني من كل حدب وصوب في عالمنا المعاصر. 
ولعب ذلك الحجر دورًا مهمًا في فك رموز الكتابات المصرية القديمة. وكتب النص المنقوش عليه في ثلاث نسخ تمثل عددًا من الكتابات التي كانت شائعة في مصر في ذلك الزمن البعيد من عمر حضارتنا المصرية الخالدة: وهي الكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة (الكتابة المقدسة) على قمة الحجر، والكتابة الديموطية المصرية القديمة (الكتابة الشعبية) في منتصف الحجر، والكتابة اليونانية القديمة (في أسفل الحجر) لغة الوافد والمحتل اليوناني الباقي من تراث الإسكندر الأكبر وخلفائه على تربة الأرض المصرية الطيبة الطاهرة التي تمصر كل محتل ووافد وتصبغه بالصبغة الحضارية المصرية الخالصة التي لا فكاك من أسرها الجمالي والمعرفي الطاغي والمهيمن أبد الدهر مهما تبدلت وتغيرت الأزمان والأحوال والأماكن والأدوار. ونجد أن الباقي من نص الكتابات الهيروغليفية يقع في أربعة عشر سطرًا وهي تطابق الثمانية والعشرين سطرًا الأخيرة من النص المصري القديم، بينما يقع المتبقي من الكتابة الديموطية في اثنين وثلاثين سطرًا، فيما كتب نص الكتابة اليونانية القديمة شبه كامل في أربعة وخمسين سطرًا.
ويسجل نص حجر رشيد مرسومًا كهنوتيًا يخص الملك البطلمي بطليموس الخامس المعروف بـ«إبيفانس»، وهو واحد من عدة مراسيم بنفس الغرض، أقره مجمع الكهنة في مدينة منف العاصمة المصرية القديمة الأبدية في عام 196 قبل ميلاد السيد المسيح عليه وعلى نبينا سيدنا محمد أزكى الصلاة وأتم السلام. ويؤكد ذلك المرسوم على العبادة الملكية الخاصة بالملك البطلمي بطليموس الخامس البالغ من العمر ثلاثة عشر عامًا في الذكرى الأولى لجلوسه على عرش مصر. ويشير النص إلى أفضال ذلك الملك البطلمي على المعابد المصرية وكهنتها.  
ومن تلك الأفضال التي ذكرها النص منح المعابد المصرية كميات كافية من القمح، وإسقاط الديون المتراكمة عن كاهل الشعب المصري والمعابد المصرية، والعفو عن المساجين والهاربين من العدالة إلى خارج الأرض المصرية والسماح لهم بالعودة إلى بلادهم، وترميم وإصلاح حالة المعابد المصرية. وردًا لجميل هذا الملك المتفضل والمتسامح مع المصريين، قرر مجمع الكهنة المصريين تزيين المعابد والمقاصير المصرية العريقة بتماثيل الملك بطليموس الخامس إبيفانس معًا إلى جوار تماثيل الآلهة، واعتبار مناسبة ميلاد ذلك الملك وتتويجه على عرش مصر بمثابة عيد رسمي وقومي للبلاد، وكتابة هذا القرار بثلاثة خطوط (خطين من خطوط اللغة المصرية القديمة وخط يمثل لغة البطالمة). 
ولم يصل إلينا الحجر كاملاً؛ فقد فقدت أجزاؤه العليا والسفلى. ويبدو أن الجزء العلوي للحجر كان على شكل اللوحة الملكية المصرية المعروفة من زمن الفراعنة السابقين على شكل قرص شمس مجنح يحدد إطار اللوحة العلوي وأسفله يقف الملك بطليموس الخامس والآلهة المذكورة في نص الحجر.

الحجر العجيب
وشغل الأقدمون والمحدثون بمحاولات تفسير الكتابة الهيروغليفية. ونذكر من الأقدمين المؤرخ الإغريقي خايرمون الذي كان معلمًا للإمبراطور الروماني نيرون، ثم الأديب المصري حورابللو الذي عاش في القرن الثامن الميلادي وكتب كتابًا عن الخط الهيروغليفي، ثم المؤرخ كليمنت السكندري، ثم الأب أثناسيوس كيرشر الذي قام بأهم المحاولات لفك رموز الهيروغليفية قبل اكتشاف حجر رشيد وكان على دراية باللغة القبطية وربط بينها وبين اللغة المصرية القديمة. 
ووزع المتحف البريطاني نسخًا عديدة من حجر رشيد على المعاهد والجامعات الأوربية بغية التوصل لسر الكتابات التي يحملها ذلك الحجر العجيب. وبعد توزيع تلك النسخ، اجتهد عدد ليس بالقليل من المهتمين بحجر رشيد في فك طلاسم ذلك الحجر مثل عالم الطبيعة الفرنسي سلفستر دي ساسي، وقارن النص الديموطي بالنص الإغريقي وتعرف إلى بعض الأسماء في النص الديموطي مثل بطليموس والإسكندر والإسكندرية. وتلاه الدبلوماسي السويدي يوهان ديفيد أكربلاد الذي سار على نهج سلفه وركز على النص الديموطي وتوصل إلى بعض النتائج المهمة لكنه لم يقطع الشوط إلى نهايته. ثم جاء الطبيب البريطاني توماس يونج الذي اعتقد بوجود علاقة ما بين النص الديموطي والنص الهيروغليفي. وكانت محاولاته أقرب إلى الصحة لكنه أخطأ في إيجاد النطق الصوتي الصحيح للكلمات الديموطية إلى أن جاء جان - فرانسوا شامبليون.
وتعد محاولات جان - فرانسوا شامبليون هي المحاولات الأخيرة والناجحة لقراءة اللغة المصرية القديمة وفك أسرارها. وساعده في ذلك وجود حجر رشيد ومسلة فيلة التي تزيّن إحدى ميادين إنجلترا، ومعرفته باللغة القبطية وباللغة الإغريقية ونتائج الباحثين السابقين عليه خصوصًا كيرشر ويونج، ورؤيته المنهجية في المقارنة والاستنباط والتحليل. ونجح في النهاية في التعرف على علامات كثيرة. وتمكن شامبليون من التوصل إلى الأبجدية المصرية القديمة عن طريق مقارنة الخطوط الثلاثة والأسماء الموجودة في الخراطيش. وقدم شامبليون اكتشافه الجديد في خطاب أرسله إلى البارون الفرنسي بون - جوزيف داسييه، سكرتير الأكاديمية الفرنسية للكتابات والآداب، كي يتلوه على مسامع أعضاء الأكاديمية في 27 سبتمبر عام 1822 معلنًا يومئذ مولد علم المصريات كعلم أكاديمي بشكل رسمي. 
إن قصة اكتشاف حجر رشيد وفك أسرار النصوص المكتوبة عليه هي باختصار قصة تلاقي بل تلاقح الشرق والغرب في لحظة تاريخية معينة قائمة على التعاون وبعيدة عن الصراع التقليدي بين حضارات الشرق والغرب من أجل فك شفرة سر حضارة من حضارات العالم القديم، بل سيدة العالم القديم، لا تتكرر كثيرًا في تاريخ التعاون بين الحضارات الإنسانية. 
إن ما قدمته رشيد، المدينة المصرية العريقة، من خلال هذا الأثر الفريد، وما قدمه من قبل الكهنة المصريون المبدعون أرباب العلوم والفنون والآداب في العالم القديم في ذلك النص المذهل المكتوب بخطوط عدة، وما قدمه العلامة الفرنسي جان - فرانسوا شامبليون وسابقوه من علماء وباحثين عن المعرفة باجتهاد، يعد عملًا خالدًا يكمل بعضه بعضًا في فترات زمنية متقطعة على وجه الزمن ويرسل كل من تلك الأطراف المشاركة في ذلك العمل الإبداعي الكبير برسالة للآخر ويصل مضمونها بكل تأكيد إلى الآخر مهما طالت السنون؛ لأن العطاء الإنساني ينبع من نهر واحد تأتي الحضارة المصرية العريقة على بدايته حين خطت بالإنسانية خطواتها الأولى نحو الكتابة والمعرفة وتدوين التاريخ والتمدن والتحضر بعد أن عاشت البشرية عصورًا طويلة في فترات مديدة من عصور ما قبل التاريخ التي أنهت مصر العظيمة أزمانها السحيقة وخطت بها خطواتها الأولى نحو معرفة الإنسان المعاصر بأصوله المصرية القديمة التي يكن لها الجميع في العالم كله الإجلال والاحترام والشكر والتقدير في كل زمان ومكان؛ فمصر هي معبد وقدس أقداس العالم قديمه وحديثه.

مهد الحضارات
ومن خلال اكتشاف حجر رشيد وفك رموز اللغة المصرية القديمة، تبين للعالم أجمع أن مصر هي مهد وأرض الحضارات؛ ففي مصر ولد التاريخ والحضارة البشرية منذ آلاف السنين، وأينما تذهب تجد حتمًا جزءًا ما من تاريخ مصر وكذلك من تاريخ العالم، لذا فلن نكون مخطئين إذا قلنا إن مصر والتاريخ توأمان متماثلان في كل شيء. فقد ظهرت الحضارة مبكرًا في وادي النيل ودلتاه المصريتين. ويجد المرء أنه من الصعب اختيار نقطة زمنية معينة يسرد منها قصة التاريخ المصري المثيرة والشائقة؛ فمصر موغلة في القدم قدم الزمن نفسه. 
وإذا تغاضينا عن البداية المبكّرة لظهور الإنسان على الأرض المصرية، والذي كان ظهوره من بين أوائل الأجناس البشرية التي عرفتها القارة الإفريقية، فإن معرفة المصري القديم لحرفة الزراعة المنظمة والمستقرة على ضفاف نهر النيل العظيم في حوالي الألف السادسة قبل الميلاد تعد، في رأيي؛ هي البداية الحقيقية لنشأة الحضارة المصرية التي سوف تستمر آلاف السنين. 
وشكل نهر النيل المصدر الأساس لنشأة هذه الحضارة المصرية العريقة التي جعلت «أبو التاريخ» المؤرخ الإغريقي الأشهر «هيرودوت» يصف الحضارة المصرية بـ«هبة النيل»، وهو وصف لا يخلو من منطقية ووجاهة، غير أن صحة وصفه يجب أن تكون على هذا النحو «مصر هبة النيل والمصريين»؛ فلولا المصريين لما نشأت الحضارة المصرية العظيمة على ضفاف النهر العظيم الذي يمر بدول إفريقية عديدة لم تنشأ بها حضارات بلغت ما وصلت إليه الحضارة المصرية من تقدم واستمرارية وازدهار. وجاء نهر النيل من دمع الربة إيزيس، حسب الأسطورة المصرية القديمة. وكان يمتاز الإنسان المصري - البناء العظيم صاحب ومشيد هذه الحضارة الفريدة - بحب العمل وإتقانه والدأب والصبر والصمت والهدوء والحلم وتحمل الشدائد والإيمان والتسامح ■