«ماري»... ملهمة الشاعر

«ماري»... ملهمة الشاعر

  يصعد الشاعر الديوانيّ النابه عبدالرحمن صدقي (ت 1973) إلى مَراقي الروح على دَرَج من لغة الفن والثقافة، ويرى أن الفتنة في المرأة روح قبل كل شيء، فهي «أقل مثولًا في جمال الطلعة واعتدال القوام منها فيما يشعُّ في العينين، وفي القوام كله من لطف الشعور المهذب، وذكاء الذهن المثقف، وسبحات الخيال الحر الطليق». ومع هذا، فقد آمن زمنًا إيمانًا قويًا بمقولة الفيلسوف الألماني شوبنهور «النساء جنسٌ غير فنيّ»، ودلل بشواهد الواقع والتاريخ على أن نصيب المرأة من النبوغ في الفنون والآداب - فيما عدا فنون التمثيل - ضئيل خافت قليل الذيوع، وغير صادر عن طبع، كما اعتبر زواج المتزوجين من رجال الفكر قضاء وقدرًا، لا يُغيّر من الحقيقة، كمن وقع عليه حائط أو وقع على كنز! 

 

تزوج صدقي من الغادة الإيطالية «ماري كانيلا»، التي فتنته باطلاعها في اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، مع بعض الإلمام بالعربية - وبثقافتها العميقة وذوقها الجماليّ الرفيع، ونزعتها المثالية، وكانت حياته معها مثالية، فلم تَفْتر وقْدةُ الحب بينهما بعد الزواج، ولم يُكدّر صفوها شيء من مَلال، تعرف متى تتكلم ومتى تصمت، تبادله الأفكار، ولا تقطع عليه أبدًا قراءاته، شغوفة بالقراءة والاطلاع، حريصة على العناية بكل شؤونه، ولأن للحياة وجهًا آخر فلم تشأ الأقدار لهذه الحياة الزوجية أن تدوم غير سنوات قليلة (1945-1940) فتوفيت الزوجة الشابة، وأحدثت هذه الفاجعة انفجارًا شعريًا هائلاً، أثمر ديوانًا ضخمًا، هو أضخم ديوان في رثاء الزوجة في الشعر العربيّ حتى النصف الأول من القرن العشرين، سمّاه صدقي «من وحي المرأة» صدر 1945م، وقد ظلت هذه التجربة حية في نفس الشاعر، وظل صداها يتردد في ديوانه الثاني «حواء والشاعر» الذي صدر 1962م.
كانت جذوة الحزن التي اتقدت في نفس صدقي عاصفة عاتية، سَمَتْ به إلى أرفع معاني الألم الإنسانيّ، وقمة المفارقة المريرة، وجاء التعبير عنها شعرًا صادقًا، يترجم لحياتهما الزوجية ترجمة أمينة، بمفرداتها وشياتها جميعًا، ويمكن الوقوف على هذه الحياة من البداية للنهاية، وكأننا نطالعها من خلال شريط «سينما»؛ حيث تتابع المشاهد وتلاحمها، أو الارتداد قليلًا إلى الوراء، أو الانفلات نحو زاوية من الزوايا، أو الإحساس بمؤثرات الصوت والحركة والضوء.
أما أبرز ما يمكن التماسه من هذا الشريط المصور فهو صورة الزوجة/ الأوربية/ القارئة/ المثقفة، وهي أكثر الصور إلحاحًا على الشاعر في ديوانه الأول، فقد تعارفا عن طريق الكتب، وكانت الكتب «الظلّ الثالث» في قصتهما، وأدت دورًا خطيرًا في وصل هذين الحبيبين، وفي حياتهما الزوجية القصيرة.
جاور الشاعر أسرة إيطالية مكونة من أرملة وفتاتين، ووضح له بعد التعارف، أنها أسرة تهتم بالثقافة وتُقدر المثقفين، كما آنس في نفسه اهتمامًا بأن يُقرئ الصغرى ما يقرأ، ووجد منها مثل هذا، فتبادلا الكتب واتفقا في عادة التأشير تحت الأفكار التي تروق لهما، وعند هذه الإشارة التقى فكره بفكرها، وعند ذلك التعقيب تجاذبت روحه مع روحها، فكان التكاشف والتآلف وبدء العلاقة العاطفية:
وأنكِ قد طالعتِ أسفار مكتبي
      إذا لكِ فيها حيث وقفتُ موقفُ
نظرتِ إشاراتي هنا وها هنا
      تحدّثُ عن أغوار نفسي وتكشف
لدى كل تعقيبٍ وكل إشارةٍ
      تصافح روحانا فكان التعرّف

لقد شغفها حبًّا، ولم يكن في غنى قارون ولا جمال يوسف، وإنما أحبّت فيه الإنسانَ الفنان والشاعر المثقف، فكان «الفردوس المفقود»:
فخورٌ على الدنيا بأنكِ زوجتي
      وما أنا قارونٌ ولا أنا يوسفُ
تَصَبّاكِ مني ما يُخيِّب ذا الهوى
      وَيزْوي قلوبَ الغانيات ويُصدف
تصبّاك أني ذو حديثٍ وأنه
      علومٌ وفنٌ لا مجونٌ وزخرف


وتميّزت عن لِدَاتها فلم يخدعها زخرف زائف، أو قشور حائلة، وإنما صرفت همّها نحو الجوهر واللُّباب، لذا لم تكن مجرد أنثى جميلة أو فتاة مثقفة، بل مزاج فريد من جلال وجمال:
رأيتُ الغواني وهي لهوٌ ومظهرٌ
      وأنتِ مزاجٌ من جميلٍ وكاملِ
ورقةِ إحساسٍ وعفَّةِ نظرةٍ
      ولفظٍ وتفكيرٍ وحَفْلِ فضائل

«حَفْل الفضائل» هذا جعل الشاعر العزوف عن الزواج يولّي ظهره للعزوبة، ويفكر في الزواج، وكان العزاء عن فقد الوحدة المحببة إلى نفسه، أنه وُفّق إلى اختيار رفيقة الحياة التي لا يضطر أن يحُطَّ من مستواه الفكري كي يلتقي معها في صعيد واحد، بل يحدوه مجلسها إلى حفز قواه الفكرية، وإطلاق ملكاته الفنية.
وعاشا معًا حياة سعيدة موفقة، في بيت تُظلّله السكينة والمودة، وتتجاوب في جنباته أصوات: الرضا والعطف والدرس والموسيقى، وتنعم أجواؤه باللمسة الحانية والبسمة الوادعة، وهذا ما تكشف عنه قصائده، فتزدحم بالمواقف المشتركة وتتراءى الصور الحيوية التي يلتقطها الشاعر في براعة وصدق، حتى يصل إلى اللحظة الفارقة، لحظة النهاية لهذه الحياة القصيرة، فنجد أنفسنا أكثر حزنًا وحيرة من الشاعر أمام فعل القدر، وهو الفاجعة، فهذه الأشعار كما يقول حسين مؤنس: «يحسها الإنسان ويتذوّقها ويشارك صاحبه في شعوره، إنها ليست كلامًا منظومًا بل إحساسًا مرسلاً، فاض عن نفس صاحبه كأنه إيماض زند أوراه مسٌّ عنيف طارئ».
ويستعيد هذا المشهد الإنساني للزوجة الرقيقة العطوف، وهي تُطعم الأطيار الصدّاحة من فُتات الخبز، وقد ألِفت منها هذه العادة، فأقبلت في موعدها اليومي فلم تجد في الحِمى أو البيت سوى الزوج الثاكل رَهْن الوحدة الموحشة:
وأسمعُ للأطيار تَـزْقو كما زَقَتْ
      وللوُرْق تُزجي سَجْعةً بعد سجْعةِ
فأين فُتاتُ الخبز تُلقينه لها
      فَينْقُرْن منها حبَّةً إثر حبَّة
عَرَفْنَ أوانَ الأكل فهي كعهدها
      تَراءَى صُفوفاً فوق سُورٍ وأَيْكة
تَأَلَّفْتِها يا إلْفَ قلبي وأنْسَه
      فماليَ في هذا الحمى نهْبَ وحشة! 

وهما حبيبان اتخذا بين الكتب عش غرامهما، واستغرقا في هذا العيش، فتضاعف إحساسهما بالحياة؛ إذ كانا يقرآن الفن بالعقل والعلم بالقلب:
نضاعفُ بالكتب الحياة، فحظُّنا
     من الحسِّ والتفكير حظٌّ مضعَّفُ
ونعرِض للعقل الفنونَ فتنجلي
     وندرس بالقلب العلومَ فتلْطِفِ
نمارسُ هذا العيشَ بالقلب والحِجى
     معًا، مثلما طابت على المزْج قَرْقَف
حبيبان بين الكتب عشُّ غرامنا
      نديمان في حضن الهوى نتفلْسَف

وفي قصيدة «دنيا ودنيا» يعقد الشاعر مقارنة بين دنيا الغواني الفاتنة وزوجته، وينتصر للثانية «فكل الذي فيكن فيها»، وفوق ذلك «فيها أصالة» و«سبحات روح»، و«عقل رزان والخيال وثوب»، والأروع أن هذا جميعه تكنّفه بالحب والعطف، وأصبح منه «زوجة وحبيب»، فبأي منجلٍ قاس حصد الموت فتون هذا العالم؟!:
وما كان غيرَ الحب والكُتْبِ عالمٌ
        لنا حافلٌ بالمغريات خصيبُ
فيا ويحَ هذا الموت أودى بعالمي
        فكلُّ عطاءٍ بعد ذاك سَليب

وضعان متناقضان
وتمثل قصيدة «الموسيقى» - كتبت بعد انقضاء عامين على وفاة زوجته - نموذجًا دالاً على المفارقة التي تقوم على المقابلة بين وضعين متناقضين، وفيها يصوّر الشاعر ما كانت عليه حاله مع الموسيقى قبل الفجيعة (أي في الماضي)، وما أصبحت عليه هذه الحال بعد الفجيعة (أي في الحاضر)، وهو يقرر التناقض بين الحالين منذ البدء:
يا قلبُ، شأنُكَ والسَّماعَ عجيبُ 
      جانبتَ مجلسَه وكان يطيبُ

 ثم يقول:
كم شاقكَ النغمُ البديع كأنه
        رَجْعٌ لأفلاك الفضاء مجيبُ
يعلو بهمكَ ساعةً فوق الدُّنا
      ترتادُ جنَّاتِ العلا وتجوب
فاليوم مالكَ ليس يعزف عازفٌ
      - يا قلبُ - إلا هاج منكَ وجيب
لا تستخفُّكَ نغمةٌ محبورةٌ
      نشوى بأفراح الحياة صَخوب
إلا ذكرتَ شريكَ أُنسكَ في الثرى
      فغَصصْتَ، يعصِرُك الأسى وتذوب
وزفرْتَ زَفْرا كالشواظ من اللظى
      وشَرِقْتَ بالعبرات وهي صبيب 

لقد كانت الموسيقى أثيرة ومحببة إلى نفسه وكأنها صوت الطبيعة الحي، الذي «يعلو بهمك فوق الدنا»؛ لكنها اليوم استحالت إلى شيء آخر، مثير للأحزان، وباعث على الذكرى الأليمة، بل عند «السَّماع» يعصره الأسى ويذوب، ويشرق «بالعبرات وهي صبيب».
إن الشاعر يترجم - من خلال الشعر - القطعة الموسيقية الواحدة إلى ترجمتين متقابلتين: الأولى إيقاعها البهجة والهناء، والثانية إيقاعها الشجا والبكاء. والترجمة الأولى استغرقت بيتين والثانية استغرقت أربعة أبيات، وكأنها مقابلة أخرى بين الزمان السعيد القصير، والزمان الحزين الطويل.
كانت السنوات الأربع التي قضاها الشاعر زوجًا أخصب فترات حياته تأليفًا وإصدارًا للكتب، وكان من عاداته كلما نشر كتابًا أن يهدي إلى زوجته الشابة الأديبة نسخة مجلدة عليها كلمة إهداء خاصة منه لها، «وإنه لا يزال بعد موتها على نية المضي فيما جرت به عادته». ويذكرها عند سماعه لحن شوبير «السلام يا مريم» لتشابه الأسماء، وهنا يبكي الشاعر لموسيقاها الشجية، وهي تدوي في أذنيه وتتعالى في حلاوتها رائعة غالبة. ولمدينة «فلورنسا» الإيطالية إعجاب خاص وانطباع آخر، عند زيارة صدقي لها، فهي موطن الزوجة الأصلي وفيها عاش أجدادها، وهي التي كانت سببًا في تحقيق الحلم - ولو بُرهة - لذا كان إليها الحج والمقصد، مع كل ما يستدعيه الفعل «أحج» من شعائر وطقوس وأجواء:
وقالوا «فلورنسا!» فأذكرت زوجتي
        وثبت إلى حالي وسرِّ طروقي
أحُجُّ لأرضٍ حقَّقتْ حلمَ مهجتي
        وأنْسَ حياتي، بُرهةً، ورفيقي
منابتُ أهلِيها فلا بدْعَ ضُوعِفَتْ
        على طيبها طيباً بقلبِ صديق

تجربة مميزة
لقد تميزت تجربة صدقي في رثاء الزوجة عن غيرها من التجارب في الموضوع ذاته - ليس فقط بضخامتها وامتدادها الزمني - ولكن بما يمكن تسميته: رثاء الزوجة الصديقة أو الزوجة الحبيبة، التي تختلف عن رثاء الزوجة أم الأولاد، فمعظم الذين رثوا زوجاتهم - بدءًا من جرير قديمًا وانتهاء بطاهر أبي فاشا، ورابح لطفي جمعة حديثًا - كانوا أصحاب أولاد، وأخذ الأولاد نصيبًا من رثاء أمهاتهم.
أما صدقي، فإنه يقول:
وارْتضَيـنا من لِقـانـا عِوضًا عما حُرِمْـتُهْ
وقد وردت هذه الإشارة في قصيدة «الصرخة الأولى»، وهي خلاصة مركزة لمعالم القصة الفاجعة، فقد تجمعت فيها كل الخيوط: البيت والحلم والصداقة والهموم المشتركة والجمال والدرس والعطف والحياة والموت والذهول وحرقة السؤال، فجاءت كأنها نغبة طائر من بحر الأحزان الهادر، فيها كل مكونات وخصائص ماء البحر، وهي أشبه بجسر الزفرات الذي عبرت من عليه كل مراثيه، وهو يقدم لها بقوله: «هي أولى صرخات الشاعر، بل - في عبارة أدق - أولى أناته، نظمها في استحكام يأسه وتضعضع حسه وانهداد قواه، بعد ليلة من مصابه في زوجته الشابة المثقفة الطيبة الخلق شريكة حياته ورفيقة دراساته»:
كان لي في أُخْرَيات الـ
        عُمْرِ بيتٌ فعَدِمتُهْ
سنواتٌ أربعٌ؟ أمْ
        كان ذا حُلْمًا حَلمْتُه
ليته طال، ولو طا
        ل لما كنتُ سئمته
زوجتي صِنْوى، وماليِ
        غيرَها صِنْوٌ عَلِمْتُه
هي لم تَنْقِمْ على نقـ
        ـصي، ولا شيءَ نَقَمْتُه
نَظَمَتْ بالعطف والتفـ
        ـكير عيشي ونَظَمْتُه

وإذا ارتقينا درجة، تبينت لنا ملامح تجربة عاطفية عاشها الشاعر بصدق، وظلت مختزنة طوال السنوات الأربع، إلى أن فاجأه الفقد، فجاء الشعر طبيعيًا تلقائيًا، يحمل حرارة التجربة ونضارتها، كما يحمل ملامحها الحقيقية، ملامح تجربة الحب ■