خارطة الثقافة

خارطة الثقافة

  مع تزايد إقبال المنظمات والأفراد على العمل ضمن شبكات عالمية وفرق دولية متعددة الثقافات - سواء بصورة حقيقية مادية، أو افتراضية إلكترونية - تبرز الحاجة إلى التعرف على الثقافات الأخرى، وتمييز الفروق الدقيقة بينها بشكل جيد، لتخطي حواجز غير مرئية، وتفادي صراعات محتملة قد تندلع من سوء فهم، أو فشل في فك شفرات التواصل.

 

 لتسهيل الأمر، قدمت المؤلفة والمتحدثة الأمريكية إيرين ميير - في كتابها The Culture Map - نموذجًا مجربًا ميدانيًا لفك شفرة تأثير الفروق الثقافية على الأعمال الدولية؛ عرف بنموذج الثمانية مدرجات التي تمثل جوانب أساسية يحتاج مدراء الأعمال وسواهم للوعي بها أثناء التعامل مع أشخاص ومنظمات من ثقافات مختلفة، حيث لا يكفي مجرد الانفتاح على الثقافات المغايرة ومعايشتها فحسب، بل معرفة الموقف النسبي لها في المقارنة بثقافات أخرى، لتحديد إستراتيجيات التعامل. 
أنفقت ميير سنوات طويلة على الاهتمام باختلاف الثقافات وأثرها على الأعمال، واعتبرت واحدة من أكثر مفكري الموارد البشرية تأثيرًا - وأكدت في دراساتها التي أجرتها أثناء عملها في المعهد الأوربي لإدارة الأعمال، إنسياد، المتعدد الثقافات بباريس - اختلافات تقع على مدى يتراوح بين طرفين نقيضين كالتالي:
-1 التواصل: السياق المنخفض - تواصل الوضوح - في مقابل السياق المرتفع - المتطلب لقراءة ما بين السطور.
-2 التقييم (النقد): التغذية المرتدة السلبية المباشرة في مقابل التغذية المرتدة السلبية غير المباشرة.
-3 الإقناع: بطرح المبادئ أولًا، ثم ضرب أمثلة، في مقابل تقديم التطبيقات أولًا، ثم توضيح المبادئ التي قامت عليها. 
-4 القيادة: من منطلق تعامل المساواة في مقابل التدرج الهرمي للمناصب.
-5 اتخاذ القرار: بالإجماع، في مقابل نزوله من أعلى.
-6 الثقة: القائمة على أداء المهمة، في مقابل تلك المتولدة من علاقة شخصية.
7 - الاختلافات: المواجهة، في مقابل تجنب المواجهة.
-8 الجدولة الزمنية: التوقيت الخطي، في مقابل التوقيت المرن. ويتضمن كل مدرج عددًا من البلدان (الثقافات) بصورة توضح الفجوات النسبية بينها.
 
بين سياقين 
يقوم التغاير على مدرج التواصل على نظرية إدوارد هول الذي فحص العوامل المؤثرة في الفهم بين الثقافات، وما يؤدي إلى تعزيز التواصل وتعميقه، أو فقده. وقاده عمله هذا إلى صياغة بعد ثقافي أطلق عليه «السياق»، الذي يمثل الطريقة التي يقيم فيها الناس معاني المعلومات التي يتلقونها ويفسرونها. فالسياق يشمل نظامًا من معاني المعلومات، يتراوح بين تواصل يخلو من الألفاظ تمامًا، ويعتمد على لغة مختلفة، كلغة الجسد والإيماءات، ويضع في اعتباره عوامل سياقية مثل ماذا؟ ولماذا؟ ومتى؟ ومن؟ وكيف؟ للتواصل مع الآخر. وتواصل لفظي خالص، يقوم على كلمات مكتوبة أو منطوقة. وركز على قطبين: السياق المرتفع غير المباشر، الذي لا يعتمد على التواصل اللفظي؛ والسياق المنخفض المباشر، المتمسك بالمحتوى اللفظي. وأكد أنه رغم استخدامنا للسياقين، إلا أن أحدهما يسيطر على الآخر، ليشكل في النهاية ثقافات سياق مرتفع، وثقافات سياق منخفض. 
من الأمثلة التي ضربتها ميير على الثقافات منخفضة السياق: الثقافتان الأمريكية، والأسترالية، حيث يفضل التواصل الدقيق الواضح، تفاديًا لأي سوء فهم؛ بينما تندرج ثقافات اليابان، وكوريا، والعالم العربي، تحت الثقافات مرتفعة السياق، التي تستدعي قراءة لما بين السطور. وتبقى المقارنة مهمة لتحديد الموقف النسبي، فمثلًا، يكون المدير الفرنسي مرتفع السياق بالنسبة للمدير الألماني، لكنه منخفض السياق بالنسبة للمدير الصيني.
رأت ميير أن كلًا من الأمريكيين، والبريطانيين يقعون في طرف السياق المنخفض على مدرج التواصل، لكن الإنجليزي يتحدث بين السطور أكثر مما يفعل الأمريكي. كما يميل البريطاني في ثقافة السياق المرتفع إلى إلقاء النكات بوجه جامد، مما يجعل الأمريكي يشك في قصده، فلا يضحك. ونتيجة لذلك يعتقد البريطانيون أن الأمريكيين لا يفهمون النكات؛ بينما الأمر ببساطة، أن الأمريكي ينتمي إلى ثقافة السياق المنخفض بصورة تفوق البريطاني؛ ولهذا يفضل أن يوضح البريطاني أن ما قاله نكتة، في حضور الأمريكي.

فروق ثقافية في اجتماعات العمل
كشفت ميير أيضًا عن فروق ثقافية يمكن أن تتضح في اجتماعات الأعمال، حيث ينتهي اجتماع في بريطانيا بملخص شفهي يوضح ما حدث، ويبين توزيع الأدوار والمهمات على المشاركين مع نسخة مكتوبة ترسل بالبريد الإلكتروني. بينما ينتهي اجتماع فرنسا بالمصافحة والاتفاق الضمني على ما جرى دون تلخيص أو توضيح صريح. وتجد ثقافة أخرى في إرسال ما تم الاتفاق عليه في اجتماع، أو مكالمة تليفونية للتذكير، نوعًا من عدم الثقة. 
كما يمكن رؤية فرق آخر، في رسالة بريد إلكتروني لبريطاني، أو أمريكي، فإذا لم يكن يملك الرد عليها، سيخبر المرسل خلال 24 ساعة بأنه سيرد عليه لاحقًا. بينما يمكن أن يرد الإسباني بعد ثلاثة أيام، ليخبر المرسل أن ما طلبه قد تم. 
ولا يخلو الأمر من تحديات عند عمل الصيني مع الأوربي، بسبب رسائل الصيني الضمنية في أغلب الأحيان؛ فإذا قال المدير الأوروبي (للصيني): «لابد أن يتواجد أحدنا يوم الأحد في المكتب، فيما يبدو، هل يمكنك أن تفعل ذلك؟»؛ سيجيب الصيني: «نعم، الأحد يوم جميل، ستحتفل ابنتي بعيد ميلادها»؛ ليفهم الأوربي، ضمنيًا، أنه لا يريد الحضور؛ فيقول له: «أتمنى أن تقضي وقتًا سعيدًا». ويرد الصيني: «شكراً لتفهمك».
من بين ما يفسر سبب الاختلاف بين ثقافتي السياق المرتفع والمنخفض في اليابان، وأمريكا، عمق تاريخ الأولى، وتجانس شعبها، مما يسهل فهم محتوى الرسائل المتبادلة. في مقابل قصر تاريخ الثانية وعدم تجانس شعبها المكون من مهاجرين من أصول متباينة، وضرورة التوضيح تجنبًا لأي سوء فهم. فالتواصل الجيد في الثقافات المرتفعة يعني الاستماع لمضمون الرسائل، والانتباه للغة الجسد؛ والحديث بصورة واضحة ومحددة في الثقافات منخفضة السياق.
 
النقد والمواجهة 
على نفس المنوال، شرحت ميير كيف تتفاوت الطريقة التي يقيم الناس بها بعضهم سلبيًا؛ حيث توجد ثقافات مباشرة في نقدها كالثقافة الروسية، التي لا تجد حرجًا في استخدام عبارات مثل «هذا غير مهني»، أو «لا أوافق مطلقًا»، بينما تفضل ثقافة بلدان كاليابان وإندونيسيا تقديم النقد بشكل رقيق وغير مباشر، وربما على انفراد. وهكذا يمكن تصنيف النقد في أربع مجموعات: مجموعة مرتفعة السياق ومباشرة مثل روسيا؛ ومجموعة منخفضة السياق ومباشرة كألمانيا؛ ومجموعة مرتفعة السياق وغير مباشرة مثل اليابان؛ ومجموعة منخفضة السياق وغير مباشرة مثل أمريكا. ويفيد الانتباه إلى موقع الثقافة التي نتعامل معها في التغلب على مشكلات قد تظهر بسبب قضية حسّاسة ومعقدة مثل النقد. 
فيما يتعلق بالإقناع، تفضل ثقافات البدء من العام إلى الخاص، على عكس ثقافات أخرى تبدأ بالأمثلة وتنتهي بالمبادئ والمفاهيم المستندة عليها. ورغم قدرة معظم الناس على الإقناع بكلتا الطريقتين، إلا أن طريقة تتغلب على أخرى، بسبب نمط التفكير المرسخ بالتعليم. كأن تبدأ حصص الرياضيات بالتطبيقات، أو بالمبادئ العامة، مما يعني التركيز معظم الوقت على الأدوات الملموسة، أو على النظريات والمفاهيم. وهكذا نجد أستراليا، وأمريكا، وكندا، على جانب التطبيقات أولًا في مدرج الإقناع، بينما تقع إيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، وروسيا على جانب المبادئ أولًا.  وعلى مدرج القيادة، تقع ثقافات على جانب القيادة الهرمية التي لا تسمح بالاختلاف مع الرؤساء، ولا العمل بدون موافقتهم على كل خطوة، وبين قيادة المساواة التي تمنح حق الاختلاف والتصرف بحرية أكبر. وفيما يتصل باتخاذ القرار، نجد بلدانًا مثل السويد، وهولندا، واليابان، على جانب القرار بالإجماع من المدرج، بينما تقع الهند، والصين، وروسيا، وبلاد أخرى على الجانب الآخر، حيث يهبط القرار من أعلى هرم السلطة. وفي المنتصف تقف بريطانيا.
 
الثقة والتعبير عن المشاعر
لفتت ميير الانتباه كذلك إلى نوعين من الثقة تنتج عن الاختلاف الثقافي: الأول، إدراكي، يأتي من العقل، ويقوم على الثقة التي يمكن الشعور بها عند ملاحظة الإنجازات والمهارات. وعادة ما تتكون من خلال التفاعل وإبراز الكفاءة؛ والثاني عاطفي، يصدر من القلب، ويبنى على التعاطف والصداقة الشخصية، عندما يرتاح الناس لبعضهم، ويتبادلون الأحاديث والضحكات. وتستشهد بمسح لأستاذ من هارفارد أجراه على تنفيذيين أمريكيين، وصينيين، وأثبت ميل الأمريكي إلى ثقة العقل، لاعتياده على الفصل بين العمل والمشاعر؛ في الوقت الذي يجمع الصيني بين نوعي الثقة - العقل والقلب - بل أنه يرى في الفصل بينهما مؤشرًا على قصور الإخلاص والولاء. 
مثلما تختلف مصادر الثقة، يختلف الناس في تعبيرهم عن مشاعرهم، ووجهات نظرهم، وفقًا للثقافات المختلفة. فالفرنسيون، والإيطاليون، والإسبان، على سبيل المثال، يعبرون عن مشاعرهم، ولا يهابون المواجهة المباشرة. ويستطيعون الفصل بين الشخص وفكرته التي يعارضونها، ولا يفسد خلافهم للود قضية؛ في الوقت الذي تتجنب فيه ثقافات بلدان مثل اليابان، وكوريا، والصين المواجهة المباشرة، وتحجم عن التعبير عن مشاعرها. ويكون الربط بين الشخص ونقطة الخلاف وثيق، بحيث يصبح الهجوم على الفكرة هجومًا على صاحبها. وتعبر ثقافات أخرى عن مشاعرها، مع تجنب المواجهة، كما هي الحال في الهند، والبرازيل، والمكسيك؛ بينما تواجه ألمانيا، وهولندا، دون تعبير عن المشاعر.

الالتزام وتقدير الوقت 
على صعيد الالتزام، توصف ثقافات في مناطق كسويسرا، وألمانيا، بالخطية، حيث تفضل إنهاء المهمة تلو الأخرى. وتلتزم بالخطط والمواعيد، وموضوعات النقاش. وترى الوقت كشيء ملموس، يمكن توفيره، أو إنفاقه، أو هدره، أو قتله. وعلى الجانب الآخر تتمتع ثقافات بالمرونة، فتنجز عدة مهمات في الوقت نفسه، ولا تجد بأسًا في تأخير اجتماع ما، أو تقديمه، أو تبديل موضوعات النقاش - مثلما يمكن أن يحدث في العالم النامي، والبلاد العربية - حيث يقترح شخص موعدًا غير محدد الساعة لمقابلة فيقول: «سأراك بعد يومين»، أو يقول: «أنا قادم الآن» وتمر عشرون دقيقة أو أكثر ولا يظهر له أثر. 
ويعكس موقع ألمانيا على مدرج الجدولة الزمنية من ناحية أخرى - كما تشير ميير في كتابها - كيف تختلف الثقافات في الانضباط وإدارة الوقت. ففي الوقت الذي يمكن أن يشتكي فيه موظف هندي من صرامة زميله الفرنسي، فيما يتعلق بحرصه على الوقت، يشتكي الفرنسي من زميله الإنجليزي لالتزامه الشديد بالمواعيد؛ كما لا يخفي الألماني شكواه من فوضى زميله الإنجليزي، وقصور انضباط الزميل الفرنسي. 
على أية حال، لا يكون الأمر سهلًا دائمًا عند التنبؤ بسلوك الآخر ومحاولة تصنيفه، حتى مع استخدام خارطة الثقافة المذكورة، ولا سيما عندما يكون هذا الآخر مختلط الثقافة، إما لانتمائه لوالدين من ثقافتين مختلفتين، أو لنشأته، أو دراسته، أو عمله في إطار ثقافة غير الثقافة التي يعيش فيها، أو لإعجابه الشديد بثقافة غير ثقافته وتبنيها، فكثيرون منا اليوم لا يشبهون أهلهم، ولا يتضح لونهم الثقافي الغالب إلا بالتعامل ■