الرحلة قصيرة

الرحلة قصيرة

تقول الحكاية إن رجلًا كبير السن كان يجلس في حافلة، عندما دخل شاب صاخبًا مسرعًا وصدم الرجل بقوة بحقيبة يحملها، ثم جلس بجانبه دون أن يعتذر أو تبدو عليه أمارات الأسف. أزعج هذا الموقف رجلًا يجلس بالقرب، واستغرب هدوء الرجل وصمته، وسأله، فأجاب الرجل الكبير بابتسامة لطيفة: ليس من الضروري أن تكون أحمق أو فارغًا، وتجادل على شيء تافه؛ فالرحلة قصيرة، وأنا سأنزل في المحطة القادمة!
يا لها من حكمة رائعة ومنطق راقٍ وروح سامية، فالرحلة قصيرة؛ زمن محدود بين محطتين، لا تحتمل الشجار والصراخ والخصام بين جاري الرحلة. وما حياة المرء - مهما طالت - إلا رحلة قصيرة جدًا في حسابات الكون، وما أحوجنا إلى تمثل حكمة الرجل وعدم الانشغال بتوافه الأمور، وهنات البشر، والجري وراء حسابات سخيفة لا تليق بالسمو الإنساني ومكانته الرفيعة وتقديمه على جميع الكائنات الأخرى، فالبشر بالنسبة إلى غيرهم من المخلوقات ملوك، وعليهم أن يتخلقوا بأخلاق الملوك!
الحياة رحلة قصيرة، وهي عند العقلاء، لا تحتمل البغضاء والحقد والكراهية والخصام والقطيعة وتتبع العورات والإساءات، ولا يليق بها الجشع والحسد والتكالب والنفاق والخداع، ومن باب أولى أنها تتنافى مع القسوة والتوحش والاعتداء والاحتراب والبطش والقتال والفتك والتدمير. واللبيب يدرك أن كأس السوء الذي يعده لغيره سيتجرعه لا محالة مهما طال الزمن.
ولأن الحياة رحلة قصيرة علينا أن نحرص أن تكون جميلة، خالية من المنغصات وأسباب النكد والقلق والشك والريبة، وأن نجعلها مترعة بالحب والفرح والتسامح والطيبة والعفوية والبساطة والرقي واللطف والحلم والأناة والرفق؛ فماذا نخسر إن عفونا عن المخطئ؟ وتجاوزنا عن المسيء؟ وتغافلنا عن الشتائم والسباب؟ وأخذ حقنا باللطف دون ظلم أو افتئات؟ وهل من الضروري أن نجرح قلبًا؟ أو نكسر خاطرًا؟ أو نجور؟ أو نخون؟ أو نكذب؟ أو نفتري؟ أو نتطاول؟ أو نقسو؟ 
الرحلة قصيرة، ومن الحكمة والحصافة أن نعيشها بسلام وطمأنينة وهدوء وراحة بال ومصافحة القلوب قبل الأيدي، وأن تكون الابتسامة سراجًا على كل الوجوه، وليس من الضروري أن يعي من حولك ذلك، فهذه مقامات إنسانية رفيعة لا تتأتى للجميع، ولكن عليك أنت وأنا أن ندرك ذلك ونعمل بهذا المقتضى، وأن نؤمن بأن الرحلة قصيرة جدًا، وأن نعمل ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا؛ لتكون رحلة جميلة تريح القلوب، وتشرح الصدور، وتبهج الأرواح، وأن نكون لمن حولنا أزهارًا لا أشواكًا، ماءً زلالًا لا ملحًا أجاجًا، ونسمة صبا لا ريحًا صرصرًا، وظلًا ظليلًا لا قيظًا ولا زمهريرًا ■