دراسات في النقد التشكيلي وجماليات العمل الإبداعي
اتخذت الفنون التشكيلية مكانة بارزة بين الأدوات التعبيرية التي جعلها الإنسان وسيلة لتجسيد أفكاره ومشاعره وأحلامه، عبر مسيرة الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ. ولما كان النتاج التشكيلي يشكل فيضًا كبيرًا من إبداعات الإنسان عبر العصور، فقد كانت الحاجة ضرورية لوجود دراسات نقدية وجمالية، تكشف مكامن الإبداع في هذا النتاج الفني، إذ ليس بمقدور الإنسان الاكتفاء بالتمتع بهذا النتاج الإبداعي ما لم تتوافر لديه الخبرة والمعرفة بطبيعة العمل الفني وأبعاده المختلفة.
هناك من يكتفي بمشاهدة العمل الفني في حدوده الشكلية الدنيا، دون الوقوف عند دلالاته، وما يحفل به من قيم جمالية وثراء روحي ومعنوي، لذلك، كان للدراسات النقدية دور كبير في الكشف عن هذه الأبعاد الجمالية وتقريب المسافة بين مبدع الأثر الفني والمتلقي، لكونها شكلت الوسيط الذي يحمل رسالة التقويم الجمالي في مخاطبة الفنان لتطوير العمل الفني، وتحديد موقعه في خضم التيارات الفنية المؤثرة فيه، كما يضيء كذلك للمتلقي السبل التي تفضي به إلى تذوق الأثر الإبداعي، وكلما زاد تراكم الإنتاج الفني وتنوعت أشكاله ومسالكه، باتت الحاجة إلى الدراسات النقدية الواعية ضرورية لتقييم هذا الإنتاج، فحين ظهرت الاتجاهات الحديثة في الفن التشكيلي، غيرت مفهوم التشكيل، وذلك من خلال تجاوز مقومات العمل الفني الكلاسيكي، كما بات العمل التشكيلي نصًا منفتحًا بما فيه من صياغات متحررة من المفاهيم التقليدية، وأضحت قراءة اللوحة مفتوحة على احتمالات كثيرة وتأويلات متباينة. وغدا المتلقي مستقلًا عن موقف الفنان التشكيلي، مما جعل تطابق الموقفين نادرًا، لأن النصوص التشكيلية المستحدثة اعتمدت التجريب والتغريب، لذلك وقف المتلقي إزاء هذا النص/اللوحة مرتبكًا، حائرًا أمام تحولات تسارعت نحو العبثية والغرابة، بل إن النقد وقف عند أعتاب هذه النصوص/ اللوحات، مقتصرًا على السرد الأدبي والتأويل الضبابي والاستعراض اللغوي المضلل، مما ساهم في غربة المتلقي عن نص بصري لا يدرك أبعاده ومراميه، لذلك بحث الفنان التجريدي العربي عن مفردات محلية يدخلها إلى لوحاته كي تشكل منافذ لها، في محاولة لكسر حاجز الاغتراب بين المتلقي والمنتج الفني.
شكّل هذا التصور، المنحى العام الذي ارتكز عليه كتاب «دراسات في النقد التشكيلي وجماليات العمل الإبداعي» للباحث والفنان التشكيلي الراحل في الثالث من أغسطس 2019، طاهر البني، الصادر (بعد رحيل الباحث) في طبعته الأولى عن منشورات وزارة الثقافة السورية، ضمن منشورات مسارات فنية، عام 2022. جاء الكتاب في 368 صفحة من القطع المتوسط، تضمن مقدمة ص5، حدد من خلالها موضوع الكتاب، كما تناول مفهوم النقد وتطوره، ثم النقد الفني عبر التاريخ، وثلاثة فصول، وملحق للوحات تشكيلية، جاءت كالتالي: الفصل الأول (ص23): تناول من خلاله مذاهب النقد الغربي، والفصل الثاني (ص، 133): تناول من خلاله أعلام النقد التشكيلي الغربي، الفصل الثالث (ص،207): تناول فيه الكتابة النقدية التشكيلية في البلاد العربية، وختم الكتاب بملحق للوحات تشكيلية (ص339).
أهمية الكتاب
تأتي أهمية هذا الكتاب، من كونه يعمل على إبراز أهم الاتجاهات النقدية العالمية والمحلية، ليشكّل نافذة لقراءة النتاج التشكيلي، تستند إلى مفاهيم أساسية في علم الجمال وفلسفة الفن ومعرفة بعض الخصائص التشكيلية، التي لا بد من توافرها في العمل الفني؛ الذي يقوم على الإبداع والابتكار والأصالة في التجريد والتجريب، كما أن الكتاب لم يبق حبيس المعطى النظري، بل عمل على عرض نماذج متعددة لبعض النقّاد الغربيين والعرب، ليس لأنهم يمثلون الطليعة في هذا الميدان فحسب، بل لأنهم يمثلون مواقف متعددة تجاه العمل الفني، كان لا بدّ من تعرّفها والإفادة من تجاربها الخصبة.
وأكّد الباحث طاهر البني في مقدمة كتابه على أهمية الفنون التشكيلية، سواء في بعدها الفني والجمالي، أو في بعدها التواصلي ووقعها على المتلقي، لكن ذلك يستوجب دراسات نقدية تكشف عن هذه الأبعاد الجمالية. كما قصد تقريب المسافة بين الفنان التشكيلي والمتلقي، مما ساهم في بروز العديد من الاتجاهات الحديثة في الفن التشكيلي، كما أشار الباحث طاهر البني إلى العديد من القضايا الأساسية المرتبطة بالبحث النقدي التشكيلي العربي، أبرزها: مفهوم النقد وتطوره، النقد الفني عبر التاريخ في العصور القديمة، وفي العصور الوسطى وعصر النهضة في أوربا، في القرن الثامن عشر، في القرن التاسع عشر، في القرن العشرين.
الفصل الأول... مذاهب النقد الغربي
تناول الباحث في هذا الفصل مذاهب النقد الغربي ومختلف التطورات التي عرفتها، حيث حصرها في النقد التقليدي، النقد الأيديولوجي، النقد التاريخي، النقد السيكولوجي، النقد الجمالي، النقد التقني، النقد السيميولوجي. وبعد أن استعرض الباحث أهم الأسس المعرفية لكل منهج من هذه المناهج والوقوف عند أبرز أقطابها، قدم تعقيبًا على هذه المذاهب النقدية (ص: 112)، بين من خلال تعقيبه أبرز الثغرات المنهجية
والمعرفية لكل منهج من هذه المناهج النقدية، ليخلص إلى أن النقد التشكيلي يقوم على دراسة الأثر الفني من داخله ومن مكونات عناصره التي تبني الشكل من خلال الدوافع النفسية للفنان، ثم ربط هذه العناصر بمختلف الجوانب التقنية والعوامل التاريخية والاجتماعية والفكرية، مستندًا في ذلك إلى منهجية واضحة وبراهين منطقية متوازية، لهذا، لا يمكن حسب الباحث النظر للعمل الفني من زاوية واحدة. تصدر عن موقف أدبي، أو أيديولوجي، أو تاريخي، أو فلسفي، أو غير ذلك فحسب، بل لابد من الإحاطة بالجوانب والمكونات التي أسهمت في ظهوره ومنحته ملامحه الفنية والجمالية، وكذا قدرته على بث المؤثرات البصرية لدى المتلقي.
الفصل الثاني... أعلام النقد الغربي
ركّز الباحث في هذا الفصل على مجموعة من أعلام النقد الغربي (أوجين ديلاكروا، شارل بيير بودلير، ليو نيللو فينتوري، هربت ريد، أندريه مالرو ، جان بوا سارتر)، ليؤكد الباحث على أن العديد من مؤرخي الفن قد أجمعوا على أن الفنان أوجين ديلاكروا يعد آخر الفنانين العظام في عصر النهضة الأوربية، كما يعتبر أول المجددين في القرن التاسع عشر، لكونه رائد الرومانسية في التصوير. كما يتمتع إلى جانب ذلك بثقافة عالية في شؤون الفن والتاريخ والأدب، مما جعل مذكراته من أهم الكتابات الأدبية التي تضمنت نقدًا فنيًا متميزًا لفناني عصره ومن سبقهم من روّاد عصر النهضة. أما شار بودلير، فيؤكد الباحث على أن العمل الفني عنده ليس نسخًا لصورة الواقع، لأن الصورة الواقعية عنده، محدودة الآفاق الرمزية، مما جعل بودلير (حسب الباحث) يفضل التصوير الذي هو من صنع الخيال، لأنه يعبّر عن الرغبات الإنسانية واكتشاف ما هو غريب. بهذا، يعتبر بودلير المذاهب النقدية التقليدية عاجزة عن كشف حقيقة العمل الفني، لأنها تستند إلى معايير ثابتة ومتداولة، أما حين انتقل الباحث للحديث عن ليو نيللو فينتوري، فقد أكّد على أن مؤلفاته في فلسفة الفن والنقد الفني قد حظيت بأهمية كبرى، لما تحفل به من تحليل دقيق لمختلف الجوانب الجمالية والقيم التعبيرية في العمل الفني. والشيء نفسه أكّده الباحث حين تناول الناقد الفني هربت ريد، أما أنريه مالرو، فقد ركز الباحث في تناول تجربته على جوانب عدة، ترتبط بتصوراته الفكرية والمنهجية في تناول العمل الفني، والشيء نفسه بالنسبة لجان بول سارتر.
الفصل الثالث... الكتابة النقدية في البلاد العربية
ركّز الباحث في هذا الفصل على مجموعة من المستويات المتصلة بالكتابة النقدية التشكيلية في البلاد العربية تجلت في التالي:
أ- بدايات الكتابة النقدية: أكّد الباحث في هذا الجانب على أن بواكير الإنجازات التشكيلية في البلاد العربية، تطل منذ مطلع القرن العشرين، حيث ظهرت الحاجة إلى الكتابة عن تلك الفنون في مصر، ولبنان، وسورية وبعض دول المغرب العربي. نهلت في أغلبها من الثقافة والنقد الغربيين، سواء على مستوى التنظير أو الممارسة.
ب- مشكلات النقد العربي: شكّلت تلك المرجعية المعرفية الغربية التي اعتمدها النقد التشكيلي العربي حسب الباحث طاهر البني، أهم القضايا التي واجهها النقد التشكيلي العربي، لكونها سبب التبعية للنقد التشكيلي الغربي الذي امتلك أدوات نقدية تتناسب مع الاتجاهات والمدارس الفنية التي نشأت في أوربا عبر خمسة قرون، لأن لكل من الثقافتين (الغربية والأوربية) مميزاتها وخصائصها التي تختلف عن الأخرى.
ج- أعلام النقد العربي: تناول الباحث في هذا الجانب العديد من أعلام النقد التشكيلي العربي: رمسيس يونان (مصر)، جبرا إبراهيم جبرا(فلسطين)، بدر الدين أبو غازي (مصر)، سلمان قطاية (سورية)، نوري الراوي (العراق)، طارق الشريف (سورية)، حيث ساهم هؤلاء وغيرهم من مختلف الأقطار العربية في ترسيخ النقد التشكيلي العربي.
يعد كتاب «دراسات في النقد التشكيلي وجماليات العمل الإبداعي» للفنان الراحل طاهر البني، من أهم الأعمال التي ستغني الخزانة العربية عامة، والنقد التشكيلي العربي على وجه الخصوص ■