لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

 من خلال مطالعتي ملف قصص المسابقة لاحظتُ سعي جيل الشباب إلى الانطلاق نحو عوالم جديدة من الإبداع القصصي بنتاجٍ يتفاوت في المستوى الإبداعي واشتمال النص على العناصر الفنية، وغِنى المعجم اللغوي وجدّة الفكرة، لكنه يشترك في التأكيد على أنَّ القصة القصيرة فن الحياة الذي لا يموت، وهو قابل للتجريب والتجديد والتجدد وتبوؤ مساحة لائقة به في ظلّ تسيّد الرواية المشهد الثقافي العربي، فرغم ما تواجهه القصةُ القصيرةُ من تحديات تتمثل في التوجّه العام للرواية والومضات القصيرة في زمن السرعة والشّاشات إلّا أنّها تثبت جدارتها واستحقاقها البقاء، وها هي الأقلام الجديدة تسعى إلى ترك بصمةٍ إبداعيةٍ شبابية مختلفة ونابضة بالتميّز، لأنَّ شرط الاستمرار هو السعي للتجريب مع الحفاظ على البنية الفنية لهذا الفن العريق؛ فالإبداع سفرٌ لا ينتهي، ويظلُّ القصّ جسرًا تعبُر فوقه الخيالاتُ والرؤى والأفكار ويمثّل زاوية أثيرة في النفس البشرية التي تميل بفطرتها إلى سرد الحكايات. 

المرتبة الأولى: «ظل لهذا الظل» لعمرو أحمد البطا / مصر
تميزت قصة «ظل لهذا الظل» بتوافر العناصر الفنية والتنقل بسلاسة بين ضمير الراوي والمتكلم، وإثارة الأسئلة في ذهن المتلقي بأسلوب فني غير مباشر وسرد مقنع وقريب من المتلقي يجعله يعايش الحالة الشعورية للشخصية. تتحدث القصة عن شاب بدأ عملًا مؤقتًا في دارٍ للسينما يتمثل عمله في تشغيل جهاز العرض للمشاهدين، هو يتحكم في لحظة بدء العرض والاستراحة والنهاية فيمدّه ذلك بالزّهو ووهم أنه يتحكم ويسيطر على مجريات حياته ويسيّر أيامه وفق ما يشتهي، ويكتشف ذلك بعد أن رأى صديق عمره مصادفة، والذي سبق أن ساعده في تخطي تجربة حب فاشلة، ممّا يكشف للمتلقي جانبًا من شخصية بطل القصة، من أنّه كان خبيرًا في قصص الحب وأنه مرّ بعلاقات وتجاربَ فاشلة لم تثمر ديمومة وزواجًا وتكوين عائلة، فوجد أنّ صديقه الذي تغيّب عنه سنوات طويلة كوّن خلالها عائلة والتحق بوظيفة ثابتة، فيكتشف البطل متأخرًا أنَّ عمره انسلَّ دون أن يشعر، وأنَّ التغييرات الجسدية التي تدلّ على التقدّم في العمر التي لاحظها على صديقه بنظرة عابرة قد طرأت عليه هو أيضًا دون أن يلتفت إليها وهو قابع خلف الشاشة، ساهٍ عن ملاحقة قطار الزمن الهارب منه، نبّهته الصدفة إلى مراجعة طريقة تعاطيه مع الحياة ومكوثه سنوات طويلة في عمل «مؤقت» سرق عمره خلف الشاشة، عاش وهمَ التّحكم في وقت العرض، وغاب عنه أنّه فقد توجيه بوصلة حياته؛ فيحاول متأخرًا التمرُّد على واقعه بهيئة من لم يعد تعنيه الخسارة بعدما خسر حياته متوهمًا عيشها، يمدّ كفه أمام شاشة العرض ويصير ظلًا لها ولحركة أصابعه التي ترمز إلى محاولة الإمساك بالزّمن الهارب إلى غير رجعة.

المرتبة الثانية: السّاعة الثانية عشرة لشيماء نجم عبدالله /العراق 
 تمثّل قصة «السّاعة الثانية عشرة» محاولة تناول جديد وتفكيك لقصة قديمة وهي قصة «سندريلا» التي توارثت فكرتَها الأجيالُ بسلاسة ودون أسئلة أو محاكمة، لما تتضمنه من فكرة تأطير دور الأنثى في البحث عن خلاصها الآتي من الآخر، بناء على شكلها الخارجي وجمالها وأناقة مظهرها، وليس من ذاتها وإمكاناتها الفكرية وقدرتها على الاعتماد على نفسها ورفضها الرضوخ للظلم الاجتماعي، وذلك ببناء قصصي موفق إلى حد كبير، حاولت فيه الكاتبة التعبير عن تناولها الجديد للقصة المتوارثة والذي يركز على التفلّت من فكرة «فارس الصدفة» وأنّ الخلاص الحقيقي لا يأتي إلّا من الشخص ذاته، رغم أنَّ هذه القصة تعتبر نموذجًا للوعي الجديد لجيل الشباب ومحاولة تمحيصه الأفكار المتوارثة، لكن ما يؤخذ عليها الوقوع في بعض المواضع بالمباشرة والتكرار. 

المرتبة الثالثة: «قميصٌ واحدٌ... وأكثر من جسد» لمحمد بوثران/الجزائر
 تميزت القصة بأسلوبها السهل الممتنع الذي رغم بساطته يحمل العديد من سمات الرمزية، القاص قادر على التقاط الحدث الذي يبدو عابرًا لا يستحق الالتفات إليه واعتماده ركيزة لبناء النص، فالراوي كان يراقب قميصًا عّلقته سيدة على حبلٍ للغسيل منذ أسبوعين، تزامن ذلك مع اقتحام جيش الاحتلال البلدة حيث تمّ الاعلان عن وقوع قتلى من بينهم طفل في العاشرة من عمره، ويترك الكاتب فسحة للمتلقي ليتساءل دون أن يقدِّم له إجابات جاهزة؛ فهل كان القميص يخصّ الطفل المذكور ولهذا ظل معلّقًا على حبل الغسيل منذ أسبوعين وهي فترة أكثر من كافية لجفافه؟ وهل اللون الأحمر للقميص يرمز لدم الشّهداء؟ وقد يكون سعي الراوي للحصول على القميص يشير ظاهريًا إلى حاجته المادية فقط، لكن الكاتب نجح في تحميل الفكرة بعدًا أعمق فقد تكون إشارة إلى حاجته وعزمه على تغيير الواقع المأزوم اقتصاديًا وسياسيًا، وتوارث القميص يشير إلى انتقال فكرة المقاومة. هي قصة محمّلة بالمعاني وإنْ كان العنوان الذي اختاره الكاتب لقصته يبدو طويلًا وكاشفًا للفكرة أكثر مما ينبغي، كما أنّها تحتاج لبثّ إشارات أكثر تُسعف المتلقي في معايشة الحدث والحفاظ على خيوط التشويق، لكنّ القصة تبشّر بقلمٍ واعدٍ بالعطاء.