عالم جديد يلوح بالأفق

عالم جديد يلوح بالأفق

 عالم جديد بدأ بالتشكّل، يتطلب منا ملاحظته ومراقبة تبعاته، لا لمجرد المتابعة الإخبارية فقط، ولكن لمعرفة تأثيراته على مجتمعاتنا واتجاهات تطورها، وانعكاساته بصفته ظرفًا موضوعيًا عالميًا، ومدى تأثيره على الذاتي في بلداننا ومجتمعاتنا.
لا نريد أن نستبق الأحداث، فنؤكد تلك التأثيرات أو ننفيها، قبل أن نستدعي تأثيرات النظام العالمي الذي قد يمضي وينتهي، عالم القطب الواحد الذي استمر لأكثر من ثلاثين عامًا، والذي تم وصفه بنظام العولمة الاقتصادية.
فالنظام العولمي الذي بدأ إعلانه في فيرمونت بكاليفورنيا في أواخر سبتمبر 1995، عندما اجتمع خمسمئة من قادة العالم السياسيين والاقتصاديين وعتاة رجال الإنترنت في العالم، وكان ينظم هذا المؤتمر أو اللقاء آخر رئيس للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، الذي قال مبشرًا: «ما هو إلا هيئة خبراء جديدة ترسم معالم القرن الحادي والعشرين، والذي سيفضي إلى حضارة جديدة».
هكذا وبكل صفاقة وضعت هذه النخبة كوكب الأرض تحت رحمتها، وكل ما عدا هذه النخبة وبلدانها هم التخوم أو الأطراف، أو بمعنى أصح الأسواق واليد العاملة الرخيصة، وما على دول المركز سوى امتصاص كل قطرة من ثروات دول الأطراف، وهذا يستلزم بالضرورة صبغ هذه الدول بثقافة المركز، ومحو كل أثر للثقافات الوطنية أو المحلية.
ولكن لأن الحقيقة المطلقة الوحيدة هي الحركة الدائمة والتقدم، فإن ما أطلق عليه منظر وفيلسوف هذه النخبة فوكوياما «نهاية التاريخ»، ستكون في واقع الأمر نهاية العولمة، وعودة دول الكوكب إلى طبيعتها التي يجب أن تكون.
فإضافة إلى إيجابيات التواصل، فقد غرست ثقافة الاستهلاك والمظهر والسلوك، في مجتمعات لها خصوصيتها الثقافية، مثل الملابس وقصات الشعور والأوشام التي تملأ أجساد الشباب والفتيات، إضافة إلى الانحلال الأخلاقي وانتشار ثقافة العنف والجريمة، وشرعنة المخدرات ونشر وتشجيع المثلية الجنسية، وعمدت إلى ما أسمته الفوضى الخلاّقة، بتفتيت المجتمعات وتعزيز الهويات الفرعية على حساب الدولة المركزية الوطنية، ودولة القانون المدنية، بحجج نشر الديمقراطية المزيفة.
بدأت ملامح العالم الجديد تلوح من بعيد، وها نحن نرى أن الأحلاف الدولية تعيد تشكيل نفسها، لا أن تندلق باتجاه القطب الواحد، وهذا في شرق آسيا وفي روسيا والصين والهند، وهنا نشهد ولادة حلف عربي بقيادة مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات، والمؤمل أن تنضم له الأردن والعراق وبقية الدول العربية، هذا إضافة إلى حلف الدول الإسلامية الأوسع وغيرها من الأحلاف في العالم.
الحرب الروسية الأوكرانية قد تؤدي إلى زعزعة نظام الليبرالية الجديدة، ووضع البترودولار في التاريخ، وهو في حد ذاته يعني إنهاء سياسة القطب الواحد، مما قد يؤدي إلى الالتفات للثقافات الوطنية الخاصة بكل مجتمع، أي تتعدد المراكز اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا، وتتخلص الدول من كونها رهينة العولمة التي تمسك بمصائرها، وتنحو للتنمية الذاتية المستقلة، معتمدة على تنوع العلاقات الدولية، دون إملاءات من أحد.
فمن مصلحة كل قطب تعزيز اقتصاداته وتنمية موارده في ظل تبادل المنفعة العادل، وتعزيز ثقافات مجتمعاته بما يحقق مصالحه وليس مصالح دول أو قوى أخرى، وهذا يتطلب بنية فوقية مناسبة للمجتمعات، مثل الثقافة الحداثية والمؤسسات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني، في ظل دول مركزية تسير بقوة القانون والتنمية المستدامة ■