«الإسلام السياسي والدولة المستحيلة»

«الإسلام السياسي  والدولة المستحيلة»

 يعمل الدكتور وائل حلاق أستاذًا لمادة الإنسانيات والشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة كولومبيا بنيويورك، له مؤلفات عديدة حول نشوء وتطور المذاهب الفقهية والنظام القضائي في الإسلام، وفي مادة الدراسات الإسلامية، من أهمها كتُب «الشريعة، النظرية والممارسة والتحولات»، و«تاريخ النظريات الفقهية» و«مدخل إلى الشريعة الإسلامية» ونشأة الفقه الإسلامي والسلطة المذهبية»، و«التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي» وفي إطار النقد المزدَوِج، نشر الدكتور وائل حلاق نقدا للفكر الغربي الاستشراقي، بعنوان «قصور الاستشراق، منهج في نقد العلم الحداثي»، كما ألف في منهاج ونظرية الدولة الحديثة، الكِتاب العلمي الذائع الصيت «الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي» تُرجِم إلى اللغات الحديثة وإلى اللغة العربية سنة 2013، وسأعتمد على توجيهات هذا الكتاب، لمقاربة العلاقة بين الشريعة الإسلامية والدولة الحديثة من اتصال. 

 

ينطلق الدكتور وائل حلاق من فرضية بالغة البساطة، لكنها صادمة ومن السهْل المُمْتنع، تتمثل في أن مفهوم «الدولة الإسلامية» مستحيل التحقق، وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة، لكن الإشكالية لا ترجع إلى مفهوم الدولة الإسلامية بكونها ليست إسلامية، و«إنما تعود إلى كونها ليست دولة حديثة بالذات»، لأن الدولة الحديثة لها «نطاق مركزي» وهو مفهوم أخذه وائل حلاق من الفيلسوف كارل شميت، و«النطاق المركزي» للدولة الحديثة يختلف عن النطاق المركزي للشريعة الإسلامية، فالأول يتعلق بالنموذج الغربي المعتمد على «ديانة التقدم»، حيث تحدث المعجزات التقنية والإنجازات البشرية والسيطرة على الطبيعة، على عكس ما كان عليه النطاق المركزي في عصر «الدين التقليدي» المتمثل في التنشئة الأخلاقية والتعليم الأخلاقي، كما يبحث الكتاب عن الأسس التي شكلت الدولة الحديثة واختلافها بنيويًا ونوعيًا عن نموذج «الحكم الإسلامي»، والسبب أساسًا، أن مفهوم الدولة الإسلامية هو في تناقض وتعارض، مرجعه إلى النظر إلى مفهوم الدولة الحديثة كإطار وكيان مفرغ، قابل لأن يُملأ بأي تصور أو فكر من خارجه، لكن الأمر، حسب رأي المفكر وائل حلاق، يتعلق بمفهوم الدولة الحديثة، التي تمتلك خصائص وميزات مختلفة جذريًا عن نموذج ما يمكن أن نسميه «بالحكم الإسلامي» كما يروق لوائل حلاق تسميته.

نموذجان متناقضان
ويؤكد حلاق على أن نموذجي الدولة الأوربية الحديثة و«الحكم الإسلامي» ما قبل الحديث، هما متناقضان، ومن ثم فإن الحديث عن دولة إسلامية كما يقدمها «الإخوان الإسلاميون» أو الأحزاب «الإسلاموية» جمعاء، هو ضرب من الاستحالة العقلية والعملية، فالنموذجان كلاهما ينتمي إلى «نطاق مركزي» من المعرفة والممارسات والمفاهيم التي تختلف تمامًا عن الآخر، ما يجعل الجمع بينهما أمرًا مستحيلًا، ومن ثم يشتغل الدكتور وائل حلاق، على الأسس التي شكلت الدولة الحديثة واختلافها بنيويا عن نموذج الحكم الإسلامي، على الرغم من  أن علماء المسلمين لا نجد عندهم بحثًا حقيقيًا في مفهوم الدولة الإسلامية، بنيتها وكيفية تطبيقها، وظلت مواقفهم مرتبطة بمفاهيم وشعارات فضفاضة مثل الحاكمية أو الدعوة إلى الخلافة أو تطبيق الشريعة وغيرها، ويمكن التمييز بينهما عبر ثنائية الشكل والمضمون، حيث يميز حلاق بينهما قائلًا (أعتبر المضمون متغيرًا أو مجموعة من المتغيرات، والشكل مُكوَن من بُنى وخصائص أساسية، امتلكتها الدولة في الواقع لمائة سنة على الأقل، ولا يمكن من دونها تصوُّرها كدولة قط، كونها أساسية). إن مضمون الدولة متغير، مثل أن يحكم الليبراليون أو الاشتراكيون أو غيرهم، أما صورة الدولة فثابتة. 
إن وائل حلاق يسعى في كتابه «الدولة المستحيلة»، بعد معرفة بنظام الحكم الإسلامي ونظام الدولة الحديثة، إلى أن يبرهن على استحالة تحقيق طموح التيار «الإسلاموي» بإنشاء دولة إسلامية على هياكل الدولة المدنية الحديثة، وأن هذا المسعى إنما يتعارض مع أخلاقية الرؤية الإسلامية للوجود والمجتمع الإنساني نفسه، وأن الدولة الحديثة لها خصائص بنيوية متعالية، وأن المحتوى الأيديولوجي سواء كان ليبراليًا أو ماركسيًا أو إسلاميًا... إلخ، ليس سوى شيء لاحق لشكل الدولة، وإن فقدت الدولة الحديثة هذه الخصائص الشكلية تفقد أساس وجودها وتتحول إلى فوضى من دون بوصلة.
إن صورة الدولة الحديثة هي دائمًا ثابتة، ولها مجموعة من الخصائص، تميزها عن مفهوم «الحكم الإسلامي»، بخمس صفات، هي: (أ) تكوين الدولة كتجربة تاريخية (ب) سيادة الدولة التي أنتجتها وبامتلاكها للسيادة، (ج) احتكار الدولة التشريع وما يتعلق بذلك من احتكار ما يسمى العنف المشروع، (د) جهاز الدولة البيروقراطي، (ك) تدَخُّل الدولة الثقافي المهيمن في النظام الاجتماعي بما في ذلك إنتاجها الذات الوطنية، وهذه المواصفات هي مُنتج للمجهود الذي قام به المفكرون والفلاسفة الغربيون والسياسيون، كما نجد أن هذه الخصائص والميزات الخمس في كتابات غرامشي ومشيل فوكو، مثل «مصطلح الهيمنة»، ومفهوم العنف، عند «ماكس فيبر» و«حنة أرندت»، وبعد عرضه نموذج الدولة الحديثة ومقارنته بنموذج «الحكم الإسلامي»، توصل وائل حلاق إلى استحالة إقامة «الحكم الإسلامي» عبر مضمون الدولة الحديثة، نتيجة للاختلافات والتباينات بين النموذجين، ذلك لأنه (لا يمكن للحكم الإسلامي أن يسمح بأي سيادة أو إرادة سيادية غير سيادة الله) كما يختلف النموذجان كذلك، بسبب أن الدولة الحديثة تُنْتِج رعايا يختلفون اختلافًا عميقًا وسياسيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا ومعرفيًا ونفسيًا عمّا ينتجه أي شكل من الحكم الإسلامي. 

خيار حاسم
ويخلص وائل حلاق، بعد حصره هذه التناقضات المتأصلة والجوهرية بين النموذجين، التي تثير في مجملها مشكلة مهمة، حيث تضع المسلمين أمام خيار حاسم، فإما أن يستسلموا للدولة الحديثة أو للعالِم بشرعية «الحكم الإسلامي»، واصفًا الخيار الأول بالأكثر واقعية، والخيار الثاني بالأقل احتمالًا، كما يصف وائل حلاق الافتراض الذي ينطلق منه مفكرو المسلمين القائل بإمكانية تحويل نظام الدولة الحديثة إلى دولة إسلامية «بالافتراض الخاطئ» لأنه يخطئ في الفهم الصحيح لطبيعة الدولة الحديثة وخواص شكلها، وما فيها من عدم التوافق الأخلاقي المتأصل مع أي شكل من أشكال الحكم الإسلامي.
إن للدولة الحديثة خصائص وميزات مختلفة جوهريًا عن نموذج «الحكم الإسلامي» كما عايشه المسلمون لمدة اثني عشرة قرنًا قبل ظهور الاستعمار، ومن ثم يقول المفكر حلاق، «إن مفهوم الدولة لم يعرفه التراث الإسلامي»، ويبرر هذا المعطى في الفصل الثالث بالقول، (لم تكن ثمة دولة إسلامية قط، فالدولة شيء حديث، وعندما أقول» حديث» فأنا لا أشير إلى فترة زمنية معينة، وفي موضع معين من مسار التاريخ الإنساني، فالمقصود «بالحديثة» عندما نصف الدولة بالحديثة أن لها خاصية معينة. يفضل وائل حلاق استعمال تعبير «الحكم الإسلامي» بدل الدولة الإسلامية، لأن المسلمين اليوم، بمن فيهم كبار مفكريهم وعلمائهم قد قبِلوا مبدأ الدولة الحديثة كأمر بَدَهِي وكحقيقة مفروغ منها، كما في «تركيا العلمانية» أو تجربة «الإخوان المسلمين» في مصر في عهد الرئيس محمد مرسي أو الحكومة الملتحية مع حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في المغرب، وحزب «النهضة» في تونس، ويرجع وائل حلاق سبب استحالة تحقق الدولة الإسلامية، إلى أن الدولة الحديثة لا تصلح إطارًا لإقامة الحكم الإسلامي، ومن الخطأ اعتبارها أداة حكم «محايدة» كما تفترض الخطابات الإسلاموية المعاصرة وفي صدارتها خطاب جماعة «الإخوان المسلمين» التي نشأت في العشرينيات من القرن الماضي، ورسمت لنفسها هذا الموقف الملتبس، بأنه لا تعارض بين الدولة المدنية الحديثة والشريعة الإسلامية، مؤكدًا أن «الدولة الإسلامية» كانت وستظل دائمًا حلمًا يراود بعض التنظيمات الإسلاموية، لكنه مقرون بواقع استحالة تطبيقه، وقد زعم الإسلاميون أن أداة الحكم مثل «الدولة الحديثة»، ليست إلا آلة صمّاء أو مجرد وعاء فارغ يتسع لدولتهم الإسلامية، التي ستطبق (القيم والمثاليات المتأصلة في القرآن) كتلك التي حققها الرسول عليه الصلاة والسلام في «دولته الصغيرة»، ونتيجة لذلك يرى وائل حلاق أن مسلمي اليوم سيواجهون تحدي التوفيق بين حقيقتين، الأولى هي الوجود الحقيقي للدولة الحديثة وحضورها القوي الذي لا يمكن إنكاره، والثانية هي الحقيقة «الديونطولوجية» أو (الأخلاقية الواجبة) والمتمثلة في ضرورة استعادة شكل من حكم الشريعة.

نتاج تاريخي
يُعرّف الدكتور وائل حلاق مفهوم الدولة الحديثة بأنه نتاج تاريخي ظهر في ثقافة معينة (هي ثقافة أوربا وأمريكا الشمالية ومَنْبَتُها النهضة الأوربية وعصر الأنوار والثورة الصناعية والعقلانية، وللحضارة الإسلامية مساهمة في ذلك التنوير الأولي) لهذا فإن اللجوء إلى استعمالات مثل «الدولة الإسلامية» ككيان وُجد في التاريخ، ليس انخراطًا في تفكير ينطوي على مفارقة تاريخية فحسب، بل ينطوي كذلك على سوء فهم للاختلافات البنيوية والنوعية بين الدولة الحديثة و«أسلافها» خصوصًا ما سميته الحكم الإسلامي» وإذا كان نموذج «الحكم الإسلامي» كما يجادل الدكتور وائل حلاق مختلفًا جذريًا عن «الدولة الحديثة»، ما يجعل الجَمع بينهما أمرًا مستحيلًا، لأنهما ينتميان إلى عالمين مختلفين ومتغايرين ومتناقضين.

خلفية أكاديمية 
إن الخلفية الأكاديمية للمفكر وائل حلاق بوصفه متخصصًا في الدراسات الفقهية وبعلم الشريعة، تؤهله هذه المعرفة للاطلاع على سياقات نشوء «الدولة الإسلامية وتقويمها في مقارنتها بالدولة الحديثة التي عمت جل الأنظمة الحديثة، إسلامية أو غير إسلامية، كما أن هذه الخلفية الأكاديمية تؤهل وائل حلاق لإجراء بحث مقارن، منطلقًا من الواقع العربي والحضاري الذي يبدو عالقًا في أزمة فكرية عميقة، لا سيما في ما يتعلق بشكل الدولة ومستوياتها المتعددة، فبعد أن قام الاستعمار مع بداية القرن التاسع عشر بتفكيك النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي كانت تنظِمه الشريعة هيكليًا وبنيويًا، مما أدى إلى وجود تَيْه وضلال في العلاقة الناظمة بين هذين المستويين، فالشريعة فقدت دورها لتتحول إلى مصدر لإضفاء الشرعية على نسق الدولة الحديثة التي قبِل المفكرون المسلمون بمفهومها القائم على مركزية المدينة أو القومية، مع الحرص على وجود مرجعية الشريعة. غير أن وائل حلاق، يرى أن هذا المسلك ينطوي على تناقض ذاتي، من منطلق أن المسلمين يعانون من مأزق الحداثة وبحثهم عن حلول أخلاقية لمشكلتهم، لأن الفلسفة الحداثية تفتقر في الأصل لهذا البعد الأخلاقي، ولكونها تتبنى منظورات وآليات تناقض البنية الأخلاقية النموذجية، فالحداثة قائمة على الاستبداد السياسي والاقتصادي والتدبير للمصادر والبيئة.
إن الفكرة المركزية التي يطرحها هذا الكتاب القَيِم، للمفكر وائل حلاق أن «الدولة الإسلامية» مفهوم لا أساس له في التجربة التاريخية الإسلامية، بل هو مفهوم تم إسقاطه على الفكر الإسلامي عن طريق الخطأ، ومن هنا كان عنوان الكتاب «الدولة الإسلامية المستحيلة». ولقد حاجج حلاق ضمن ثنايا الكتاب في ضرورة إعادة النظر بمفهوم الدولة الإسلامية، وسيعمل لهذه الغاية على مُدارسة مفاهيم مثل «الحكامة الإسلامية» و«الخُلُق الإسلامي ص 49» و«الخُلُق القرآني ص88» و«خُلق الشريعة ص10» ويخلص الكاتب إلى (أن مفهوم الدولة الحديثة مناقض تمامًا لأخلاقيات الإسلام، وأنهما منهجان مختلفان في جوهرهما). 
كما يراهن وائل حلاق، في كتابه على البحث عن أخلاق الشريعة واعتبارها نموذجًا ناضجًا كما كان من قبل، لكن ذلك يتطلب من النموذج الإسلامي اليوم إعادة تشكيله من جديد وتقديمه كإضافة لعصر الأنوار الأوربي، وفي الوقت نفسه لتطهير الإسلام من الاتهامات الإسلاموفوبيوية التي ألصقت به كمُسمَى الإرهاب، وذلك لبناء (إنسان القِيَم) Homo-Moralis المُسلم ■