حوريات البحر العاشقات

حوريات البحر العاشقات

خيال الإنسان لا حدود له، لذلك فهو يحلق في آفاق مستحيلة دون عائق، ولا يكتفي بالتفكير في الواقع المحيط. ومن الآفاق المستحيلة التي حلق فيها الخيال الإنساني الخصب أفق العلاقة بين الإنسان والكائنات البحرية، ربما لأنه تواق إلى خلق علاقات جديدة مع كائنات جديدة في عالم خيالي أكثر رحابة من عالمه.

 

تخيّل الإنسان منذ أقدم العصور وجود كائنات بحرية شبيهة به، تعيش وتفكر وتبني المدن والممالك وتتزوج مثلنا، لكنها تفعل كل هذا تحت الماء، كما تخيل أنه يمكن أن تقوم بيننا وبين هذه الكائنات علاقات حب وزواج وتواصل، وسمى هذه الكائنات «حوريات البحر»، أو «جنيات البحر»، وسنستخدم في هذا المقال تعبير «حوريات البحر»، لأننا سنتحدث عن كائنات خيرة وليست شريرة. فقط نشير قبل أن ننطلق في الحديث إلى أن الحورية عادة تكون فتاة نصفها العلوي بشري ونصفها السفلي على شكل سمكة، ولها ذيل.
 
الأصل سوري
عرفت الحضارات القديمة هذا النوع من الكائنات البحرية الخيالية، ويقال إن أول حورية جاء ذكرها في التراث الإنساني هي «أتارجاتيس»، وكان هذا قبل الميلاد بحوالي ألف عام. كانت «أتارجاتيس» إلهة تُعبد في شمال سورية، موطنها منبج الحالية، وقد أحبت هذه الإلهة رجلًا من البشر، لكنها قتلته دون قصد، فقررت أن تعاقب نفسها، وألقت نفسها في البحر، فاتحد البشري مع البحري، وصار نصفها العلوي يمثل امرأة من البشر، ونصفها السفلي يمثل سمكة.

حوريات اليونان
يرى اليونانيون أنهم أصحاب فكرة الحوريات البحرية، وقد عرفت الأساطير اليونانية أسطورة الإله أوقيانوس (أي المحيط)، وزوجته تيثيس، اللذين سكنا البحر، وسيطرا عليه، وكان لهما قصر يليق بهما تحت الماء، ويحرسهما، ويعمل في خدمتهما عدد هائل من الحوريات.
أنجب أوقيانوس وثيتيس ابنة تسمى «دوريس»، تزوجت من أحد سكان المحيط، ويدعى نيريوس، وأنجبا خمسين حورية، انتشرن في البحر المتوسط، وسيطرن عليه.

 جلّنار حورية البحار
لكن أول قصة حب بين حورية ورجل من البشر هي التي وردت في «ألف ليلة وليلة»، باسم «جلّنار بنت البحر»، التي شغلت الليالي من الليلة الثامنة والثلاثين بعد السبعمائة حتى الليلة السادسة والخمسين بعد السبعمائة. 
جاء في ألف ليلة أنه «كان ياما كان، في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك من ملوك العجم يسمى شهرمان. كان هذا الملك يحلم بإنجاب ولد ذكر يرث عرشه بعده، لكنه لم يظفر بهذا الولد. وذات يوم بينما كان في مجلسه، دخل عليه حاجبه، وقال له إن على الباب تاجر ومعه جارية لم يرَ أجمل منها، فأمر الملك بدخولهما، فلما دخلا وجد الملك الفتاة تشبه الرمح في استقامته، ملفوفة في إزار من الحرير موشى بالذهب، فلما كشف التاجر عن وجهها» أضاء المكان من حسنها، وارتخى لها سبع ذوائب (ضفائر) حتى وصلت إلى خلاخلها، وهي بطرف كحيل، وردف ثقيل، وخصر نحيل، تشفي سقام العليل».
أحب الملك الجارية حبًا لا مزيد عليه، لكنه لاحظ أنها لا تتكلم، وحاول أن يخرجها من صمتها بكل الوسائل فلم يتمكن، وصبر عليها لمدة عام، ثم قال لها ذات يوم: «يا مُنية النفوس، إن محبتك عندي عظيمة، وقد هجرت من أجلك جميع جواريّ والسراري والنساء والمحاظي، وجعلتك نصيبي من الدنيا، وقد طولت روحي عليك سنة كاملة، وأسأل الله تعالي من فضله أن يلين قلبك لي فتطمئنيني، وإن كنت خرساء فأعلميني بالإشارة حتي أقطع العشم من كلامك، وأرجو الله سبحانه أن يرزقني منك بولد ذكر يرث ملكي من بعدي... فبالله عليك إن كنتِ تحبينني أن تردي عليّ الجواب».
   هنا فقط انفكت عقدة لسانها، وقالت له إنها حامل منه، وإنها لولا حملها ما ردت عليه كلمة. فرح الملك بأن رزقه الله الولد بعد أن كبر سنه، ويئس من إنجاب ولد يرث عرشه، وأقام الأفراح والليالي الملاح ابتهاجًا بحملها. ومما قالته الجارية للملك إن اسمها جلنار البحرية، وإن أباها كان من ملوك البحر ومات وخلف لهم الملك، لكن أحد الملوك تحرك عليهم، وأخذ الملك من أيديهم، فتفرقت بها وبإخوتها السبل، وتنازعت هي وشقيقها المسمى صالح، وهو رجل صالح، لولا أن الخلاف طبع في المخلوقات، فأقسمت أن تلقي بنفسها عند رجل من أهل البر، فخرجت من البحر، وجلست على طرف جزيرة حتى مر بها رجل فأخذها، وذهب إلى منزله، وراودها عن نفسها فضربته حتى كاد أن يموت، فخرج بها وباعها للرجل الذي جاءه بها، ولولا أنها وجدت قلبه الملكي أحبها، وفضلها على جميع نسائه ما باحت له بسرها».
يهمنا هنا ما قالته جلّنار لزوجها عن طريقة حياتهم في البحر، لأنه يقدم لنا فكرة عن تصور الناس في ذاك الوقت لأهل البحر، الذين صنعوهم بخيالهم. قالت: «اعلم يا ملك الزمان أننا نسير في البحر وأعيننا مفتوحة، وننظر ما فيه، وننظر للشمس والقمر والنجوم والسماء، كأنها على وجه الأرض، ولا يضرنا ذلك».
اقترب موعد الولادة، فقالت له إن أهل البَر لا يعرفون شيئًا عن ولادة أهل البحر، وطلبت منه أن تتصل بأهلها ليحضروا إليها، فوافق، وجاء الأهل، وعلى رأسهم أخوها صالح، وأمها، وبنات عمومتها، ولم تلبث أن ولدت ذكرًا، ففرح به الملك فرحًا لا حدود له، وأقام الأفراح وعلق الزينات.
سموا المولود «بدر باسم»، وأخذه خاله إلى أعماق البحر، وكحّله بكحل مخصوص عندهم، وقرأ عليه الأسماء المكتوبة على خاتم سليمان، فصار لا يُخشى عليه من الغرق أو الاختناق إذا نزل إلى البحر.
أحبّت جلنار زوجها حبًا عظيمًا، وأحبّت ولدها، وربته تربية حسنة، ولما صار في سن النضج تنازل له والده عن العرش، ثم مات والده وتولى هو الحكم، وهنا ننتقل إلى الجزء الثاني من قصتنا، فإذا كانت جلّنار في الجزء السابق انتقلت من البحر إلى البر، فإن بدر باسم في الجزء الثاني هو الذي سينتقل من البر إلى البحر، ويخوض مغامرات شديدة، قبل أن يعود مرة أخرى إلى ملكه. ذلك أن بطلنا لما صار في سن الزواج، تعلّق قلبه بالأميرة جوهرة بنت الملك السمندل، وهو ملك عظيم من ملوك البحر. تعلق قلبه بها دون أن يراها، لما سمعه عن جمالها وصفاتها، فقرر أن يذهب إلى أبيها مع خاله ليخطبها منه.
كان والدها رجلًا مغرورًا بقوته، مشهورًا بالحمق. ذهب إليه بدر باسم مع خاله للخطبة لكنه تعالى عليهما، فقال له صالح غاضبًا: «إن زعمت أنك ملك عظيم، فالملك بدر باسم منك أعظم، وإن ادّعيت أن بنتك جميلة، فالملك بدر باسم أجمل منها وأحسن صورة وأفضل حسبًا ونسبًا، فإنه فارس زمانه».
انفعل الملك السمندل، وقال له: «يا كلب الرجال، هل مثلك يخاطبني بهذا الكلام، وتذكر ابنتي في المجالس، وتقول إن ابن أختك جلّنار كفؤ لها، فمن هو أنت؟ ومن هي أختك؟ ومن هو ابنها؟ ومن هو أبوه حتى تقول لي هذا الكلام، وتخاطبني بهذا الخطاب؟ فهل أنتم إلا كلاب؟».
أمر الملك بقطع رأس صالح، الذي فرَّ هاربًا، ليجد خارج القصر ألف جندي أرسلتهم له أمه لعلمها بحمق الملك السمندل. قاتل صالح رجال السمندل. هزمهم. اقتحم القصر. عزله عن الحكم وتولى المملكة بدلًا منه.
غضبت الأميرة جوهرة على بدر باسم، وكانت ساحرة عليمة بفنون السحر، فسحرته طائرًا، وأخذته جارية لها إلى إحدى الجزر، حتى جاء صياد يبحث عن رزقه، فرآه، فأعجب بشكله الجميل، فاصطاده، وأهداه لأحد الملوك.
أعجب به الملك، واندهش عندما وجده لا يأكل مثل الطيور، بل يأكل اللحم والخضراوات والفاكهة، وأرسل في طلب زوجته لترى هذا الطائر العجيب. كانت زوجة الملك ساحرة، فلما رأته غطت وجهها وغادرت الحجرة، وعاتبت زوجها لأنه كشفها على رجل مثله. اندهش الملك من حديث زوجته، وسألها: كيف هذا؟ فأوضحت له إن هذا هو الملك بدر باسم وقد سحرته الأميرة جوهرة بنت الملك السمندل، فرجاها الملك أن تعيده إلى هيئته الأولى، فأعادته، وصار بشرًا معًا. وأعطاه الملك سفينة وعددًا من العبيد وسمح له بالعودة إلى مملكته. سارت السفينة عشرة أيام في ريح مواتية، لكن فجأة انقلبت الريح، وصارت ريحًا صرصرًا عاتية، فاصطدمت السفينة بصخرة، ومات كل مَن فيها ولم ينج منهم سوى بدر باسم، فتعلّق بلوح خشبي، وسارت به الأمواج ثلاثة أيام قبل أن تلقي به إلى شاطئ جزيرة جديدة.
كانت الجزيرة الجديدة هي جزيرة السحرة، وكانت ملكتها امرأة شهوانية، ساحرة غادرة، تأخذ الشباب الغرباء إلى مخدعها، تعيش مع كل منهم أربعين ليلة، ثم تسحره حمارًا أو حصانًا أو بغلًا. لولا أن قيَّض الله لبدر باسم رجلًا ساحرًا ساعده على النجاة من سحرها، بل مكّنه من أن يسحرها بغلة، ويركبها ويسير بها مبتعدًا عن الجزيرة الغريبة.
وصل مملكة أخرى وهو يركب بغلته، لكنَّ امرأة عجوزًا تحايلت عليه ليبيع لها البغلة، ثم اتضح أن هذه المرأة العجوز هي أم الملكة الساحرة، وأعادتها لصورتها الأولى، ثم قامت هي بسحره، وتنتهي القصة بأن تعرف أمه وجدته أن الملكة الساحرة سحرته، فتذهبان إليه، وتفكان السحر، ويعود بدر باسم مع أمه وجدته لمملكته، ويطلب منهما أن يتزوج، فترسلان الجن من أتباعهما للبحث عن عروس له، لكنه يصر على الزواج بجوهرة، فترسلان في طلب الملك السمندل، والد جوهرة، ويتصالحان معه، ويخطبان ابنته جوهرة فيوافق، ويرسل لها فتأتي، ويتم الزواج، وتنتهي قصتنا بالنهاية السعيدة.
نلاحظ في القصة ما يأتي:
-1 المبالغة الشديدة: فبدر باسم - مثلًا - يسمع أمه تتحدث عن جوهرة مع خاله فيحبها دون أن يراها، ويقول إنه سيموت لو لم يتزوجها. 
-2 كثرة السحر والسحرة: فجوهرة ساحرة، وملكة الجزيرة ساحرة، والرجل الطيب الذي ينجّيه منها ساحر، وزوجة الملك التي تكتشف أنه مسحور ساحرة، وأمه ساحرة، وكذلك جدته. والسحر يسخّر الجان، ويغير الهيئة البشرية والحيوانية.
-3 الجمع بين الشعر والنثر: ففي كل المواقف نرى الراوي يستشهد بالشعر، أو يورده على لسان أبطاله، أو في وصف حالهم.
والعلاقة بين البشر وأهل البحر لا تتوقف عند حوريات البحر والرجال من بني الإنسان فقط، بل نرى علاقات أخرى عادية كثيرة في ألف ليلة، مثل عبدالله البري وعبدالله البحري، وغيرها.
 
«أوندين»
وحوريات البحر غير قاصرات على ألف ليلة وليلة، بل هنّ موجودات في التراث الأوربي أيضًا، ومن أشهر أساطير الحوريات الأوربية أسطورة تسمى «أوندين»، أي الموجية، أو بنت الموج. 
تروي الأسطورة أن رجلًا صيادًا وزوجته كانا يعيشان بجوار البحر، أنجبا بنتًا، لكن البحر أخذها بطريقة غريبة. حزنا عليها، بكيا طويلًا، لكن الموج قذف إليهما ذات يوم بطفلة أخرى، هي أوندين، عوضًا عن بنتهما، فقاما بتربيتها، حتى كبرت وصارت شابة.
كانت أوندين تتمتع بالحياة الدائمة، ولن تفقد هذه الحياة إلا في حالة واحدة: أن تحب رجلًا من البشر، لكنها رغم هذا حلمت أن تجد هذا الرجل وتحبه، لكي تكتسب الطبيعة البشرية، فالبشر هم المخلوقات الوحيدة التي تعرف المشاعر الإنسانية، مثل السعادة والفرح والحزن والألم. وذات يوم تلتقي بفارس ضلَّ طريقه في الغابة، هذا الفارس هو: هولدبراند، وهو شاب شجاع وسيم نبيل، فتحبه أوندين، رغم علمها أن الحب هو نقطة ضعفها، وأنها يوم تحب بشريًا ستصير مثل بقية البشر الفانين.
تمضي بطلتنا مع حبيبها نحو قصره، وهنا يظهر عمها الشرير «كوهلبورن»، وهو ساحر لديه القدرة على تغيير هيئته إلى أي هيئة أخرى، كما رأينا من قبل، عند سحرة ألف ليلة وليلة. يدبّر لها عمها المكائد، وتتحالف معه مخلوقات البحر التي حقدت على أوندين لأنها وجدت الفارس الذي يحبها، وراحت تنعم معه بالحب.
يصل أخيرًا هولدبراند وأوندين إلى قصره. يعيشان في تبات ونبات، حتى تأتي إليهما فتاة تسمى برتالدا. وبرتالدا هذه هي البنت التي ربَّاها والد أوندين وأمها الحقيقيان من أبناء البحر، وسنعرف بعد هذا أنها ابنة الصياد التي أخذها البحر ذات يوم بطريقة غامضة. المهم أن برتالدا تتقرّب من هولدبراند حبيب أوندين، وتنجح في الوصول إلى قلبه. 
يأتي سادة المياه إلى أوندين حين يعلمون أنها شقيّة بخيانة زوجها لها، ويأخذونها معهم. ويخبرها كوهلبورن أنه هو الذي خطف برتالدا من أبويها، وأنها بشرية الأصل، كما نعرف أن قانون الطبيعة بالنسبة لزوج أوندين هو الموت في اللحظة التي يخونها فيها.
تعوّد أوندين لزوجها يوم عرسه على برتالدا، حين يراها يشعر بالحنين إليها، يجري إلى حضنها. تحتضنه، فيتجمّد في حضنها، ويموت، وتجري دموع أوندين على حبيبها، فتصير نهرًا.
ويتبقى من أوندين في التصور الأوربي مرضًا يسمونه «لعنة أوندين»، وهو عبارة عن خلل في التنفس أثناء النوم، يسبب اختناقًا، وقد يموت من صاحبه ما لم يتم إسعافه.
وقد تناول الكاتب الألماني فردريك دي لاموت فوكيه هذه القصة في رواية تعتبر من روائع الأدب الرومانسي، كما تناولها الكاتب الفرنسي جان جيرودو في مسرحية بالاسم نفسه.
 
القصة لم تنته
قصة حوريات البحر لم تنته، ولا يزال خيال الأدباء والشعراء يتناولها في أعمال فنية، ربما كان آخرهم هو الشاعر صلاح عبدالصبور في مسرحيته «بعد أن يموت الملك»، حيث نجد أن الملكة بنت النهر، وأن الملك أخذها ووعدها أن يدفع لها مملكة مهرًا، وحين يموت الملك تمضي مرة أخرى للنهر، لولا أن الشاعر الذي كان يحبها يمضي خلفها، ويحارب من أجلها.
وأظن أن الخيال الفني لن يتوقف عن خلق المزيد من الأعمال الفنية حول الحوريات، لأن الإنسان الذي يتخيّل الآن علاقة مع مخلوقات فضائية لن يتراجع عن توسيع عالمه وتخيل علاقة بين البشر والمخلوقات البحرية ■