من المكتبة العربية: نقد ثقافة التخلف

 من المكتبة العربية: نقد ثقافة التخلف
        

          للدكتور جابر عصفور إسهامات نقدية معروفة، فهو أحد كبار النقاد العرب في زماننا. ولكنه منوّر كبير أيضًا، استنادًا إلى عدد وافر من الكتب التي تحض على العقلانية والاستنارة والديمقراطية وقبول الآخر.

          من هذه الكتب «هوامش على دفتر التنوير»، و«أنوار العقل»، و«آفاق العصر»، و«مواجهة الإرهاب». ومن أحدثها «نقد ثقافة التخلف»، وهي ثقافة تضرب بجذورها في تراث السلف وما يحمله هذا التراث من جوانب سلبية لاتزال، إلى اليوم، تؤثر أيما تأثير في الوعي واللاوعي الجمعي، وتعيق مسيرة مجتمعاتنا نحو الحضارة الحديثة. وقد ذكر د.جابر عصفور في مقدمة كتابه أن الخاصية الأولى لثقافة التخلف تتمثل في انكفائها على ماض متخيّل تتهوّس به، ولا تكفّ عن استعادته، محاكاة وتقليدًا واتباعًا، وتبالغ في تقديسه بما يجعل منه إطارًا مرجعيًا في كل شيء قائم، وكل شيء قادم. وعندها يغدو هذا الماضي معيار القيمة الموجبة لما يمكن أن يحدث في الحاضر والمستقبل. بل إن المستقبل نفسه يغدو صورة لهذا الماضي الذي يستدير إليه الزمن في تعاقبه الذي يعود دائما إلى نقطة البدء المتقدمة في الوجود والرتبة.

          والواقع أن من يقرأ «نقد ثقافة التخلف» يعثر على الكثير من الأسباب التي تعيق نهضتنا وتقدمنا، وتمنع مواجهتنا لقضايا العصر ومشكلاته مواجهة حرة طلقة. ولا يترك هذا الكتاب وجهًا من وجوه قصورنا وتخلفنا سواء في الماضي أو الحاضر إلا ويعرض له، وكل هذا يجعل من الكتاب مرجعًا لا غنى عنه للباحث والمصلح على السواء. ويزيد في أهميته إحاطته الشاملة لما يتصدى له. فهو يتحدث عن «الأنوثة المقموعة»، و«ثقافة الاتباع»، و«التهوّس بالماضي»، و«العداء للآخر»، و«السلاطين»، و«خطاب العنف»، و«العداء للفنون»، و«مخاطر الدولة الدينية»، وفي هذا الفصل الأخير مناقشة مع شيخ الجامع الأزهر، وكله فصول تقع في صميم ما ينبغي أن تعرض له المجتمعات وهي تعبر من الماضي إلى المستقبل.

النزعة الماضوية

          بوجه عام ليس الماضي بالنسبة للكثيرين منا سوى معتقل لا يختلف عن أي معتقل. يلاحظ المؤلف أن النزعة الماضوية هي من أهم المكونات التي ينبني عليها الفكر الاتباعي والثقافة الاتباعية، ومن أهم الخصائص التي يتأسس بها خطاب التعصب ويعتمد عليها. وهي جزء لا يتجزأ من خطاب الإرهاب المتوعد في أصوله الفكرية وممارسات خطابه التي تميل إلى العنف والتدمير، خصوصًا بما تنطوي عليه من استئصال المختلف وإقصاء المغاير.

          في «لسان العرب» أن «الحَدث» هو الأمر المنكر الذي ليس معتادًا ولا معروفًا، وهو قرين البدعة التي تقترن بالضلالة الدينية بكل أحوالها، ومن ثم بالنار. إنها تخالف الشريعة التي لابد من إيقاع الاتحاد بينها وبين السلف تقديسًا لمبدأ الاتباع الذي يقول عنه ابن قتيبة في القرن الثالث للهجرة: «قِف حيث وقف القوم، وقُلْ بما قالوا، وكفّ عما كفّوا». وقد كان جمهور السلف يكرهون المخالفة بوجه عام، وينفرون من الجديد، والتغيّر، وذلك بكل ما يقترنان به من عمليات تحديث أو تطوير أو تغيير أو حتى إصلاح. «فالأصل هو الوضع الثابت المجمع عليه، خصوصًا في اقترانه بأنساق ثبتت فجمدت، وأعراف استقرّت فتكلست، وعادات اتُبعت إلى أن تحجّرت».

          وقد وصل العداء للجديد إلى العداء للعقل بوجه عام، خصوصًا إذا كان جذريًا في مساءلته، جسورًا في تحدياته، ميالاً إلى الابتداع. ولذلك أصبح حق الاختلاف قرين المعصية الفكرية والضلالة التي تفضي إلى النار وتستحق العقاب والتنكيل. وكانت النتيجة شيوع الشعار القمعي: «مَن تمنطق تزندق»، وسجن الحداثة الأدبية والفنية في معنى منفّر.

          وساد النقل، أي الأخذ عن السابقين، والتعويل على نصوصهم، والاستناد بوجه عام إلى النصوص القديمة السابقة في الوجود والرتبة، والنظر إلى هذه النصوص بوصفها مبتدى العلم ومنتهاه. ونتج عن ذلك إغلاق باب الاجتهاد خصوصًا بعد أن ترسخ الاعتقاد بأن أحاديث السلف وآثارهم وكتاباتهم تكفي لمواجهة أي مشكل طارئ، أيًا كان نوع هذا المشكل أو أيًا كان مجاله.

          ونال الفلسفة نصيب وافر من الاضطهاد، وقد ازداد حال قمع «الآخر» الفكري قتامة بعد نشر أبو حامد الغزالي كتابه «تهافت الفلاسفة» الذي كان علامة على انكسار شوكة التفكير العقلاني في مركز الدولة الإسلامية، وهجرته إلى الأطراف النائية كي يستعيد عافيته وحيويته.

          وإذا كانت الفلسفة أسّ السفه والانحلال، فإن المنطق هو مدخلها، ومدخل الشرّ شرّ. ولكن لحسن الحظ لم تنتصر النزعات الاتباعية الجامدة على طول الخط في مجالات الحضارة العربية الإسلامية عبر أقطارها وعصورها المختلفة ولم تسُدْ إلا في عصور الانحدار والهزائم.

          أما قبل ذلك، وفي الهوامش التي لم تكفّ عن التمرد على تسلطية هذه النزعات، ومع إشعاعات التيار الإنساني العقلاني التي لم تنقطع، كان التمسك بالعقل إعلاءً من شأن الحضور الإنساني، ودفاعًا عن حق الاختلاف، كما كانت الدعوة إلى الاجتهاد دعوة إلى معرفة الآخر والتفاعل معه أو الحوار مع ثقافاته.

          ولكن هذا «الآخر» كثيرًا ما ظفر في ثقافتنا القديمة بقسط وافر من العداء، وما يستتبع ذلك من الريبة في المغايرة والتنوع والعداء للاختلاف في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والاعتقادية. وهي نزعة غالبة في الثقافة السائدة. و«الآخر» هنا ليس الأجنبي دائمًا، إذ يمكن أن يكون المختلف في المجتمع نفسه سواء من حيث العقيدة أو اللون أو المذهب السياسي أو الطائفة أو حتى النوع.

          يقول المؤلف: «أتصوّر أن المساءلات الجديدة كالأسئلة المراوغة كانت مصدر إقلاق للذهن العربي التقليدي الذي استقرّ على ما هو عليه، خصوصا أن هذا الذهن لم يكن قد اعتاد على الأسئلة الصعبة الجسورة، ووجد في الاحتمالات التي تفتحها الإجابات، أو تناوشها الأسئلة، مصدرًا للقلق والحيرة، وباعثًا على إعادة التفكير في ما استقر عليه السلف، وهو أمر أربك النسق الفكري القائم، ودفع إلى نوع من المقاومة أو الاستجابة السلبية.

          وكانت هذه المقاومة كالاستجابات السلبية بمنزلة آلية دفاعية تحفظ على الأنساق الفكرية المتوارثة ثباتها، وتبقي الأنظمة الملازمة لها على حالها، فتصون للذهن عالمه الذي ألفه وحقق مصالحه وظل يجد فيه مراحه النفسي والعقلي».

نزعة الاستغناء عن الآخر

          وإلى اليوم، لاتزال نزعة «الاستغناء عن الآخر» نزعة سائدة في فكرنا ومجتمعاتنا وهي نزعة عربية قديمة استغنت بعلوم العرب وأشعارهم عن علوم الأوائل أو علوم العجم وإبداعاتهم. وانتصار السيرافي للنحو العربي الذي يستغني به عالمه عن «منطق اليونان» هو الوجه الآخر من اكتفاء المتأدبين العرب بالشعر وعدم تطلعهم إلى أي شعر غيره. ومن الطريف الإشارة إلى أن أحد الكتّاب القدماء ألف كتابًا عنوانه: «مضاهاة أمثال كليلة ودمنة بما أشبهها من أشعار العرب». وغاية الكتاب رسالة تقول للقارئ: «ما تكاد توجد حكمة تؤثر، ولا قول يسطّر، ولا معنى يُجبر، إلا وللعرب مثل معانيه، محصورًا بقوافيه، موجزًا في لفظه، مختصرًا في نظمه، مخترعًا لها، ومنسوبًا إليها».

          وقد قُمع الآخر المختلف في الماضي كما يُقمع اليوم. وكثيرة هي الأمثلة على ضيق صدر الأقدمين بالمختلفين معهم وقمعهم. يقول الدكتور جابر عصفور: نحن نعرف مثلا ما فعلته خلافة أبي العباس السفّاح بخصومها، وما فعله عهد المنصور بأمثال أبي حنيفة النعمان وابن المقفع الكاتب وسديف الشاعر من جلد وسجن للأول وقتل للثاني والثالث. ونعرف ما حدث من قتل بشار بن برد وحماد عجرد وسجن لأبي العتاهية في خلافة المهدي، وتعذيب أبي الفضل البلخي وسجن ذي النون المصري المتصوف واضطهاد المعتزلة ومطاردتهم منذ عهد المتوكل، والتمثيل بجثة الحلاج بعد قتله عام 309هـ. والقائمة طويلة وهي تكشف السياقات التي كان يتحرك داخلها حاملو الأفكار «الأخرى» المختلفة من الشعراء والكتّاب والمتفلسفة والمتصوفة، فلا تعايش مع المختلف بل قمع له.

          ولا شك أن الخوف من «الجديد» هو وراء اضطهاده. إن العلم النافع هو التقيّد بالمأثور والأخذ عن السلف والتقليد في كل علم. ولكن آخرين رفضوا هذا المنهج ومنهم شيخ الإسلام الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ. فمما ذكره في كتابه «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع»: «إن الله - وله المنّة - قد تفضّل على الخلف كما تفضّل على السلف بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية، على اختلاف أنواعها، من يقلّ نظيره من أهل العصور المتقدمة به».

          لذلك يقول المؤلف إن ازدهار الإبداع العربي، سواء في النثر والشعر، كان موازيًا لازدهار الفكر العربي والتيارات العقلانية والنزعات التجريبية، كما كان انحداره موازيًا لانحدار هذه التيارات والنزعات التي تجاوبت معه في الحيوية، كما تجاوب معها في الجمود والتقليد الجامد الذي أحال الابتكار الشعري إلى عقم كامل.

التمييز ضد المرأة

          وقد أصاب المرأة العربية في ثقافة التخلف، قديما وحديثا، أذى كثير، تغدو المرأة في هذه الثقافة الشائعة عورة، ناقصة عقل ودين، مصدر الغاية والفتنة التي يستفاد منها، والتي لا يفارقها سوء الظن بها. ولذلك نقرأ في المعاجم العربية القديمة أن الأفن هو النقص الملازم للنساء، ويستدل عليه بقول منسوب إلى علي رضي الله عنه: «إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن»، والأفن، بالتحريك، ضعف الرأي والحمق. ومن اللافت للانتباه أنه لا يوجد كتاب موسوعي من كتب التراث إلا ويحكي عن مواقف، ويروي أقوالا، تنطلق كلها بتجذر التمييز ضد المرأة في ثقافتنا التي لايزال يغلب عليها الاتباع والتراتب الذي يمايز بين الرجل والمرأة على الإطلاق، في العلم والأدب والفكر.

          ويرتبط بذلك ما نزال نراه من سوء ظن بالمرأة وتمييز واقع ضدها، ربما لا نجد أكثر منه في كتب التراث التي غلب عليها الاتباع، وأفردت فصولاً عديدة لتأكيد صور هذا التمييز الذي تسابق القدماء في التأليف فيه وذلك من مثل كتاب: «ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار». وعنوان الكتاب يدل على ما فيه. وتزودنا الكتب الموسوعية في التراث بمادة غزيرة تنطق بازدراء المرأة وهي مادة تدل على غيرها الذي ينطق وعيًا معاديًا للمرأة، في سياق متصاعد، ينتهي بتحريم الكتابة عن المرأة، وذم الكتابة إذا تولاها النساء.

          ولا يعني نفي الرأي عن المرأة - يضيف د.جابر - سوى نفي العقل الذي تؤكده مرويّات كثيرة منها ما ينسب إلى حكماء يقولون: «النساء شرّ كلّهنّ»، «لا تثق بامرأة»، «من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه»، «ذلّ من أسند أمره إلى امرأة»، «من اقتراب الساعة طاعة النساء»، «لا تطلعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال»، «اعصِ النساء وهواك وافعل ما شئت»، «كرامة النساء دفنهن».. فكيف يمكن، والأمر كذلك، أن تنزل الأنثى منزلة الذكر في الإبداع أو أن تقع تسوية بينها وبين الذكر، وهي على ما هي عليه في ميراث يقمع حضورها؟

          لقد ذهب الفخر الرازي إلى أن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى، والأفضل الأكمل تقدّم على الأخسّ الأرذل.

          قد نقرأ عن شاعرات في الجاهلية والإسلام، ولكن ما هو عدد شاعرات العرب بالقياس إلى عدد الشعراء؟ وكم ديوانًا وصلنا من شعرهن بالقياس إلى الرجل الشاعر؟ وما القيمة التي خصّ بها أبو الفرج الأصبهاني «الإماء الشواعر» بالقياس إلى الحرائر أو الأحرار من الشاعرات والشعراء،خاصة في تقاليد أدبية انطوت على ما يؤكد أن الشعر بدئ بأحد ذكور السادة وختم بمثيل له من الطبقة نفسها فقيل بُدء الشعر بملك وختم بملك، لأن الكلام الصادر عن الأعيان والصدور أقر للعيون وأشفى للصدور.

          فشرف القلائد بمن قلّدها، كما أن شرف العقائل بمن ولّدها، في ما ذكر الحصري القيرواني في كتابه «زهر الآداب وثمر الألباب» الذي تمثل فيه بقول الشاعر:

          وخير الشعر أكرمه رجالاً
                                        وشرّ الشعر ما قال العبيدُ!

          تأكيدًا للتراتب الاجتماعي الذي وصل التحيز للذكر بنبذ العوام كالأذناب.

مايحول بين المرأة والكتابة

          وليس من الغريب أن نقرأ في التراث من الأخبار والمرويات ما يحول بين المرأة والكتابة، أو يحرم الأنثى حقها في تعلّم الأبجدية، فضلا عن الإبداع بها. وقد ذهب أبوبكر الصولي في كتابه «أدب الكتّاب» إلى الدرجة التي نفى معها إمكان الحضور النسائي في الكتابة، فقال إن أهل النبل من الناس وذوي الرأي منهم يكرهون تعليم الخط للنساء، وينهون عن دخولهن إلى عالم الكتابة، مستندًا في ذلك إلى ما جاء عن ابن عباس من أنه قال: «لا تسكنوا النساء العلالي ولا تعلّموهن الكتابة»!

          إن ثقافة التخلف ثقافة شائعة بل مهيمنة في تراثنا القديم والمشكلة هي أن هذه الثقافة لاتزال تفعل فعلها في حاضرنا فترخي بثقلها ونفوذها على حياتنا الفكرية والاجتماعية.

          ألا نزال إلى اليوم ننظر أو ينظر أكثرنا إلى أن الناس مازالوا بخير إذا ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا، وأن الأقدم سابق في الوجود والرتبة وأن المتأخر لن يلحق به، وأن العلم النافع هو التقيد بالمأثور، إلى ما هنالك من الثقافات التي يعاد إنتاجها والعمل بها إلى اليوم. ولم يبالغ الدكتور جابر عصفور عندما قال في الكتاب إنه لا قيمة إيجابية لأي جديد إلا بمقدار تشابهه مع مثيل له في القديم.

          فالقديم يغدو، وفي كل مجال، حضورًا متجددًا، سابقًا أبدًا في الحضور والرتبة، وينتج عن ذلك تكرار الأصول المتوارثة، والتقبل المذعن لها، دون شك أو مساءلة أو إعادة اجتهاد، فما قاله القدماء أصول لا تقبل النقض أو المساءلة.

          يعلن «نقد ثقافة التخلف» نوعًا من ثورة ثقافية على هذه الثقافة المتخلفة التي تعيق اتصالنا بالعصر والحياة وتحول بيننا وبين النظر العقلي والنقدي.

 

 

 

تأليف: د. جابر عصفور