ثنائية الموقف السوفييتي للوظيفة الصهيونية المبكّرة

ثنائية الموقف السوفييتي للوظيفة الصهيونية المبكّرة

 بدأت المسألة الفلسطينية تظهر على الأجندة الروسية فور تسلم البلاشفة السلطة عام 1917، وقد واجهتهم حينها مشكلتان مرتبطتان بهذه المسألة، المشكلة الأولى كانت تدور حول موقف البلاشفة من مخططات الإمبريالية البريطانية لاحتلال فلسطين بهدف إنشاء وطن قومي لليـهود فـيـها. أما المشكلة الثانية فقد كانت متعلقة بالتداعيات  السلبية التي بات من المتوقع أن يتسبب فيها وعد بلفور من خلال تأجيج طموحات الأقلية اليهودية في روسيا ويحفزها للتكتل ورفض الاندماج في المجتمع الروسي والانخراط في سلك المعارضة المكشوفة للنوايا البلشفية. 

 

نظر البلاشفة إلى وعد بلفور على أنه عمل عدائي أصدره الإنجليز بهدف جعل الصهيونية أحد فروع الثورة المضادة المتحالفة مع الإمبريالية البريطانية والمعادية للاتحاد السوفييتي. وقد أثار صدور هذا الوعد الكثير من القلق لدى البلاشفة، إذ أدركوا خطورة  مضامينه الموجهة لليهود الروس بهدف كسبهم إلى جانب التحالف الصهيوني الإمبريالي في وقت كان البلاشفة فيه مشغولين بالوضع المضطرب الذي تلا قيام الثورة الروسية، خاصة في أعقاب اندلاع المظاهرات في سان بطرسبرغ وأوديسة وظهور المقالات المؤيدة لبريطانيا في الصحف اليهودية والنداءات المتواصلة بين يهود روسيا لمعارضة نظام الحكم البلشفي ومقاومته.
 لقد أدرك البلاشفة أن تنامي قوة الصهيونية بين اليهود الروس وتصاعد تأييدهم القوي لها والذي صاحب الإعلان عن وعد بلفور جاء نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت تعيشها روسيا خلال الحرب، وأدركوا أنه بسبب هذه الصعوبات المتزايدة في البلاد فإن ازدياد النشاط الصهيوني بين اليهود الروس واشتداد هجراتهم إلى الخارج أدى إلى تصاعد القلق لدى البلاشفة من أن ينتهي المطاف بهؤلاء المهاجرين إلى الانضمام إلى المعسكر الإمبريالي المعادي لروسيا.  وإزاء ذلك دعا العديد من قادة البلاشفة أمثال بليخانوف ومارتوف وتروتسكي إلى الحد من هجرات اليهود خارج روسيا لا سيما إلى فلسطين، والقيام باجتذابهم والعمل على دمجهم بالمجتمعات الروسية وإغرائهم بالحصول على الحقوق المدنية الكاملة بدعوى أن روسيا بأمس الحاجة إلى المهارات التي كان يتمتع بـها الـعديد من أفراد النخب اليهودية في مختلف المجالات لا سيما في مجال التعليم والصيرفة والتجارة والشؤون الخارجية.

لينين والمسألة اليهودية
 إلا أن لينين، زعيم الثورة البلشفية اتخذ موقفًا أكثر مرونة تجاه المسألة اليهودية، فقد استوعب من جهته الفكرة التي طرحها بوروخوف حول ظروف الوضع الاجتماعي لليهود الروس والتي أدت إلى قيام هجرات عفوية مبكرة وبالذات إلى فلسطين وكان غالبيتها من الشباب الباحثين عن فرص عمل تؤمّن لهم حياة أفضل. وقد رأى لينين أنه من المأمول أن يتمكن هؤلاء المهاجرون الشباب من خلق «قوى منتجة» ترسي دعائم اقتصاد يهودي يمهّد السبيل إلى صراع طبقي يؤدي في النهاية إلى خلق كيان اشتراكي يهودي في فلسطين. 
لذا فإن الرد على التساؤل الذي يبرز حول السر في عدم اعتراض لينين على مبدأ هجرات اليهود الروس إلى فلسطين في هذه المرحلة المبكرة يعود إلى قناعته بأنه ما دامت هناك هجرات يهودية من «أرض الشتات»، فالأفضل والأجدى أن يشارك فيها اليهود ذوو الميول الاشتراكية المنحدرون من أصول روسية أو أوربية شرقية للتصدي للصراع ضد ما كان يطلق عليه «الاستبداد الشرقي»، وهذا التساؤل يجب ألا يوضع ضمن سياق دعم لينين لتكوين كيان يهودي مستقل في فلسطين بل ضمن سياق النهج الثوري، أي إمكانية أن يؤدي تزايد الهجرات اليهودية إلى فلسطين إلى قيام ثورة نتيجة هذا التزايد وهذه النوعية من المهاجرين رافضًا فكرة حركة البوند القائلة بأن الثورة يجب أن تقوم على صراع من أجل المساواة القومية.  لكن لينين أشار إلى أن فكرة المساواة القومية يجب أن ترفد الصراع الطبقي الذي هو أساس الثورة،  لذلك فإنه رفض الصهيونية من ناحية سياسية لأنها تمثل الانفصالية «القومية» وكحركة «قومية» - على حد تعبيره - سوف تعيق التقدم نحو الثورة ومواصلة إنجازاتها، ولم يعارض لينين الصهيونية بسبب أصلها البرجوازي، بل لأنها أصرّت على هدفها في إيجاد حل للمشكلة اليهودية من  دون  أن تتحول إلى حركة تتجاوز الأطر القومية لتصبح حركة أممية أو عالمية.
وقد أدى اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى تولد قناعة لدى لينين وغيره من القيادات البلشفية في روسيا بأن بمقدور المهاجرين اليهود في فلسطين خلق الظروف المؤدية إلى نمو وتطور الرأسمالية ضمن الزراعة المحلية، لا سيما أنهم نجحوا في إقامة منشآت زراعية على نطاق واسع ما أدى في النهاية إلى زيادة عدد المستخدمين الريفيين (الفلاحين) من بين يهود الأقطار العربية إضافة إلى السكان العرب المحليين، لذا فإن مؤشرات المواجهات الاجتماعية - في نظر لينين - بدأت تشتد وتتزايد حدتها.

البلاشفة وصراع طبقي بفلسطين
أما بالنسبة للصناعة المحلية فقد كانت موضع جدل لأن الصناعة لم تكن قد أحرزت بعد أهمية مشابهة لتلك التي حققتها الزراعة، وذلك لصعوبة الظروف الجغرافية والاقتصادية في فلسطين وافتقارها إلى الموارد المحلية واعتمادها على المعونات الخارجية والاستثمارات الأجنبية المحدودة. وقد رأى البلاشفة في الريف قاعدة اجتماعية اقتصادية لمستقبل الثورة في فلسطين لأن لديها فرصًا أكثر لتطوير صراع طبقي نابع من الاستغلال المباشر للعمالة اليهودية والعربية من جانب البرجوازيين اليهود والإقطاعيين العرب. 
وهكذا اعتقد البلاشفة أن هناك فرصًا متاحة لتحالف العمال والفلاحين في ثورة مستقبلية في بلد كفلسطين يعيش أهلها ظروفًا اقتصادية واجتماعية بائسة، كما اعتبروا العمال الزراعيين فيها عناصر ملائمة للثورة لا سيما أنهم كانوا من العمال المأجورين ذوي الدخل المتدني والمعرضين للاستغلال والاضطهاد.  وقد كتب لينين في هذا الصدد يقول: «إن الثوريين في فلسطين يجب ألا يفصلوا أنفسهم عن العمال والفلاحين في الأقطار العربية المجاورة لها، بل بالعكس يجب أن يكونوا حلفاء  لهم، إذ إن أي اضطرابات في فلسطين لا يمكن أن تتم بمعزل عن هذه الأقطار». وهكذا تحدث لينين عن أهمية الثورة في فلسطين ليس ضمن سياق البدء في تفجير ثورة مستقبلية في الغرب بل البدء في تفجيرها في الشرق، وقد تولدت لدى البلاشفة قناعة بقدرة المهاجرين اليهود الروس على قيادة الحركات الثورية ليس في فلسطين وحدها وإنما أيضًا فيما جاورها من أقطار عربية. 
 كان اهتمام قادة البلاشفة يتركز على تلك النخب الثورية من بين أولئك المهاجرين اليهود الذين كان بمقدورهم القيام بالتحريض والإثارة في أوساط الفلاحين والعمال سواء كانوا من أصول يهودية أو عربية، وذلك لإشعال ثورة اشتراكية تقوم على الصراع الطبقي من جانب العمال والفلاحين ضد البرجوازيين والإقطاعيين يهودًا كانوا أم عربًا. وهكذا توصل لينين إلى نتيجة مفادها أنه بات من الممكن تدويل الصراع الطبقي وتطبيقه في فلسطين حيث اعتقد أن العرب واليهود سيحاربون جنبًا إلى جنب طبقة واحدة ضد مضطهديهم.  
ومن اللافت للنظر أنه على الرغم من أن لينين والعديد من الزعماء البلاشفة ندّدوا بالمظاهر السياسية للصهيونية واتهموها بأنها حركة انفصالية رجعية، إلا أنهم استخدموا نتائج تداعياتها في فلسطين من أجل تعزيز مفهومهم للثورة. فبالنسبة للينين كان من المهم استغلال البؤس الاقتصادي الذي تمخّضت عنه الهجرات اليهودية كعنصر ضروري للثورة. لذلك فإن فكرة الثورة التي برزت تدريجيًا بهدف إحداث تطورات اقتصادية واجتماعية أصبحت تستهدف فيما بعد تحقيق إنجازات ونتائج سياسية. أما فكرة استخدام فقراء اليهود كعناصر ثورية فإنها ارتكزت بصورة رئيسة على أسباب غوغائية غير واضحة، وذلك بجعل هذه الشريحة من المهاجرين اليهود يعتقدون أنهم سيحصلون على حياة أفضل بانضمامهم إلى الثورة القادمة. لقد دعا لينين إلى استغلال المظاهر الاجتماعية والاقتصادية للصهيونية من قبل «البروليتاريا اليهودية»، وذلك من خلال دعم صراعها الطبقي بعد إقامة دولة يهودية في فلسطين.  وهكذا وبمعنى آخر نجد البلاشفة يتبنّون استراتيجية مزدوجة بالنسبة لليهود: التنديد بالصهيونية من ناحية واستعمالها في الوقت ذاته كوسيلة لإحداث ثورة اشتراكية في المنطقة تتيح للبلاشفة التدخل المباشر في شؤونها وإيجاد موطئ قدم لهم فيها.  وهكذا نجد البلاشفة يتخذون هذا الموقف بهدف التوفيق بين العقائدية والبراجماتية ■