هل أخطأ برتراند راسل في «مدح الكسل»؟!

هل أخطأ برتراند راسل  في «مدح الكسل»؟!

كان عالم الرياضيات والفيلسوف البريطاني برتراند راسل  (1872-1970)،  الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1950، قد نشر عام 1932 مقالاً استفزازيًا لا يخلو من السخرية، بعنوان «في مدح الكسل» (In Praise of Idleness) يقع في 5 آلاف كلمة.  وظهر هذا العمل في مجلة «روفيو أوف روفيوز» (Review of Reviews) التي كانت تصدر بالتوازي في بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا.  وبعد ذلك نشر هذا المقال الذائع الصيت في كتاب مع مقالات أخرى.  وترجم إلى لغات عدة، ومنها العربية، حيث ترجمه المركز القومي للترجمة المصري وأصدره في كتاب عنوانه «في مدح الكسل ومقالات أخرى».

 

الواقع أن مقال «مدح الكسل» كان ينقل رسالة سلمية لأنه نُشر أثناء الحقبة التي فصلت الحربين العالميتين الأولى والثانية والتي انتشر فيها كساد اقتصادي منقطع النظير، وكانت نسبة البطالة آنذاك مرتفعة بشكل حاد في الولايات المتحدة وفي أوربا، وذلك في أعقاب انهيار سوق الأسهم الشهير خلال يوم «الخميس الأسود» الموافق للرابع والعشرين أكتوبر من عام 1929.

4 ساعات عمل يوميًا تكفينا!
وما شدّ الانتباه في هذا المقال أن مؤلفه تناول موضوع الكسل من جانب غير مألوف حيث إن الحضارة الإنسانية كانت في الماضي تحتاج لتقدمها إلى الجهد البدني لكثير من الناس وإلى رفاهية فئة أخرى من البشر، في حين أن التقدم العلمي والتكنولوجي في العصر الحديث جعل مثل هذا التقدم في غنى عن ذلك.  والفكرة الرئيسية التي أتى بها راسل في مقاله تؤكد أن الإنسان صار لديه تصور غير معقول لمفهوم العمل يدفعه إلى المزيد من بذل الجهد والعمل على مرّ السنين، وهذا من دون طائل! ويدافع برتراند راسل عن هذا الرأي مقدما حجتين هما:
-1 تعتقد الطبقات الميسورة في المجتمع أن انخفاض النشاط أو غيابه سيؤدي بمعظم الناس، خاصة المنتسبين منهم إلى الطبقات الفقيرة، إلى الكسل والفساد والرذيلة، لذا فمن فائدتهم وفائدة المجتمع استغلالهم بإجبارهم على القيام بأعمال مختلفة.
-2 إن الإنتاج الصناعي كافٍ اليوم لتلبية احتياجات جميع البشر بحد أدنى من العمل. 
ومن ثم قدّر برتراند راسل في مقاله أن أربع ساعات من العمل في اليوم تكفي لجعل سكان العالم يعيشون عيشة سعيدة، لذا فالأجدر بهم أن يخصصوا باقي الوقت للترفيه والقيام بما يمتعهم، ففي مقاله الداعي إلى التكاسل كتب راسل: «إذا عمل الموظف العادي أربع ساعات في اليوم سيكون هناك ما يكفي للجميع، ولن تكون هناك بطالة». هذا ما صرح به راسل قبل تسعة عقود من الزمن حين اشتدت الأزمة الاقتصادية في العالم.
فما قيمة تنبؤ راسل في مديح الخمول والكسل بعد مرور نحو قرن من الزمن؟ إنه حلم لم تتخلّ عنه المجتمعات الصناعية ولم تتخل عنه أيضًا «حضارة الرفاهية»: العمل أقل من أجل حياة أفضل، لكن برتراند راسل قام بتشويه سمعة «عقيدة العمل» المورثة من وقت كان على الفقراء فيه العمل لساعات طويلة لتلبية احتياجاتهم الأساسية، بينما كان أصحاب الأراضي الأغنياء في الغرب يتمتعون، دون بذل جهد يذكر، بثمار عمل هؤلاء المساكين، فكيف يقنعنا راسل بأن الطريق إلى السعادة والازدهار يجب أن يمرّ عبر تقليص عدد ساعات العمل؟
نلاحظ اليوم، بعد تسعين سنة من تنبؤ راسل، أن فكرة العمل بمعدل أربع ساعات لا تزال أضغاث أحلام. فمنذ الثورة الصناعية كان هناك اتجاه تنازلي في عدد ساعات العمل في معظم البلدان الصناعية حيث انخفضت هذه المدة إلى النصف، من 3 آلاف ساعة في السنة خلال القرن التاسع عشر إلى 1500 ساعة اليوم.  لكن الدول الأوربية لا تزال تعمل في المتوسط أكثر من 40 ساعة في الأسبوع (8 ساعات يوميا خلال 5 أيام أسبوعيًا) وهذا على الرغم من أن التقدم التقني والتكنولوجي قد تغلغل في معظم القطاعات المهنية. حتى فنلندا، التي تعتبر فيها مدة العمل الأسبوعي الأدنى في أوربا، نجد هذه المدة مازالت تقدر بـنحو 37.8 ساعة أسبوعيًا في عام 2021 (أكثر من 7 ساعات يوميًا خلال 5 أيام أسبوعيًا)... بل تفوق 50 ساعة أسبوعيًا في كوريا الجنوبية، وهي ليست بعيدة عن ذلك في المكسيك والولايات المتحدة واليابان.

فكرة راسل ودعوة كينز
لقد جاء برتراند راسل بفكرته هذه في أعقاب ما دعا إليه عالم الاقتصاد البريطاني الشهير جون كينز (1883-1946) في عام 1930 عندما صرح بأن ثلاث ساعات من العمل في اليوم كافية حيث توقع أنه قبل نهاية القرن العشرين ستكون التكنولوجيا متقدمة بما يكفي لتمكين دول، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، بالاكتفاء من العمل 15 ساعة في الأسبوع، ففي ذلك الوقت كان تقليص ساعات العمل إلى الحد الأدنى من الأهداف الجدية لدى البعض في العالم المتقدم نظرًا للوضعيات الجديدة التي أصبح يعيشها المواطن والتقدم العلمي المسجل. لكن، وللأسف، فإن التوقعات الرياضية لا تكفي وحدها للتنبؤ بالتغيرات التي ستقع في مجتمعاتنا. 
وهكذا ندرك أن فشل برتراند راسل في توقعاته ليس الأول من نوعه، ذلك أن الثورة الصناعية في الواقع كانت محركًا لتحولات عديدة، لكنه لم يكن من أولياتها تخفيض عدد ساعات العمل.  فمنذ عهد راسل نشأت احتياجات جديدة أدت إلى ظهور وظائف كثيرة لم تكن في الحسبان، وكانت بعيدة عن «ضرورات الحياة» كما كان يتصورها ويراها الفيلسوف راسل.  ومع ذلك، ينبغي أن نعترف بأن الزيادة في نسبة الإنتاج التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة أدت إلى اتجاه تنازلي في عدد ساعات العمل، وإلى تحسين مستوى المعيشة في المجتمع.
وقد تعمّد عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي ديفيد جريبر (1961-2020) استفزاز الحكومات ورجال الأعمال بالقول: «تخلق الرأسمالية الكثير من الوظائف غير المجدية لغرض بسيط، وهو إبقاء السكان منشغلين». فلعل برتراند راسل، بحكم توجهه الأيديولوجي اليساري، كان غير بعيد في فكره عن هذا الرأي.  وقد أخطأ تنبؤ راسل أيضًا عندما رأى أن القضاء على البطالة أصبح ممكنًا بفضل التقدم التقني والتكنولوجي وتقاسم العمل.  فالخبراء اليوم لا يرون أن تقليص عدد ساعات العمل مرتبط بانخفاض نسبة البطالة أو بخلق فرص العمل بل هناك عوامل تأثير اقتصادية أخرى ينبغي مراعاتها. 
لا بد أن نشير في هذا السياق إلى أن الحرب العالمية الأولى أدت إلى وضعية جعلت بعض الخبراء يعتقدون أن التنظيم العلمي للإنتاج سيجعل من الممكن تلبية احتياجات السكان من خلال استغلال عدد قليل من ساعات العمل. ومن ثمّ نستطيع تخفيض عدد ساعات العمل إلى نحو أربع ساعات.  لكن ما حدث أنه بعد الحرب عاد النظام شيئًا فشيئًا إلى ما كان عليه قبلها.

الراحة كانت مغروسة في العمل
عندما اقترح راسل تقليص عدد ساعات العمل إلى أربع ساعات لم يكن يقصد الإيحاء بأن كل الوقت المتبقي يجب أن يضيعه الفرد في الرعونة والطيش بل كان يرى أنه يتعيّن أن يكون للرجل العامل الحق فيما هو ضروري للحياة وللعيش الكريم، وكذا الحق في حدّ أدنى من الراحة، وأن يكون الانسان قادرًا على التصرف في وقته كما يراه مناسبًا.  والواقع أن راسل كان يدعو أيضًا إلى رفع مستوى التعليم والثقافة في المجتمع مما سيجعل العامل يقضي جزءًا من وقت راحته في بحر الثقافة والفن.

5 وظائف للعمل
والغريب أنه بعد نصف قرن من صدور مقال «مدح الكسل»، وصفت عالمة النفس النمساوية ماري جاهودا (1907-2001) خمس وظائف أساسية للعمل، فضلًا عن أنه مصدر للدخل. وجاء ذلك في مقال بعنوان «هل يحتاج الإنسان إلى عمل؟». تقول ماري جاهودا: «العمل يفرض برنامجًا زمنيًا على حياتنا، وينشئ روابط اجتماعية خارج الأسرة، ويبرز أهدافًا تتجاوز أهداف الفرد العامل، ويحدد الهوية الاجتماعية، ويحثّ على المزيد من النشاط». 
وكل هذه المؤثرات تنهار عندما يتقلص العمل؟! وهذا ما لم يدركه راسل. بمعنى أن العمل أربع ساعات في اليوم ليس الحل الأمثل لسعادة وازدهار المواطن. 
هناك من علماء الاجتماع من يتأملون في علاقتنا بالإجازات وأيضًا بالأدوات التكنولوجية الحديثة وجلّهم يعتقدون أن الإنسان اليوم يُعدّ في آن واحد «سيدًا وعبدًا» في تعامله مع الأدوات الحديثة. فنحن نشهد زيادة في استخدامات هذه المعدات، لذلك من الصعب الحديث عن إمكانية قطع الصلة بها وعدم التعامل معها، ذلك أننا جميعًا مرتبطون بالسرعة التي يسير بها العالم وأدواته التكنولوجية التي من المفترض أنها توفر لنا الوقت! 
وبخصوص مفهوم «الراحة»، عندما سئل الكاتب والمؤرخ الفرنسي ألان كوربين، صاحب كتاب «تاريخ الراحة»: هل كنا دائمًا مهووسين بالحاجة إلى الراحة؟ أجاب بأن الأمر عكس ذلك تمامًا. فـ«الراحة» بهذا المفهوم مسألة حديثة جدًا. ويضيف أنه اكتشف أثناء تأليف كتابه أن «الراحة» قبل الثورة الصناعية كانت مغروسة في العمل. فلم يكن يوم الحرفي مبرمجًا على فترة للعمل وفترة للراحة. كانت تتخلل عمله فترات توقف قصيرة، فنحن نتوقف بسهولة عن العمل للدردشة قليلًا أو لتناول مشروب أو طعام. 
وإذا عدنا إلى الوراء، ونشاهد ما كان عليه الحال خلال القرن التاسع عشر، نلاحظ مع ألان كوربين أن البرجوازية في أوربا كان لديها متسع من الوقت الحرّ، وكذلك كان حال العائلات الميسورة، مثل الأفراد الذين كانوا يمارسون العديد من المهن الحرة، كالأطباء والمحامين. فتلك المهن لم تكن تتطلب العمل المتواصل. كان لدى الأطباء عدد ضئيل من المرضى؛ ولم تكن تُعرض على المحامين الكثير من المشاكل القضائية، كما أن صغار الملاك كانوا يتمتعون بحرية كبيرة، ولم يكن هؤلاء جميعًا يشعرون بأنهم بحاجة إلى وقت من الراحة بمفهوم الإجازة في العصر الحديث.
فحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان الفصل بين أوقات العمل وفترات الراحة يتم بشكل طبيعي، وفجأة صارت الراحة بعد ذلك علاجًا للإرهاق الذي يصاب به العامل أثناء أداء مهنته، فالراحة صار ينظر إليها في المصنع كفترة توقف عن العمل، وكفترة يتخلص خلالها جسد العامل من ضغط وتيرة العمل في المصانع والورشات. ومن ثمّ، ظهر تقسيم اليوم إلى ثلاث فترات (العمل، الراحة، النوم). 

ظهور مفهوم الإرهاق
وفي نهاية القرن التاسع عشر ظهر مفهوم الإرهاق بين الأطباء. ولمواجهة الآثار الضارة لهذا الإرهاق، تم سنّ يوم «راحة قانونية» أسبوعية، وهذا أمر كان غريبًا تمامًا عن طريقة رؤية الناس للعمل قبل منتصف القرن التاسع عشر في أوربا، ومن ثمّ ظهرت مفردات ومصطلحات جديدة إلى جانب «الراحة» و«الإجازة» و«العطلة»، مثل «وقت الفراغ» و«الاسترخاء» و«الاستجمام» و«التنزه» و«النقاهة» كضرورة للعامل، وراح العلماء يبررون ذلك بوصف الراحة حاجة طبيعية للإنسان العامل.
كان عالم الاجتماع الفرنسي جوفر دومازيدييه  (1915-2002) قد تنبأ أيضًا منذ ستينيات القرن الماضي بالانخفاض المستمر لعدد ساعات العمل، وكان على حقّ فيما مضى، لكن في الآونة الأخيرة تغيّر الحال وأخطأت جلّ الحسابات عندما دخل العمل عن بعد على الخط، فضلًا عن ذلك أصبح الآن العامل عن بُعد حرًا في تنظيم وظيفته بالشكل الذي يراه مناسبًا، إذ تشابكت الحياة الخاصة واختلطت الفترة المخصصة لأداء المهمة المهنية مع أوقات الفراغ، ولم يعد هناك فاصل واضح بينهما!
وخلال القرن الحادي والعشرين صارت الحدود بين النشاط وعدمه أو قلته غير واضحة المعالم، والسبب هو انتشار الأدوات الإنتاجية الحديثة مثل الحاسوب والهاتف المحمول. فعلى سبيل المثال تشجع مؤسسات في بعض البلدان المتقدمة موظفيها على مواصلة العمل من مكان إجازتهم المشمس في البرتغال أو كوستاريكا أو تايلند حتى فقدت الإجازة معناها المتعارف عليه، وهناك من أطلق على هذه الإجازة مصطلحًا جديدًا «إجازة عمل»! إنها صيغة عمل يبدو أنها تروق اليوم لكثير من الخريجين الشباب. 
لقد ازدهرت الدراسات التي تدافع عن فوائد التحول إلى أربعة أيام عمل في الأسبوع، وهي توحي بأن سياسة تقليص ساعات العمل، التي يمكن تطبيقها على الجميع ستؤدي إلى فقدان فرص العمل وستؤثر على رفاهية الأفراد.  ذلك ما يراه بعض الخبراء.  وبطبيعة الحال فهذا التوجه الحديث يتعارض مع طموح راسل ومفهومه للعدالة الاجتماعية.
وهذه الباحثة في علم الاجتماع الفرنسية دومينيك ميدا (1962-) المهتمة بوضع المناخ، تضيف أنه إذا أردنا التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري فسنحتاج إلى المزيد من العمل البشري وإلى المزيد من ساعات العمل اليدوي، للتقليل من استعمال الآلات الميكانيكية وغيرها حفاظًا على الطاقة وسعيًا لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري! 
فماذا عسى برتراند راسل الداعي إلى الكسل والعمل أربع ساعات في اليوم أن يردّ على هذه الباحثة؟ لا شيء سوى أنه أخطأ التقدير ■