الجسد والوجود

الجسد والوجود

 يعتقد الإنسان أن كينونته قُذف بها إلى سجن الكون لتمارس وجودها وفق رؤية تنظر للجسد باعتباره كاتم السّرّ الكوني، ومن دون فهمه وتأويل إشاراته، رموزه وعلاماته، يستحيل إدراك كوسمولوجية العالَم والوعي بقيمة الآثار التي يخلّفها، لذا فعلاقة الإنسان بالذات يَشُوبُها الكثير من الالتباس والغموض، ذلك أن الغالبية عندما يستعصي عليها الفهم تسقط في حبائل التخيّل والاستيهامات المرضية مما ينعكس على توازن هذه الذات واكتمالها الروحي، فتكون بذلك عرضة للاهتزازات والعواصف النّفسية التي ينتُج عنها فقدان الثقة في الذات والآخر، ولكي يتفادى الإنسان هذا السقوط يبتكر الفنّ/الإبداع والحكايات والروايات، وينغمس في متاهات التفكير بالمجهول واللانهائي. هذا الأخير يحملُ الأسرار ويُحفّز على ارتياد المغامرة، واختيار الطّرق الكفيلة بإمداده بطاقة زائدة لمجابهة المصير، وإيجاد مخرج للحيرة التي ترافقه طوال وجوده في العالَم. 

 

إن فكرة تكسير قضبان السجن، التي وجد فيها الإنسان الكينونة مُطوّقة ومُحاصرة، منطلقها الأول والأخير الرغبة في اجتراح مسلك مغاير عمّا كان سائدًا في الثقافة الغنوصية، التي تعتمد على الحدس والمعرفة الكلية للوجود ويعدّ الجسد كيانًا منفيًا، بخلق نظرة تجمع بين الحسّي والحدسيّ بغية تحقيق التواشج والتكامل، ويتولّد عنها تصوُّر جوهري للجسد في ارتباطه بالوجود. هذا الخروج طبيعي إذا انطلقنا من كون الإنسان كائنا مشكّكًا ومتسائلًا ومتبصّرًا في الأشياء المحيطة به وقلقًا حول مصيره، آخذًا مرة مسافات للتّأمّل والحفر في دواخلها المربكة والفاتنة في الآن ذاته، حتى يستطيع النوء بذاته عن كل انفعالية هجينة تفقد معنى لهذه الأشياء والموجودات، وأحيانا ينهج طريق الدُّنُوِّ بغاية الإصغاء العميق لأنفاسها وتبدّلاتها، لوجودها المثير للاستغراب، وهذا ما يبرز أن الحقيقة المبحوث عنها تظل في حكم النسبية ولا وجود لحقيقة مطلقة، ومن ثمّ فمعرفة الكينونة تتطلّب امتلاك الحدوسات الباطنية والحسيات المباشرة، فبهما يتمكّن الإنسان من فتح جسور تمتّن الصلة وتعمّق الوعي بها، ولا خلاص له منها سوى بالعمل على تطبيع الأواصر بين الشيء ونقيضه، فبالتناقض أو الضّدِيدِ نتمكّن من التمييز بين الجوهري والزائل، بين الفاني والأبدي، بين السطح والعميق، بين الآني والبعيد، فطبيعة النقيض تفرز المسكوت وتفضح المستور وتزيل الإبهام من الفكْر والتردّد من القلب. 
إن الجسد صانع وجوده عندما يبلغ مبلغ التجلّي في مرآة الكون، متخفّفًا من أثقال العبودية والارتهان للتّبعية والسّقوط في شَرَكِ الانفعالية دون أن يكون مؤثّرًا، وهذه الطّباع قائمة الذات في الجسد العربي، الذي لم يستطع التحرّر من المواضعات الاجتماعية والثقافية، التي تزيد الكينونة غيابًا وتغييبًا، ويُحوّلُها إلى تابعة ومتأثرة، وذات طاقة سلبية، وذلك مردّه إلى العجز والشللية في إعمال القدرات النابعة من الذات لفهم العالَم واستيعاب مجرياته المتململة وغير القارّة. 

الوجود والموجود
فطبيعة الكائن تحوّل الوجود إلى فضاء للتّرحّل والتّيه في مداراته وأدغاله المعتمة، لا لشيء إلا لفهم هذا المجال الجغرافي اللامحدود ولجعل الجسد مُنفلتًا مما يُلجِم إرادته ويكبح رغباته ويشوّه فطرته الأولى، وعليه فالوجود والموجود بينهما شعرة طفيفة يصعب الفصل بينهما، فاكتمال الأول بإحساس الثاني بهويته الوجودية، واكتمال الثاني رهين بقدرة الأول على منحه فرصة للذهاب بعيدا نحو الأقاصي المجهولة. فاختيار الكائن الحقيقة لن تفضي به إلا لأوهامها، وزئبقيتها، في حين اللجوء إلى اللا يقين سيكون الجسر القادر على تمتين جسور التماهي بين الكائن والوجود، كما أن العزلة ما هي في جوهرها، إلا وسيلة من وسائل الحفاظ على المسافة القائمة بين الحقيقة والشّكّ. وبواسطتها يتمكّن الكائن من التفاعل مع عناصر الطبيعة والحياة، واستكشاف بعض الأسرار، رغم أن الأسرار تظلّ أسرارًا على مدى حضور الإنسان على هذه الأرض. 
ويبقى في النهاية الموجود، ومهما واجه من المكابدة والعذابات والتمزّقات والشّقاء، وغرِق في الشعور بالذات والسعادة والقوة والسطوة والصولة، متعلّقًا بالوجود الذي يحقّق له كينونته، وجامحًا صوب معانقة سديم العالَم بعينين متّقدتين بالأمل والألم معًا، وفي هذا قمّة الوهج الوجودي، والمقام الذي تبلُغُه الذات وهي تقاوم جاذبية اللامعنى للانتصار للمعنى المبحوث عنه.
فالجسد صديق التراب ومأواه التراب، الأمر الذي يطرح عليه ضرورة التّكيّف صداقة وعلاقة مع الروائح، والغبار، والأحجار والأشجار التي تعدّ سليلة التراب، رعاية وتشذيبًا وحماية ورَيًّا، ففي الرعاية شعوره تجاه مآله الأخير، وفي التشذيب إعلان لاإرادي في الاستمرارية في الحياة، وفي الحماية والرّي انعتاق الجسد وتأجيل مؤقت للفناء المنتظر. إن كتاب الجسد مفتوح على قراءات لانهائية في ارتباط وثيق مع الوجود، وانفصال عمّا يعكّر صَفْوَ هذا التّجلّي في مرآة الكون. 
إن وجودية الموجود تتحدّد في العيني بدل الوهمي الذي يحيل الموجود إلى شبح هلامي فاقد لحقيقته، ونقصد بالعيني الشخصي أو الذات باعتبارها تعبيرًا عن صورة الكائن في الوجود. وقد ارتبطت الوجودية بعدة فلاسفة مثل هيدجر وسارتر وغيرهما للتعبير عن سلوك تأملي فلسفي في الوجود، بعيدًا عن التحليل الفلسفي. فالعلاقة التي تربط الوجودية بالأدب وشيجة الصلات، وعميقة في الطرح والمساءلة، لكون الأدب المجال التعبيري عن الموجود الذي يسعى عبْر اللغة إلى توصيف حالة القلق والاغتراب والبحث عن الحرية كملاذ تستطيع الذات قول كينونتها بعيدًا عن أيّة وصاية، بعبارة أخرى الالتزام الوجودي بضرورة خلق ذات غير مسيّجة بأغلال المواضعات، تمتلك القدرة على اتخاذ القرارات التي تراها مناسبة وخادمة لمشروعها الوجودي.

إرادة الاختيار
فالوجودية التي نبتغي ليست بمعناها الهلامي، وإنما قصدنا يتمثّل في المعنى الذي يجعل الأديب أكثر التصاقًا بالذات كحاضن وجودي لموجوده، وبالبحث عن كل الممكنات التعبيرية التي بمُكنها تحقيق الكينونة، أضف إلى هذا الالتزام بالقيم الإنسانية المُعرّضة للتهميش والإقصاء في ظل صيرورات فكرية ومعرفية وثقافية عاشها العالم، منذ مخاضات فلسفة الأنوار، التي منحت للموجود إرادة الاختيار، وقوّة إعلاء صوت الفردانية ومنحها الأولوية، فالثورة على الكهنوت المسيحي فتحت المجال على أفق تحديثي سمَته الاحتفاء بالإنسان والسّمُو به بعيدًا عن الارتباط الهجين بصكوك الغفران إلى مصاف العقل الذي حباه الله به، للتفكير والتأمل والإبداع. إن الأمر هنا يطرح الأسئلة بمختلف المداخل الفكرية والفلسفية، حول قيمة الإنسان في وجود الآن منحط قيميًا، حيث الضحالة والتتفيه والتسفيه في كل شيء حتى في الموجود غدًا عنوان ألفية ثالثة لم تزد الفرد إلا تأزّمًا واختناقًا بسبب التسليع المجاني الذي أفقده كينونته. وعليه فالوجودية الجديدة هي وجودية ضد كل تلك المسميات والنعوت التي قلناها.
إن البشرية اليوم في حاجة ماسّة إلى وجودية تنتصر للحياة وتعيد للإنسان كرامته، وقيمته، وجدواه في الوجود، ولن يتأتى هذا إلا بفكر جديد متجدّد، عقلاني منفتح على الآخر يستلهم من معينه كل ما يخدم الإنسان، فالأدب المحتفي بالوجودية لا يدل على الانكفاء حول الذات، بقدر ما يؤسس لرؤية مختلفة عن كل التصورات القديمة للوجودية الملحدة ومؤتلفة مع المختلف والمناقض، ففيهما تنبجس حقيقة الموجود.
هذا التخلّق لن يكون إلا بفضل الإيمان بأحقية الحياة التمتّع بالجسد وهو في أسمى طهارته وصفائه، ونقائه، ولديه المقدرة على ربط الصّلة بالوجود، أساسها إثارة الكوامن الدفينة والمضمرة والكشف عن آبارها العميقة، والسّعي إلى تحطيم كلّ ما يعيق تحقيق التنافذ بين الجسد والوجود ■