د. عبدالحكيم الزبيدي: في النقد الحديث التناصّ ليس عيبًا

د. عبدالحكيم الزبيدي:  في النقد الحديث التناصّ ليس عيبًا

 هو شاعر وكاتب وباحث إماراتي حاصل على الماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة الشارقة والدكتوراه من جامعة أبردين في بريطانيا، وله العديد من الإسهامات المهمة في الإبداع والبحث والنقد. حصل على عدة جوائز تقديرية، منها: جائزة الشيخ سلطان بن زايد لأفضل بحث عن الإمارات في أربعين عامًا في عام 2011، وجائزة الشارقة للتأليف المسرحي 2013، وله مشاركات ثقافية عدة داخل الإمارات وخارجها، وقد وردت سيرته العطرة في «دليل الأدباء» بدول مجلس التعاون لدول الخليج، و«معجم البابطين» للشعراء العرب المعاصرين، وله عدد من الإصدارات الإبداعية والنقدية، منها: اعترافات متأخرة (ديوان) عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث 2009، «التناص في الشعر المعاصر في الإمارات» عن مركز سلطان بن زايد 2011، و«النكوص الإبداعي في أدب علي أحمد باكثير» عن ندوة الثقافة والعلوم بدبي 2013، و«الأهازيج الشعبية في الخليج والجزيرة العربية» وطبع بالقاهرة عام 2019، و«التناص في الأمثال الشعبية الإماراتية» عن نادي تراث الإمارات 2022. ومع د. عبدالحكيم الزبيدي كان لنا هذا اللقاء.

 

● في البدء كانت دراستكم علمية بحتة وكذلك تخصصكم إلا أنكم عدتم لدراسة العربية وآدابها وحصلتم عام 1999 على البكالوريوس ثم كان الماجستير بعدها بسنوات عشر تقريبًا، لماذا لم تكن البداية متمثلة في ولعكم باللغة والأدب؟
- كان ولعي باللغة العربية منذ الطفولة، وبدأت في نظم الشعر وأنا في الثالثة عشرة من العمر، لكني كنت أرغب في اكتساب العلوم الحديثة وأن أسافر إلى إحدى الدول المتقدمة للدراسة، لذلك تقدمت للحصول على بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهناك درست تخصص الإدارة الطبية، وهو المجال الذي عملت فيه ثم حصلت على بعثة دراسية أخرى لدراسة الماجستير والدكتوراه في التخصص نفسه من المملكة المتحدة. 
أما دراسة تخصص اللغة العربية فكان الهدف منه صقل مواهبي الأدبية والتعرف إلى أساتذة اللغة العربية في جامعات الإمارات والدول الأخرى.
● تكتبون القصيدة العمودية بنبض مرهف ومشاعر فنية صادقة، ألم تجربوا كتابة شعر التفعيلة أو قصيدة النثر؟
- أنا أكتب قصيدة التفعيلة، ولعل أشهر قصائدي هي القصائد التفعيلية، فقصيدة (لا تسافر) التي تناولها كثير من النقاد بالدراسة هي قصيدة تفعيلية، وكذلك قصيدة (عالم المجد) التي قررت في كتاب النصوص الأدبية لطلبة الصف الثاني عشر في الإمارات هي أيضًا قصيدة تفعيلية، لكن معظم قصائدي عمودية نظرًا لطبيعة موضوعها. 
أما قصيدة النثر فلم أجرب كتابتها، لكني لست ضد أي شكل من أشكال التعبير الأدبي ويمكن للأديب أن يختار الأسلوب الذي يرى أنه يناسب نصّه، واختيار الشكل المناسب يتوقف في رأيي على موضوع النص وعلى اختيار الشاعر أو الكاتب.
● مجموعتكم الشعرية «اعترافات متأخرة» والصادرة عام 2009 عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، نود ملمحًا عن حقيقة هذه الاعترافات، ولماذا كانت متأخرة؟
- (اعترافات متأخرة) هو عنوان إحدى قصائد الديوان، وقد اقترحه أحد الأصدقاء عنوانًا للديوان لأنني أصدرت ديواني الأول في سن متأخرة، وقد جرت العادة أن يصدر الشعراء أول دواوينهم وهم في مقتبل العمر، لكنني لم أكن أستعجل النشر، ولم أنشر ديواني إلا بعدما اطمأننت إلى نضوج شعري وأنه أصبح يستحق النشر، ثم أصدرت ديواني الثاني بعد صدور الديوان الأول بأكثر من عشر سنوات.

بين التناص والتلاص
● ثمة مصطلح نقدي انتشر - بقوة - خلال السنوات الأخيرة ألا وهو «التناص» إلا أن بعض مثقفينا وصفوه - تهكمًا بالتلاص (نسبة للتلصص)، فبم تصفونه أنتم؟
- التناص هو مصطلح نقدي حديث وضعته الناقدة جوليا كريستيفا في ستينيات القرن العشرين ليدل على ظاهرة تفاعل النصوص فيما بينها وتأثير هذا التفاعل في إنتاج الدلالة التي يحملها النص الجديد. ومعناه أن يتضمن النص الجديد نصًا سابقًا له إما بشكل واضح جلي أو خفي. وكان العرب قديمًا يطلقون على التشابه بين النصوص (السرقات الأدبية) وهم لا يقصدون بكلمة (سرقة) المعنى الأخلاقي للكلمة، وإنما يقصدون المعنى اللغوي وهو (الأخذ بخفاء)، لهذا لم يكن النقاد العرب القدامى يعدون السرقات الأدبية كلها عيبًا أو تهمة للشاعر، بل قسموها إلى أقسام ووضعوا لكل قسم مصطلحاته مثل: السلخ، والمسخ، والنسخ، والإغارة... إلخ، فمنها ما عدوه عيبًا مثل النسخ لأنه ينقل النص كما هو دون بذل جهد في تغييره، ومنها ما عدوه محمودًا إذا استطاع اللاحق أن يعيد صياغة المعنى بألفاظ أرق ونظم أحلى، ومن شواهد ذلك قول سلم الخاسر:

مَن راقب النّاس مات همًّا
وفاز باللذة الجسورُ

فقد سبقه إلى هذا المعنى بشّار بن بُرد في قوله:

مَن راقب النّاس لم يظفر بحاجته
وفاز باللذةِ الفاتكُ اللهجُ

فسار بيت سلم الخاسر على ألسنة النّاس وانتشر لرقتّه وخفته، ونسي الناس بيت بشّار لتعقيد ألفاظه وغرابتها. والتناص قد يكون في اللفظ وقد يكون في المعنى، والمعاني كما يقول الجاحظ (مطروحة في الطريق) بمعنى أنها ملك مشاع لكل أحد، وليس لها ما نسميه اليوم (حقوق ملكية).
وفي النقد الحديث لا يعد التناص عيبًا بل أمر لا مفر منه، بحسب الناقدة جوليا كريستيفا التي ترى أن كل نص ما هو إلا فسيفساء من نصوص سابقة، وكما عبّر الشاعر الفرنسي بول فاليري، بأن الأسد عبارة عن مجموعة من الخراف المهضومة. وعلى الناقد أن يوضح أثر هذا التناص وكيف أدى إلى إثراء النص وإنتاج الدلالة. أما مصطلح (التلاص) فقد استخدمه الدكتور عز الدين المناصرة وجعله عنوانًا لكتابه (علم التناص والتلاص) الصادر عام 2011 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، ولعله أول من استعمله. وفي العام نفسه (2011) نُشر لي كتاب بعنوان «التناص بالشعر المعاصر في الإمارات» حصل على جائزة الشيخ سلطان بن زايد رحمه الله لأفضل بحث عن الإمارات بمناسبة مرور أربعين عامًا على قيام الاتحاد، ومؤخرًا صدر لي كتاب بعنوان «التناص في الأمثال الشعبية الإماراتية» عن نادي تراث الإمارات.

الأسفار والإبداع
● تعددت أسفاركم إلى بقاع شتى، هل كان لها أثر على بوتقتكم الإبداعية وأي الدول كنتم أكثر تأثرًا بها؟
- لا شك أن الأسفار تغني ثقافة الإنسان وتهذب من أخلاقه، وقد قال الشاعر قديمًا:
تغرّب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائدِ
إزالةُ همٍ واكتسابُ معيشةٍ
 وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ
وبالنسبة لي، فقد سافرت مطلع شبابي إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة مرحلة البكالوريوس في الإدارة الطبية، حيث مكثت هناك قرابة خمس سنوات، ولا شك أن هذه الغربة قد أثرت فيّ كثيرًا من عدة نواحٍ فهي انتقال من ثقافة إلى ثقافة مغايرة تمامًا، وقد أسهمت في تغيير كثير من المفاهيم والمسلّمات التي كانت عندي، وتعرّفت خلالها إلى أقوام من جنسيات متعددة مما وسع أفقي ومداركي، والحمد لله كان تأثيرها إيجابيًا عليّ ولم أتأثر بالسلبيات الموجودة في مثل تلك المجتمعات.
● ما الذي أردتم إيصاله إلى المتلقي عبر نصوصكم الشعرية؟
- الشعر هو بوح الوجدان، والشاعر يعبّر بشعره عما لا يمكنه أن يقوله بلسانه، وعلى امتداد التاريخ العربي رأينا فرسانًا وشجعانًا يظهرون بمظهر القوة والصلابة، لكنهم حين يكتبون الشعر نجدهم يسيلون رقة وعذوبة، ذلك أنهم في شعرهم يعبرون عن دواخل نفوسهم، وما يكنونه من مشاعر وأحاسيس، فرسالة الشاعر هي إيصال أحاسيسه ومشاعره للمتلقّي.
● تناولتم خصائص شعر الغزل عند الشاعر القرشي عمر بن أبي ربيعة، ما أهم هذه الخصائص من وجهة نظركم؟
- هذا الكتاب نشر إلكترونيًا في البداية ثم طبع ورقيًا هذا العام، وهو يتناول قصيدة (أمن آل نُعم) للشاعر عمر بن أبي ربيعة أمير شعر الغزل في الأدب العربي، وقد حللت القصيدة من حيث الموضوع والشكل والبنية والموسيقى، وتصويرها للبيئة العربية في زمن الشاعر، واستخرجت منها صفات وخصائص شعر الغزل لدى عمر بن أبي ربيعة من خلال هذه القصيدة التي تعد من أشهر قصائده الغزلية وأكثرها تصويرًا لمذهبه في الغزل وهو مذهب اللهو البريء الذي يهدف إلى اقتناص اللذات دون الوقوع في الكبائر. وقد لقي هذا البحث قبولًا كبيرًا ووصلتني عدة رسائل عبر البريد الإلكتروني تثني عليه وتطلب مني تحليل المزيد من القصائد المشهورة بنفس المنهج.
● «الأهازيج الشعبية في الخليج والجزيرة العربية» هو عنوان أحد إصداراتكم، فما بواعث اهتمامكم بتراثنا العربي في الخليج؟
هذا الكتاب نشرته أولًا إلكترونيًا في الإنترنت ولقي قبولًا كبيرًا، وقرأه أكثر من أربعين ألف شخص، مما شجعني على طباعته في كتاب ورقي، وقد لقي الكتاب المطبوع أيضًا قبولًا وترحيبًا كبيرًا، وكتبت عنه الصحافة الأدبية في الإمارات والسعودية ومصر، واتصل بي العديد من الأصدقاء في السعودية يطلبون نسخًا منه، وقد أهديت نسخة منه إلى سعادة جمعة الماجد في دبي، وفوجئت به بعد أيام يتصل بي ويشكرني على الكتاب ويعبر عن إعجابه بمحتواه. والحق أن دول الخليج والجزيرة العربية لديها تراث شعبي غزير وهو جزء من التراث العربي، وهو بحاجة إلى تدوينه وتوثيقه قبل أن يندثر.
● صدر لكم مؤخرًا كتاب «التناص في الأمثال الشعبية الإماراتية»... نود نُبْذة عنه؟
- تناولت فيه نحو (300) مثل شعبي إماراتي، وتتبعت أصولها، فوجدت أن بعضها يتناص مع مصادر دينية، وبعضها يتناص مع أبيات شعرية قديمة، وبعضها يتناص مع أمثال فصيحة. ثم قارنت بعد ذلك بين هذه الأمثال الشعبية الإماراتية والأمثال الشعبية في البلاد العربية الأخرى، فوجدت تشابهًا كبيرًا بينها، أحيانًا في الألفاظ والمعنى وأحيانًا في المعنى فقط؛ ما يدل على أن الأصول الثقافية مشتركة بين جميع البلدان العربية على اختلاف مواقعها الجغرافية.

احتفاؤه بأدب باكثير 
● احتفيتم بالراحل العظيم علي أحمد باكثير كما لم يحتفِ به أحد من قبل، حدثنا عن أسباب ذلك؟
- تعرفت إلى أدب باكثير من خلال رواية (وا إسلاماه) التي كانت مقررة علينا ضمن منهج اللغة العربية في الصف الثاني الثانوي، وقد شدتني بأسلوبها الأدبي الرائع ومغزاها الفكري العميق، ثم أخذت أبحث عن مؤلفات باكثير حتى قرأتها كلها، وكلما ازددت قراءة له ازددت إعجابًا بأدبه وفكره. والحق أن باكثير من الأدباء القلائل الذين يجمع أدبهم بين المتعة الأدبية والمغزى الأخلاقي النبيل، فقد كان أديبًا ذا رسالة، كما كان متعدد المواهب، فهو شاعر وروائي ومسرحي، وله في كل مجال ريادة، ففي الشعر يُعدّ رائد الشعر التفعيلي في الأدب العربي سابقًا نازك والسياب بأكثر من عشر سنوات، وفي المسرح الشعري يعد رائد المسرح الشعري التفعيلي، وفي الرواية حصلت روايتاه (سلّامة القس) و(وا إسلاماه) على الجائزة الأولى مناصفة مع الأديب نجيب محفوظ، وقررت الثانية على طلبة المدارس وتحولت الروايتان إلى فيلمين سينمائيين، وفي المسرح النثري يعد من رواد المسرح النثري بعد توفيق الحكيم. 
ورغم هذه المواهب والريادات إلا أنه لم ينل حقه من اهتمام الدارسين والباحثين، فأردت أن أعرّف به فأنشأت موقعًا على شبكة الإنترنت قبل عشرين عامًا للتعريف به، وقد استفاد من هذا الموقع العديد من الباحثين والدارسين الذين أعدوا رسائل ماجستير ودكتوراه عن باكثير.
● مسرحيتكم الموسومة بـ«مأساة أبي الطيب المتنبي»، أهي محاولة منكم للمزج بين الأصالة والمعاصرة في قالب فني؟
- المسرحية تتناول حياة المتنبي في حلب وعلاقته بسيف الدولة منذ التقاه أول مرة حتى فارقه مغاضبًا له، وهي مدة قصيرة من حياة المتنبي لكنها أثراها بالأحداث وأغزرها بالشعر، والمسرحية ترمز إلى محنة الشعراء في كل زمان ومكان. وقد فازت بجائزة الشارقة للتأليف المسرحي سنة 2013.
● روعة التعبير الأدبي متمثلة في عنوان مجموعتكم الشعرية «مرايا لا تعكس»، ألا ترى في ذلك قسوة صادمة لا تنسجم مع رؤاكم الرهيفة؟
- الشاعر مهما كتب من قصائد فإنه يرى أنه لم يستطع أن يبوح بكل ما يجيش به صدره وما يعتمل في قلبه من مشاعر وأحاسيس، لذلك تأتي قصائده كمرايا لكنها لا تعكس كل ما يريد قوله، وعلى الناقد والقارئ أن يستنطق هذه القصائد ليرى ما وراءها وما ينعكس فيها.
● الجوائز الكثيرة التي حصلتم عليها، هل هي كافية لتتويج مسيرتكم الثقافية؟
- الجوائز لا تأتي للشاعر أو المبدع إلا إذا تقدم هو لها، وسعى إليها، والجائزة الحقيقية في رأيي هي إقبال القراء على إبداع المبدع وشعر الشاعر، وقد تلقيت من رسائل ومقالات وإطراء المعجبين بشعري وكتاباتي ما يشعرني بالرضا عما كتبته وأكتبه، وهذا يكفيني.
● مَن مِن الأدباء العرب يمثلون لكم أسوة حسنة ونموذجًا مشرقًا؟
- لا شك أن التاريخ العربي يحوي العديد من الشعراء والأدباء المتميزين الذين أحببت كتاباتهم وتأثرت بها، لكن على صعيد الشعر لا نزاع في أن المتنبي قد أثر في جميع شعراء العربية بلا استثناء، فهو الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، كما قال ابن رشيق في كتابه العُمدة. ورغم كل ما قيل عن المتنبي إلا أن شعره يظل الأقوى والأروع في رأيي، وحين تقرأ شعره تشعر بعزة النفس وكرامتها:
تغرّبَ لا مُستعظمًا غير نفسِهِ
ولا قابلًا إلا لخالقِهِ حكما
يقولون لي: ما أنت؟ في كلِّ بلدةٍ
وما تبتغي؟ ما أبتغي جلّ أن يُسمى
وَإِنّي لَمِن قَومٍ كَأَنَّ نُفوسَهم
بِها أَنَفٌ أَن تَسكُنَ اللَحمَ وَالعَظما
كَذا أَنا يا دُنيا إِذا شِئتِ فَاِذهَبي
وَيا نَفسُ زيدي في كَرائِهِها قُدما
فَلا عَبَرَت بي ساعَةٌ لا تُعِزُّني
وَلا صَحِبَتني مُهجَةٌ تَقبَلُ الظُلما
● هلَّا حدثتنا عن قادم إنجازاتكم التي ننتظرها بلهفة وشغف؟
- فرغت منذ أيام من تأليف كتاب عن الشاعر الإماراتي الراحل عبد الله محمد المساوى الهاشمي، حيث تناولت في القسم الأول سيرة حياته، مع دراسة فنية لشعره، وفي القسم الثاني مختارات من شعره، وسوف يصدر قريبًا إن شاء الله عن مؤسسة العويس الثقافية ■