صفحات من الشّعر العربيّ في إقليم خوارزم

صفحات من الشّعر العربيّ  في إقليم خوارزم

نتصفَّح المصنَّفات التّراثيَّة فتطالعنا سطورها بصفحاتٍ مشرقةٍ من الموروث لا تكاد تحظى بالعناية الكافية، ولعلّ من أبهى تلك الصّفحات ما يتَّصل بإقليم خوارزم الذي يُعدّ واحدًا من الأقاليم العريقة والمهمَّة التي شغلت مكانةً مؤثّرةً في التّاريخين العربيّ والإسلاميّ: سياسيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا وأدبيًّا، منذ أن فتحه المسلمون العرب صُلحًا سنة 93هـ/712م بقيادة قتيبة بن مسلم الباهليّ، وأقصوا حكم السّاسانيّين عنه، حتّى تاريخ سقوطه سنة 628هـ/1231م على يد التّتار الَّذين انتزعوه بالغلبة والقوّة من الدّولة الخوارزميَّة آخر دولة إسلاميَّة هناك. فأين يقع هذا الإقليم؟ وما أبرز خصائصه الطَّبيعيَّة والجغرافيَّة والاقتصاديَّة؟ وما مميّزات الحالة الشّعريَّة فيه؟

 

أوَّلًا: إقليم خوارزم: موقعه، وطبيعته، واقتصاده:
يقع هذا الإقليم في آسيا الوسطى على دلتا نهر جيحون، يحدّه من الشّمال بحر «الآرال» أو بحيرة خوارزم، ومن الشّرق صحراء «قزيل قوم» الَّتي تفصله عن «ما وراء النَّهر»، ومن الغرب صحراء «قره قوم» الَّتي تفصله عن خراسان، وفي الجنوب تتلاقى الصّحراوان حيث ينفذ نهر جيحون. أمّا موقعه اليوم فيتوزَّع بين دولتين هما: أوزبكستان وتركمانستان. وقد سمّى المؤرّخ شمس الدّين المقدسيّ تلك المنطقةَ «كورة» بمعنى صقع يشتمل على عدّة قرى، فقال: «هي كورة على حافّتي جيحون، قصبتها العظمى بهيطل، ولها قصبة أخرى بخراسان»؛ وهيطل اسم لبلاد ما وراء النهر، وهي بخارى وسمرقند وخجند حسب ما جاء في معجم البلدان لياقوت الحمويّ. وقد كانت مدينة «كُرْكانج» الَّتي تقع على ضفّة نهر جيحون الغربيَّة قصبةَ الإقليم ومدينتَهُ العظمى.
أمّا مناخ الإقليم فيتّسم بالبرودة الشَّديدة إلى درجة التّثلّج، حتّى إنَّ ابن فضلان قد وصفه في رسالته لمّا زار تلك البلاد بقوله: «فرأينا بلدًا ما ظننّا إلّا أنَّ بابًا من الزَّمهرير قد فُتِح علينا منه». وهذا ما يؤكّده الحمويّ في وصفه نهرَ «جيحون» الَّذي يتجمَّد تمامًا في الشّتاء فتمرّ عليه القوافل: «والشّتاء عندهم شديد جدًّا بحيث إنّي رأيت جيحون نهرهم وعرضه ميل، وهو جامدٌ، والقوافل والعجل الموقّرة ذاهبةٌ وآتيةٌ عليه».
والكلام على طبيعة إقليم خوارزم يُظهر أنَّ أرضه غنيَّة بمياه الأنهار، ووافرة الخيرات، وكثيرة المزارع والبساتين، ومتنوّعة الثّمار والفواكه؛ لذلك شهد أهله رخاءً في العيش وانتعاشًا في الاقتصاد بفضل وفرة خيراته الزّراعيَّة، كما بفضل ازدهار التّجارة فيه بحكم موقعه المميّز على طريق التّجارة الدّوليَّة من شرقيّ أوروبا إلى شرقيّ آسيا، ويحدّثنا البشاريّ (المتوفّى سنة 375هـ) عن طبيعة ذلك الإقليم بقوله: «متّصل البساتين، كثير المعاصر والمزارع، والشَّجر والفواكه والخيرات». أمّا بالنّسبة إلى مهن أهل خوارزم وتجارتهم، فقد كانوا أصحاب مهنٍ وحرفٍ دقيقةٍ كالحدادة والنّجارة وغيرهما، وقد صدّروا الأوبار والسّجاجيد والمنسوجات الصّوفيّة والقطنيّة والحريريَّة والشّمع وأنواعًا متنوّعة من الفراء.

ثانيًا: الحالة الشّعريَّة في إقليم خوارزم:
إذا انتقلنا إلى تبيان الحياة الشّعريَّة في خوارزم، فسيتبيَّن أنَّ خضوعه للحكم العربيّ مدَّةً معيّنةً وانتشار الإسلام بين أهله وإقبالهم على اعتناقه كانت مجتمعةً من العوامل البارزة الَّتي ساعدت في ازدهار اللّغة العربيَّة هناك، وفي الاهتمام بالأدب العربيّ شعرًا ونثرًا، لا سيّما في ظلّ اهتمام بعض الحكّام والوزراء بذلك، ومشاركتهم في نموّ حركته، أمثال بعض القادة من السّامانيّين والمأمونيّين والغزنويّين، على الرّغم من أصولهم غير العربيَّة.
وقد عزَّز النّهضةَ الأدبيّةَ والشّعريَّةَ في خوارزم الأدباءُ والشّعراءُ العربُ والمسلمون الَّذين وفدوا إليه من الأقاليم الأخرى، يأتي في طليعتهم الشّاعر والكاتب رشيد الدّين الوطواط قادمًا من بلخ، والشّاعر ابن عنين من الشّام، والشّاعر والرّحّالة الجغرافيّ أبو حامد الغرناطيّ من غرناطة الأندلسيَّة، والمؤرّخ والشّاعر محمّد بن أحمد النّسويّ من «نسا» الخراسانيَّة.
أمّا عن الاتّجاهات الشّعريَّة الَّتي سلكها شعراء هذا الإقليم، فيتبيّن أنَّهم حرصوا على محاكاة النَّزعة التَّقليديَّة في الشّعر العربيّ؛ ولعلَّ من أبرز ملامح التَّقليد أنَّ الشّعراء هناك طرقوا باب الأغراض الشّعريَّة التّقليديَّة من مدحٍ وفخرٍ ووصفٍ وهجاءٍ وشكوى وغزلٍ وما إلى ذلك، وأنَّهم ساروا أيضًا على نهج الأقدمين في بناء القصيدة، واتّباع أساليبهم وطرق صورهم البيانيَّة... غير أنَّ بواعث التَّجديد، في المقابل، كانت فاعلةً أيضًا نتيجة تأثُّر الشّعراء الخوارزميّين بتجارب التَّجديد الشّعريّ في المشرق العربيّ لا سيّما بتجربتي أبي تمّام والمتنبّي، ونتيجة تفاعلهم أيضًا مع أحداث الإقليم السّياسيَّة ومع بيئتهم المنعّمة المختلفة عن الطّبيعةِ الصّحراويَّةِ... وهذا ما يمكن تبيانه من خلال التَّطرّق إلى بعض الأغراض الشّعريَّة الَّتي برزت في ديوان الخوارزميّين وفق الآتي:

-1 المدح والشّعر السّياسيّ: 
هو الشّعر الَّذي قيل في مدح السّلاطين والحكّام والولاة والوزراء، وقد سلك فيه الشّعراء سبيل المتقدّمين سواء في المعاني أو في بناء القصيدة أو في تأليف الصّور...، ومن نماذج ذلك قصيدة أبي القاسم الزَّمخشريّ في مدح السّلطان «سنجر»:
إِنَّ المَليحَـــــــةَ بَكَّــــــــرَتْ أَحْداجُهـــــــا 
فَاهْتاجَ مِنْ حُرَقِ الهَوى مُهْتاجُها
فَكَــــأَنَّ عَيْنــــي وَهْـــيَ كَالــدَّمِ دَمْعُهـا 
كَـــأْسٌ مِـــنَ الصَّهْباءِ قَـــلَّ مِزاجُها
قامَـــــتْ تُــــوَدِّعُ وَالنِّقـــــابُ مُضاعَـفٌ 
لِيَغيــــبَ تَحْـــتَ نِقابِهـــــا أَبْهاجُهـــا
وَكَشُعْلَـــــةِ المِصْبـــاحِ غُــــرَّةُ وَجْهِهـا 
 وَنِقابُهـــــا مِشْكــــــاتُهــا وَزُجاجُهـــــا...
وَكَأَنَّمـــــا السُّلْطـــــانُ سِنْجِـــرُ كَعْبَــــةٌ 
 لِلْمُـلْكِ، مُنْتَخَـــبُ المُلــوكِ، رِتاجُهـا...
شَهْـــــــمٌ إِذا مـــا أَلْقَـــــــحَتْ أَفْكـــــــــارُهُ 
آراءَهُ كـــــــانَ الصَّـــــــوابَ نِتاجُهـــــا
لَكِنَّهـــــــا تَلِــــــدُ الصَّـــــــــوابَ مُتِمَّـــــــةً 
وَلَرُبَّ آراءٍ يَسوءُ خِداجُها
رَكِبَ السِّياسَةَ، وَهْيَ أَصْعَبُ مَرْكَبٍ
 فَتَطامَنَتْ لِرُكوبِهِ أَثْباجُهـا
جَهْمُ المُحَيّـا لِلْعِـدى، طَــلْقٌ إذا 
ضيفانُهُ نَزَلَـــــتْ بِـهِ أَفْواجُها.
تتَّضح معالم التَّقليد في هذه القصيدة عبر التَّمهيد لمدح السّلطان «سنجر» بمقدّمة غزليَّة يتغنّى فيها الشّاعر بجمال وجه الحبيبة، وسحر عينيها، على الرّغم من وجود النّقاب الَّذي يزيد من جاذبيتها المرتكزة على لعبة الإخفاء والظّهور، حتّى تضطرب لواعج قلبه. كما يظهر التَّقليد عبر طرق المعاني الشّائعة في المدح الَّتي يخلعها على ممدوحه (صفوة الملوك، شهامته، سداد رأيه، بشاشة وجهه إزاء ضيوفه، وعبوسه في وجه أعدائه)؛ غير أنَّ بعض مظاهر التَّجديد تتجلّى من خلال بروز المعاني المرتبطة بشخصيَّة تاريخيَّة محدَّدة (سنجر)، وتلوين القصيدة ببعض المحسّنات البديعيَّة الَّتي كانت ظاهرةً بارزةً في تلك الحقبة.

-2 الفخر:
وهو من الأغراض التَّقليديَّة الَّتي احتفى بها شعراء خوارزم، وساروا فيه على نهج المتقدّمين من افتخارٍ واعتزازٍ بالقيم العربيَّة الأصيلة مثل الكرم وحسن الضّيافة والوفاء وغيرها من القيم، غير أنَّهم امتازوا بميلهم عن الفخر بالأنساب والقبائل إلى الافتخار بالدّين أو بالعروبة في معرض ردّهم على ذوي النَّزعة الشّعوبيَّة؛ ومن ذلك افتخار أبي القاسم الزَّمخشريّ بالعرب وشجاعتهم وصبرهم وبلائهم في الحروب، وهزيمتهم ملوكَ الفرس، بعد أن مهّد لقصيدته بمطلعٍ طلليّ تقليديّ يتذكَّر فيه الأحباب:
أَيا عَرَصـــــــــاتِ الحَــــيِّ أَيْنَ الأَوانِــسُ؟ 
رَحَلْنَ، وَحَلَّتْكِ الظِّبـــــــاءُ الكَــــــوانِسُ
أَعامِــــــرَةٌ، بِـــــــالأَمْسِ، تَهْتَــــزُّ نَضْـــــرَةً 
مَغـــــانيكِ، وَهْوَ اليَـوْمَ قَفْرٌ بَســابِسُ
مِنَ العَرَبِ الصِّيدِ الأُلى أَحْرَزوا العُلا 
 وَطــــابَتْ لَهُــــمْ أَعْـــراقُهُمْ وَالمَغـــارِسُ
غَطارِفَـــــــــــــةٌ شُـــــــــمٌّ، تَرَبَّـــــوا أَعِــــــــزَّةً 
فَمـــا شَــــمَّ ريــحَ الذُّلِّ مِنْهُـمْ مَعاطِسُ...
فَكَـــمْ طَعْنَـــــةٍ بِكْـــــرٍ يَطــيرُ رَشاشُـــهـا 
لِفِتْيانِهِــمْ، وَالحَــــرْبُ شَمْطــــاءُ عــانِـسُ
وَيَكْفـــــيكَ مِــــــنْ أَيّامِهِــــــمْ وَحُروبِهِـــمْ 
بِما جَـــــرَّتِ الغَبْــراءُ، أَوْ جَــــرَّ داحِــــسُ
وَهُمْ فَرَســــوا أَبْنــــــاءَ فـــــارِسَ كُلَّهُـــــمْ 
بِأَنْيـــــابِهِمْ، وَهْــــيَ الرِّمــــاحُ المَـــداعِسُ

-3 الهجاء:
لا شكَّ في أنَّ الهجاء واحدٌ من الأغراض الشّعريَّة المألوفة أيضًا، لجأ إليه الشّعراء في نزاعاتهم وخصوماتهم لسلب الصّفات الحميدة عن مهجوّيهم، ومن ذلك ما قاله «محمّد بن أحمد النّسويّ» مبينًا مثالب أحد المهجوّين، بتناوله عاهةً لسانيَّةً لديه تجعله يلثغ فينطق الرّاء لامًا، فيقول ساخرًا:
لَــــكَ تَـــدْريسٌ وَلَكْــــــنْ 
راءُ تَدْريسِــــكَ لامُ 
وَالَّذي تُمْلي عَلى النّا 
سِ كِـلامٌ لا كَــلامُ
خَسِـــــرَتْ بَغْــــدادُ إِذْ آ 
وَتْكَ فيها وَالسَّلامُ
ويهجو الشاعر «ابن عُنَين» قومًا أضافوه في بخارى الَّتي قدم إليها من دمشق، فيقول ساخرًا ذامًّا إيّاهم، بعدما جعلوه ينام جوعان على قطعةٍ من حصيرٍ:
لا رعَــــــى اللهُ لَيْلَتـي فــي بُخارى 
 ذِكْرُهــــا ما حَيِيْتُ حَشْوُ ضَمـيري
طَرَقَتْنـــــي الضّيـــــوفُ فيها وَقَدْ بِــ 
تُّ مِنَ الجوعِ في عَذابِ السَّعيرِ
لَيْسَ في مَنْزلي سِوى قَحْفِ إِبْريــ 
قٍ وَباقــــــي قطيعَـــةٍ مِنْ حَصيرِ
أَتَقَرّى التُّجّـــارَ فـــــي سائِـــــرِ الخــا 
ناتِ ظُهْرًا عِنْدَ اسْتـــواءِ القُدورِ
فَــــــــإِذا فاتَنــــــــي كَريــــــــمٌ يُغَدِّيـــــــــــ 
نـــي تَعَشَّيْتُ قُرْصَـــةً مِنْ شَعيرِ
وَأُداري فــــي صَوْنِ مالـي بِعِرْضي
 وَأَقـــــولُ القَـــليلُ أَصْــــلُ الكَثــيـرِ
وَأَنــــا المُــــــــوسِرُ الغَنِــــــيُّ وَلَكِنِّــــــــ 
يَ مِـــــنْ فَـــــــرْطِ خِسَّـــةٍ كَالفَقير

 -4 الغزل:
وهو من الأغراض الرّئيسة في الشّعر العربيّ الَّتي لم يشذّ شعراء الإقليم عن طرقها، وقد جاء الغزل ضمن قصائد مستقلَّةً غرضًا لأجل ذاته، أو ضمن مطالع القصائد الَّتي تناول فيها الشّعراء أغراضًا أخرى مقلّدين في ذلك أقرانهم المتقدّمين في الشّعر العربيّ. فمن غزل الخوارزميّين ما قاله الشّاعر «أحمد بن محمّد الصّخريّ» واصفًا بخل الحبيبة وتمنّعها في قصيدةٍ تعجّ بالمحسّنات البديعيَّة لا سيّما بالمقابلات لتصوير اضطرامه الدّاخليّ الملتهب:
لَئِنْ بَخِلَتْ بِإِسْــــعادي سُعـــادُ 
فَإِنّـــي بِالفُــــــؤادِ لَهــا جَوادُ
وَإِنْ نَفِدَ اصْطِباري في هَواها 
فَدَمْعُ العَيْنِ لَيْسَ لَهُ نَفادُ
أَرى ثَلْـــــجًا بِوَجْنَتِـــــها وَنـــــارًا
 لِتِلْكَ النّارِ في قَلْبي اتِّقادُ...
لَأَجْتَهِدَنَّ فـــي طَلَــبِ المَعالي
 بِسَعْـــــيٍ مــــا عَلَيْهِ مَسْتَزادُ
فَــــإِنْ أَدْرَكْــــــتُ آمالـــــــــي وَإِلّا
 فَلَيْسَ عَلَيَّ إَلّا الاجْتِهــــادُ
والشّاعر في قصيدته هذه يُشايع ذوي النَّزعة الجديدة من شعراء المشرق الَّذين أخذوا يصبغون قصائدهم بشتّى ألوان البديع.
ويُخاطب الشّاعر «عبدالله بن محمّد النّامي الخوارزميّ» عينَهُ عاتبًا عليها في قصيدةٍ وجدانيَّة رقيقةٍ؛ لأنَّها سبب شقائه حين تستجلي محاسن وجه الحبيبة، فتحرّك كوامن الحبّ والانجذاب في نفسه، وتتركه حزينًا:
يا عَيْنُ مِنْكِ شِكايَتي وَبَلائــي 
أَنْتِ الَّتــــــــي أَسْلَمْتِنـــــي لِشَقائي
لَمّا نَظَرْتِ إِلى مَحاسِنِ وَجْهِهِ 
أَشْعَلْتِ نارَ الشَّوْقِ في أَحْشائي
ثُمَّ اعْتَبَــرْتِ لِتَخْدَعينــي بِالبُكا
فَكَشَفْــــــتِ ذاكَ السِّرَّ لِلْأَعْــــــــــداءِ
فَتَأَمَّلي ماذا جَنَيْتِ وَأَمْسِكــــي 
بِاللهِ عَنّـــــا مَعْشَــــرَ الغُـــــــرَبـــــــــاءِ
وبمطالعة غزل الشّعراء الخوارزميّين يتبيَّن أنَّ أغلبه غزلٌ معنويّ روحيّ أكثر منه حسّيًّا مادّيًّا.

-5 شعر الشّكوى:
حاضرٌ بقوَّةٍ بين الأغراض الشَّعريَّة الَّتي طرقها شعراء إقليم خوارزم تعبيرًا عن أحوالهم الخاصَّة المنكسرة، إذ عبَّروا عن شكواهم ممّا يُصيبهم به الزّمن من سهام الابتلاء؛ فهذا الشّاعر أحمد بن محمّد الصّخريّ يشكو من الدّهر ويتذمَّر في مخاطبته ممدوحَهُ قائلًا:
أَسَمِعْتَ يا مَوْلايَ دَهْـــ 
ري بَعْدَ بُعْدِكَ ما صَنَعْ؟!
أَحْنـــى عَلَــــــيَّ بِصَرْفِـهِ 
فَــــرَأَيْتُ هَـــــوْلَ المُطَّلعْ
وربَّما تعكس الشّكوى من الدّهر وتبدّل أحواله تغيّر الأوضاع السّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في تلك البلاد. ومن مظاهر الشَّكوى أيضًا أن يعمد الشّعراء إلى التَّعبير عن الاستياء من تقدّم العمر وظهور الشَّيب الّذي يحمل أولى إشارات الحِمام وإنذاراته، يبرز هذا المعنى في قصيدةٍ لأبي بكر الخوارزميّ يقول فيها:
خَضَبَتْني الأَيّام لَوْنَ بَياضٍ 
 وَخِضابُ الأَيّامِ لَيْسَ بِناضِ
وَتَخَطَّتْنيَ المَنونُ إِلى شَعْـــ 
ري فَأَضْحـــى مُكَفَّنًا بِبَيــاضِ.

-6 الحنين إلى الوطن:
من أبرز الأغراض الشّعريَّة الَّتي عالجها الشّعراء في إثر نأيهم عن مساقط رؤوسهم الَّتي ترعرعوا فيها؛ فهذا الشّاعر الموفّق بن أحمد المكّيّ الخوارزميّ، الَّذي أخذ العربيَّة عن الزّمخشريّ بخوارزم وتولّى الخطابة بجامعها، يحنّ إلى الإقليم حين كان بعيدًا منه في نجد بالجزيرة العربيَّة، فيقول:
أَأَبْكاكَ لَمّا أَنْ بَكى في رُبى نَجْدِ
سَحابٌ ضَحوكُ البَرْقِ مُنْتَحِبُ الرَّعْدِ
لَهُ قَطَــــــراتٌ كَاللّآلِـــــئِ في الثَّرى
وَلـــــي عَبَراتٌ كَالعَقيــــقِ عَلـــى خَدّي
تَلَفَّتُ مِنْهـــا نَحْــوَ خَوارزْمَ والِهًا
حَزينًا، وَلَكِنْ أَيْنَ خَـوارزْمُ مِـنْ نَــجْدِ؟

وعلى المقلب الآخر، يُعبّر الشّعراء الوافدون إلى خوارزم، عن أشواقهم إلى أوطانهم؛ فالشّاعر أبو عبد الله الكلثوميّ يحنّ من خوارزم إلى العراق، وقد أهاج أشجانَهُ طائرٌ غرّيدٌ على الفنن:
تَقولُ سُعــــادٌ: «ما تَغَرَّدَ طــائِرٌ
عَلــــــى فَنَـــــنٍ إِلّا وَأَنْـــتَ كَئيــــبُ؟!»
«أَجــــارَتَنا إِنّا غَريبــــانِ هَهُنـــا
وَكُـــلُّ غَــــريبٍ لِلْغَــــــريبِ نَسيـــبُ»
أَجارَتَنا إِنَّ الغَريبَ وَإِنْ غَدَتْ 
عَلَيْهِ غَوادي الصّالِحـــاتِ غَريبُ
يَحِنُّ إِلـــــى أَوْطانِـــــــهِ وَفُــؤادُهُ 
لَهُ بَيْنَ أَحْنــــاءِ الضّلــــوعِ وَجيبُ
سَقــــى اللهُ رَبْعًا بِالعِــراقِ فَإِنَّهُ 
إِلَــــــيَّ - وَإِنْ فارَقْتُـــــهُ - لَحَبيبُ
أَحِنُّ إِلَيْهِ مِـــنْ خُراسـانَ نازِعًا
 وَهَيْهاتَ لَــــوْ أَنَّ المَــــزارَ قَــريبُ
وَإِنَّ حَنينًا مِنْ خَوارزْمَ يَنْتَهي 
إِلى مُنْتهى أَرْضِ العِراقِ عَجيبُ.

-7 الرّثاء:
من الأغراض الأصيلة الملازمة للنَّفس الإنسانيَّة حين تفقد أحبابها، واللّافت أنَّ معاني شعراء خوارزم في الرّثاء لا تكاد تخرج عن الشّائع في الشّعر العربيّ التّقليديّ. لكن نقف على قصيدةٍ لافتةٍ ذات نَفَس دراميّ صراعيّ لأبي بكر الخوارزميّ في رثاء خصمه أبي سعيد الشَّبيبيّ؛ لأنَّ رفعة نفسه تسمو به عن الشّماتة بموته، فيرثيه رثاءً ذا نَفَسٍ دراميّ، يُصوّر فيه حالته النَّفسيَّة المترجّحة بين الحزن والعتب عليه، وبين الثّكل وشفاء الغليل، فيقول:
وَمِنْ عَجَبِ اللَّيالي أَنَّ خَصْمــــي
يَبيـــــدُ وَأَنَّ حُزْنــــــــي لا يَبيــــدُ
وَأَنَّ النُّصْــــفَ مِـــــنْ عَيْني جُمودٌ
 وَأَنَّ النُّصْفَ مِنْ قَلْبي جَليـدُ
إِذا سَفَحَـــــتْ عَلَيْـــــهِ دُموعُ عَيْني
 نَهاها الهَجْرُ مِنْهُ وَالصُّـدودُ
فَنُصْـــــفٌ مِــــنْ مَدامِعِهـــا سَخينٌ
 وَنُصْــــفٌ مِـنْ مَدامِعِها بُـرودُ
بَكَيْــــــتُ عَلَيْـــــكَ بِالعَيْنِ الَّتي لَــمْ
 تَزَلْ مِنْ سوءِ فِعْلِكَ بي تَجودُ
فَهــــا أَنــــــا ذا المُهَنَّــــــأُ وَالمُعَـــزّى
 وَهــا أَنا ذا المُباغِضُ وَالوَدودُ
وَها أَنا ذا المُصابُ بِكَ المُعافى 
وَها أنا ذا الشَّقِيُّ بِكَ السَّعيــدُ 

 -8 الشّعر الفلسفيّ:
من الأغراض الجديدة الَّتي وُلدت في الشّعر العربيّ نتيجة التَّفاعل مع علوم الأمم المجاورة وثقافاتها، وعليه فقد برز في ديوان الخوارزميّين، ومن ذلك قصيدةٌ للفيلسوف والشّاعر ابن سينا المولود في قرية «أفشنة» بالقرب من «بخارى»، والتي يُعالج فيها موضوع النَّفس الإنسانيَّة، فيُشبَّهها بالحمامة الَّتي هبطت من المحلّ الأرفع الَّذي هو عالم العقول إلى الحضيض الأوضع الَّذي هو مكان الطّين، فيقول:
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحلِّ الأَرْفَعِ
 وَرَقـــــــاءُ ذاتُ تَعــــزُّزٍ وَتَمَنُّــعِ
مَحْجوبةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عــارفٍ 
وَهْيَ الَّتي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَعِ
وَصَلَتْ إِلـــــى كُــــرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّما
 كَرِهَتْ فِراقَكَ وَهْيَ ذاتُ تَفَجُّعِ
أَنِفَتْ وَمـــا أَلِفَــتْ فَلَمّا واصَلَتْ
 أَلْفَتْ مُجاوَرَةَ الخرابِ البَلْقَـــعِ
وَأَظُنُّها نَسِيَتْ عُهودًا بِالحِمـى
 وَمَنـــــازِلًا بِفِراقِهــــــا لَــــمْ تَقْنَــعِ
وفي الأخير، نستنتج أنَّ نزعة المحاكاة التَّقليديَّة قد طغت على الشّعر في إقليم خوارزم، وإن برزت بعض السّمات الخاصَّة المرتبطة بالمرحلة الزَّمنيَّة والبيئة المحلّيّة، كما نتبيَّن أنَّ اللّغة العربيَّة شكَّلت رحمًا دافئةً احتضنت ثقافاتِ أممٍ عديدةٍ من أوزبكيَّةٍ وتركيَّةٍ وفارسيَّةٍ وأفغانيَّةٍ...، ونجحت في استيعاب آدابها وفكرها طوال أكثر من قرنٍ، حتّى إذا استعادت تلك الأممُ هُويّاتها القوميَّة كان اللّسان العربيّ وآدابه وتراثه الرّافدَ الأساسي لها لإعادة إحياء موروثها القومي شعريًا وفكريًا وعلميًا ■