تجربة النمو الإنساني في شعر عنترة بن شداد

تجربة النمو الإنساني  في شعر عنترة بن شداد

«العبدُ لا يُحْسِنُ الكَرَّ، وإنما يُحسِنُ الحَلْبَ والصَر»،  بهذا ردَّ عنترة على أبيه شداد، حين طلب منه أبوه نصرة قومه المهزومين، وهو عبدٌ يرعى الجمال، وقبيلته «عبس» مهزومةٌ أمام بني «طي»، فقال له أبوه: «كُرَّ وأنتَ حرّ»، وقتها صعدت حريته المقهورة، والتي كانت حبيسة في داخله إلى زنده، وكأنه يقول لأبيه وقومه:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سُقْمَها   
قيلُ الفوارسِ: وَيْكَ عنترَ أقدِمِ
نعم، العبودية سقم، وحاملها مقهور لا ينتصر، إنّه يخاطب قبيلته: الآن أنصركم لأن الحرية هي وقودُ القوة التي تنجز كلّ تغيير إلى الأعلى، والعبيد لا ينتصرون، وكيف ينتصر من لا يكون حرًا؟! كانت حرية عنترة مقهورة في داخله بحكم جاهلية القبيلة، وجاءت الساعة الراجفة التي جعلتهم مكشوفين أمام نسائهم، وأمامَ قبائل العرب، وأمام عنترة الذي كان راعيَ جِمالهم «واليومَ أحمي حماهم كلّما نُكِبوا». كان لا بدّ من الاعتراف، وكانوا قد كفروا بما أنعم عليهم سيفُه، وراح يصوغ كفران النعمة حكمةً، إنه لم يكن ينصرهم لأنهم كفروا بحريته: «والكفرُ مَخْبثةٌ لنفسِ المنعمِ». إنّ ثوب الحرية الذي يلبسه الآن أمام قبيلته جعله يمتلك قلبَه، وكيف يمكن أن تعطي قلبك لحبيبك إنْ لم يكن مُلْكَك؟ وما الإنسان دون حرية؟! إنّه يعيش «والعصا معَهُ».
كان حبُّهُ عبلةَ ناقصًا دون حرية، وحين لبس ثوب الحرية عاد إلى عبلة، وهي تنسج له زمنَه الآخر. إنّ حبّها يحضر معركة حريته القصوى، وهو لا يستطيع أن يتقن حبًا بلا حرية، فكلاهما سيفه ودرعه في معركة وجوده العليا. لا بدَ أن تدرك عبلة تكامله في حضرة حبها:
هلّا سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ   
إنْ كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي
يخبرْكِ من شهدَ الوقيعةً أنني   
أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنمِ

أنْ ترى عبلةُ سجاياه وقوتَه حرًا، يعني أنَّ الرؤية تُنَمّي الرؤيا، فيدخل عنترة في ملحمته التي عَبَرَ فيها من راعي الجِمال إلى فتى الفتيان وحامي الظعينة. لقد كان يرعى جِمالَ القبيلة، ويتقن الحَلْبِ والصر، وها هو أمام عبلة الآنَ، ووسامُه جرحُه الذي صنع نصر قبيلته. والشجاعة والحب لا يكتملان إذا لم يمارسا بطولة الأخلاق أيضًا، فإذا كان للمعركة سيوفها وخيولها فإنّ للنصر في الحروب أخلاقيته المترفعة عن كل ما هو مبتذل، فها هو عنترة: «يغشى الوغى ويعفُّ عند المغنم». إنه لم يخض المعركة لينال منها مغنمًا، لقد خاضها ليصبح حرًّا، لقد كان قبل هذه المعركة سقيمًا، وكان يريد أن يبرأ من سُقْمِه بسيفه صانع حريته المقهورة، وكان في كامل حريته، وهو يصف فرسان عبس يحمون أنفسهم بسيفه:
 إذ يتَّقون بيَ الأسنّةَ لم أخِمْ     
عنها ولكنّي تضايق مقدمي
لمّا رأيتُ القومَ أقبلَ جمعُهمْ
 يتذامرون كررْتُ غيرَ مذمّمِ
كان القوم يستصرخونه في المعركة، ويتّقون به الأسنّة، وكان هو يبرأ من سقمه، وهم يطلبون من سيفه نصرهم. كانوا يدعونه في تلك المواقف الصعبة التي لا يصمد فيها «إلاّ صارمٌ أو ضُبارمُ» حين يتقطع «ما لا يقطع الدرعَ والقنا»، وحين «يفرُّ من الأبطال من لا يصادمُ» كما يقول المتنبي، في ساحة الهول هذه، كان بنو عبس:
يدعون عنترَ والرماحُ كأنها   
أشطانُ بئرٍ في لبان الأدهمِ
وبعد نصرهم، صنع لنفسه نصرًا آخر، فحين تلوح المغانم، وهي آمنة يطوي الشجاعُ على صمتٍ بطولتَه، واختلف الآخرون على اقتسام المغانم «وجرجرَتْ ناقةٌ واستأسدتْ نَقدُ». إن النصر في الحروب يكون وَغْدًا حين يفقد شجاعته الأخلاقية، نعم، هناك «نصرٌ وَغْدٌ، ونصرٌ نبيل». أن يَعِفَّ عنترة عند المغنم يكون قد نال نصرًا أخلاقيًا نبيلًا.
إن حضور الحب في المعركة يعطي لها ما هو أبعد من القتل، حضور الحب في المعركة يعني حضور القيم العليا فيها، إنّ عنترة كان دائمًا يخافُ أن تُسبى عبلة، لذا كانت حاضرة في أصعب مراحل المعركة:
ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ   
مني وبيض الهندِ تقطر من دمي
فوددت تقبيلَ السيوف لأنها   
لمعتْ كبارقِ ثغركِ المتبسِّمِ
هذا شعر خالد، ولا يمكن تجاوز خلوده، أن تكون الحبيبة حاضرة في هذا الهول فهذا يعني موت الموت، لأن الموت ينطفئ في حضور الحب الخالد، يستطيع الموت أن يأخذ حصّتَه من هيكل الطين، أما الروح فتبقى خالدة في كل إنجاز بديع، والإنجاز البديع يدلُّ دائمًا على مبدعه. إن هذا العناق الحاصل افتراضيًا بين لمعان السيوف وبارق ثغر عبلة المتبسم يلغي المسافة بين الموت والحياة، وأصحاب الحب الكبير يعتبرون الموت جسر عبور إلى قلب الحبيبة. 
الذي يقرأ شعر عنترة بن شداد، وتحديدًا في معلقته ذات الحضور الملحمي، يستنتج أن حبّه هو صانع وجوده، حبّ عبلة كان مدخله إلى الحرية، وهو يغامر بحياته، لأنّ العبودية لا تسمح له بدخول قلب عبلة، لأنه العبودية هي نقص في إنسانية الإنسان، والعبودية في حقيقتها هي التي تمنع الداخل من التفجر والسطوع مهما علت التحديات. العبودية هي نقيض الولادة الإنسانية. ويصعب أن ترى فرقًا، ولو ضئيلًا، بين الحرية والحب، لأنّ كليْهما اختيار فطري في تكوين الطينة البشرية.
على الرغم من مرحلة العبودية الخارجية، «قد كنتُ فيما مضى أرعى جِمالَهُمُ»، فإنك غير واجدٍ في معلقة عنترة بن شداد، والتي هي هو، أيةَ عبودية داخلية، إنّ حريته هي نسيج وجوده، وهي تكوينه الكامل المفطور عليه قلبًا وقالبًا.
شجاعة عنترة في معلقته شجاعة أخلاقية، إنه يقاتل بطلًا مثله: «لا ممعِنٍ هربًا ولا مستسلمِ». صحيح إن الإقرار ببطولة الخصم هو من نسيج الشعر الملحمي، إلاّ أنّ بطولة الخصم هي إقرار عالٍ ببطولة من انتصر على هذا البطل الذي لم يهرب يومًا في معركة ولم يستسلمِ:
ومدجَّجٍ كَرِهَ الكُماةُ نزالَهُ   
لا ممعنٍ هربًا ولا مستسلمِ
فشككتُ بالرمحِ الأصمِّ ثيابه  
ليس الكريم على القنا بمحرَّمِ
خصمه شجاع بطل، ولذا فهو كريم، ولأنه بطل فليس الكريمُ مَعيبًا بمقتله، فالعرب يومها لم يكونوا يروْن «القتلَ سُبّةً»، فالأبطال بهذا المعنى «تسيل على حدِّ الظُباة نفوسُهم».
والبطولةُ في الأحرار سلوكٌ اجتماعي في كلّ مرافق الحياة، وليست بطولة المعارك إلاّ إحدى هذه البطولات، فعنترة تجتمع في شعره كل الصفات التي يحملها الأحرار، ولكن كل صفاته الخلقية يجب أن يؤكدَ فيها حريته لشدة نهمه إليها، وحضورَ عبلة، لأنها جواز سفره إلى الضوء، إنّ حبّها جعله ينال حريته بوميض ابتسامتها في قلبه، إن حبّ عبلة هو الذي ناداه، لا صوت أبيه. إنه يستحضرها في كل صفاته الخلقية حتى لكأنه يطلب منها شهادة هو بحاجةٍ إليها:
أثني عليّ بما علمتِ فإنني    
سمحٌ مخالقتي إذا لم أُظلَمِ
فإذا ظُلِمتُ فإنّ ظلمي باسلٌ    
مرٌّ مذاقتُهُ كطعم العلقمِ
هذه هي صفات الرجل الذي يتقنُ متى يسْهُلُ، ويتقن متى يقسو، ليونة الرجل قوة في مكانتها الحقيقية، وإذا ظُلِم فإن حريته تناديه وتعصره ليكون أكثر مرارة من طعم العلقم.
ومع حريته كان يحق له أن يلهو ليثبتها، فالعبيد ليس لهم زمنٌ للّهو والمتعة، ومجاهرة عنترة بشرب الخمر هي مجاهرة بِحريّة كانت مكبوتة ومقهورة. كان يحضر مجالس الشراب، ومجالس الشراب كانت عند الجاهليِّ تعبيرًا عن السعة واليسر والغنى. وعلى الرغم من تهتك الشراب وشاربه يعود عنترة إلى منابع رجولته المحافظة على الشرف، حتى في حضرة الشراب:
فإذا شربتُ فإنني مُستهلكٌ   
مالي وعرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ
وإذا صحوتُ فما أقصّرُ عن ندى
وكما علمْتِ شمائلي وتكرّمي
نعم، عنترة كان يتباهى باحتساء الخمرة، ولكن لا «يُتَعْتِعُهُ السُكْرُ» كأبي نواس. شربُ الخمرة عنده خلعٌ لثوب العبودية القبلية، في خمرة عنترة مباهاة لا عربدة. هذا جعل الخمرة حاملة لترفه من ناحية، وللحفاظ على قيمه من ناحية ثانية، «عرضه وافر لم يكلمِ» وشمائله وكرمه حاضران باستمرار، وعبلة هي مراقبة حضور قِيَمه العالية، ولهذا يظل مستعملًا معها لغة الخطاب.
ومن أجمل الشعر الإنساني في معلقة عنترة بن شداد أَنْسَنَةُ حصانه. حصان عنترة هو دائمًا في المقدمة كفارسه، فإذا كانت الرماح كأشطان بئر في صدر حصانه، فإنّ حصانه سيتضايق وسيعاني كفارسه، وسيعبّر عن تضايقه ومعاناته بازوراره:
ما زلتُ أرميهمْ بثغرةِ نحرهِ   
ولبانهِ حتى تسرْبَلَ بالدمِ
فازْوَرَّ من وقعِ القنا بلبانِهِ      
وشكا إليَّ بعَبْرةٍ وتَحَمْحُمِ
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى  
ولكان لو علمَ الكلامَ مُكَلِّمي
عنترة بن شداد شاعر تجربة وموقف، لذا تميز شعره بالحضور في الآخر للاعتراف به شاعرًا وفارسًا وإنسانًا نجيبًا. عنترة كان هو شعره قولًا وسلوكًا. لقد حمل في شعره الحب والحرية، ومنهما صيغتْ قِيَمه العليا. كان الرسول محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما وُصِفَ لي أعرابيٌّ فأحببتُ أن أراه كعنترة»، وكان الرسول يتمثل بقول عنترة:
ولقد أبيتُ على الطوى وأظلّهُ   
حتى أنالَ به كريمَ المأكلِ