الرّؤية الشّعريّة في «ضوع الياسمين» عند محمّد توفيق أبو علي زمن الوعي الملتبس «الإشكاليّ» وحداثة السّؤال

 الرّؤية الشّعريّة في «ضوع الياسمين» عند محمّد توفيق أبو علي  زمن الوعي الملتبس «الإشكاليّ»  وحداثة السّؤال

   إنّ غاية النّقد إعادة إنتاج النّصّ بعد التّعامل مع العلاقات ما بين مستوياته التي تشتدّ فيها الكلمة رونقًا كلّما تلهّبت التّجربة والممارسة الّتي تفيض وتؤطّر لمشروع حداثيّ مُتبنٍّ ثقافة مستقاة من تطلّعات الواقع، بعد توالدها منه على وقع قضاياه وأزماته وتحدّياته، لتؤسّس ثقافة مستقبليّة تجاوزيّة، غير مكرورة ومستهلكة، أو محكومة بهنات الضّعف، ثقافة تلامس حدود الكشف أو أكثر، وبذلك يمتزج الفكر بالوجدان ذي الانفعال الحادّ، لتأتي الفيوضات الرّوحيّة والفكريّة متزامنة مع الوعي المستنهض المكبوت، والعامر بالرّؤى السّاعية للتّحوّل المتجانس والهمّ الإنسانيّ، بعد تخطّي مواطن القلق المنبعث من تحدّيات الواقع. وعليه فإنّ النّقد «كتابة في الكتابة... وهو أبعد من الشّرح والتّعليق، إنّه علم التّاويل».

 

من هنا، يأتي الشّعر صوتًا آخر، خطابًا أدبيًّا مستفزًّا إيجابًا، ينتهي ليتلقّف (المتلقّي) القارئ النّموذجيّ (Model Reader)، وفق ما يراه «أمبرتو إيكو»، إبداع الشّاعر وحرّيّة قلقه، فيسعى إلى تنشيط الحوار الخلّاق معهما عبر التّعامل والتّفاعل مع النّصّ، وإضفاء الحركة عليه بتشريعه على أقصى حالات التّأويل الممكنة له والمحتملة، والضّامنة للشّعر ديمومته المنبنية على رؤية الشّاعر المغامرة والمرتبطة بالقلق، والمنفتحة على تبنّي السّؤال الغريب الذي يؤهّل الشّعر ليكون مادّة خاضعة لقراءات نقديّة شتّى هي على ارتباط بثقافة كلّ متلقٍّ، ومرهونة بمدى استيعابه الشّعر. فالنّقد شهادة تضيف إلى الشّاعر شاعرًا آخر، وإلى الأديب أديبًا، لأنّه رؤية ناقد لرؤية أديب، بعد تسليط الضّوء على مواطنَ تتبنّى ثقافةً بأبعاد فيها التّحدّي والعمق، إذ على الشّاعر التّلميح، على الرّغم منَ التّحدّيات والأسى، إلى إمكانيّة تدوين الأمل على وقع الوعي ونيّة الضّوء المرتقب، وهو ما يعني تطلّعًا أكثر من السّواد.

ثقافة استثنائية
إذًا، لا بدّ من رؤية شاعر قائمة على ثقافة تحكمها الاستثنائيّة، لإماطة الضّبابيّة عن الحقيقة الّتي تظلّ جزئيّة، لأن إدراكها الكلّيّ يعني اليقين الّذي يُلزم بالتّسليم، ويفترض الجمود والثّبات في سيرورة الزّمن وحركته الفاعلة، وهو ما يناقض حال العقل المفكّر، لأنّ ذلك اعتداء على معادلته. وعلى تلك الرّؤية الإتيان بحداثة الأسئلة القلقة والمحرجة المسهمة في تأسيس زمن الوعي الآتي بعد تدمير الزّمن الرّاهن، وإعادة خلقه وإيجاده، أسئلة تُطرحُ على الثّقافة بعد العثور على شرعيّتها لتخطّي مأزقها المتجسّد لدينا بمأزق الواقع العربيّ برجعيّته، بمعزل عن ترقّب الإجابات الّتي تحدّ الأفق، وتؤطّر مجالاته. 
ومن هذا المنطلق، يأتي الوقوف عند الرّؤية الشّعريّة إلى العالم المرجعيّ في شعر «محمّد توفيق أبو علي»، إذ تعدُّ معظم قصائد ديوانه «ضوع الياسمين» قراءة في التّاريخ الرّاهن وتراتبيّته، وهو ينطوي على دلالة لافتة في شبكة العلاقات التي يحويها بوجه خاصّ، إذ يتبنّى وجهين نقيضين في فضاءات قصائده. إنّه يحمل اللّحظة التي ترسم نقطة البدايات التي تجعل من الإبقاء على الحياة إشارةً أشدَّ حضورًا من العدم، مع الإعلان عن انتهاء مرحلة زمنيّة بضبابيّتها وسوداويّتها، لتنطلق أخرى في أفق لم يؤطَّر زمانه.  فالشّاعر «أبو علي» يحيا ضمن فراغات تكبّل الواقع المأزوم العاصف الذي يتولّد في سياقاته وعي، يتحدّد بفعل عوامل خارجيّة تتضافر، ليهبه اندفاعًا أعمق من الجراح، يستلهم من الحبّ طاقات الحضور الأقوى من زمن الإقصاء والهامشيّة، وهذا ما يتكشّف عنه المعنى الذي تنطقه افتتاحيّة القصيدة الأولى «للياسمين»:
قالَتِ الشّمسُ لضوعِ الياسمينْ
إنَّ ضوئي شاخَ لولا عبقٌ
يمحو عنِ الضّوءِ أماراتِ السّنينْ
وأنا أشهدُ أنِّي
- قالَ عصفورُ الهوى -
لولا أريجُ الياسمين الغضّ ما كنْتُ أغنّي

في ما تقدّم، تكثيفٌ للدّلالةِ الّتي تنسجها ثنائيّة (الموت/ الحياة) المطروحة في الرّؤية الّـتي تؤدّيها، يجول بينها الوعي المندرج ما بين النّقائض والأضدّاد، يستجلب النّبض مع عبق ربيعيّ يهب النّور دفعًا، فينبثق ثانية من حيث الظّلمة والذّبول ببشارة تجعل منَ التّجدّد علامة على إمكانيّة تحوّل الواقع وولادته ثانية، ويساند هذه الأبعاد ما ينطوي عليه معنى «ضوع الياسمين» من جزئيّات تعارضيّة تُفضي إلى (النّهاية/ البداية)، (الزّمن الماضي/ الزّمن الحاضر)، (الظّلام/ النّور)، (العجز/ الإرادة)، (الغياب، الحضور)، (الحزن/ الفرح)، (التّقادم/ التّجدّد)، (العذاب/ الرّاحة)... لذا، لا ينأى المعنى الأسطوريّ للانبعاث والولادة الجديدة الحداثويّة في عنوان الدّيوان، عن هذه الدّلالات، فالعبق يمارس دور الباعث الأسطوريّ «تمّوز» الّذي تنعقد عليه لحظة التّحوّل الّتي تصيب عناصر الطّبيعة (الشّمس، الضّوء، عصفور الهوى)، ويبدو كأنّه الفارق بين الفصول (الشّتاء/الرّبيع)، (الذّبول/النّماء)، (الجدب/الخصب)، (الخمول/الإرادة)، (اليباس /الغضّ)، إنّه اللّحظة المقصية الكآبة ليربو عليها الصّباح الفأل.
هذه الدّلالة البينيّة تتواتر في معظم قصائد الدّيوان لتوحّدها في عالم شعريّ ينبسط فضاؤه الدّلاليّ ليجسّد اللّحظة بالمعنيين الزّمانيّ والمكانيّ، ويأتي الوعي جامعًا بين زمنين متباينين يتولّد منهما النّفس الانتفاضيّ المنسرب من قصيدة «سأغنّي... لنْ أخافَ العاصفة»، إذ تتقاطع القصيدة ما بين زمن مضى وآخر يجيء، يتوسّطهما الحاضر غير الواقف، بل القائم على صراع دائم الحركة والتّوثّب، هو الاستمرار المطلق الّذي تعتاده الرّوح بلا وجل:
سأغنّي... لن أخافَ العاصفة...
عندَ الضّفافِ ذوتْ أسًى أحلامُنا
ذرفَ الأحبّةُ ما تبقّى وارتوَوْا
منْ دمعهمْ، ومضى يعانقُ وجْدَهُ في القاعِ قاعْ
أتكسّرَ الوعدُ العصيُّ على الذّبول، وأشرقَتْ 
شمسُ الغروبِ، اخضوضرَ الموتُ الّذي كسرَتْ مراياه السّنابلْ؟ 
يقرأ الشّاعر أفقه متخيّرًا مكانته بوجه حقيقيّ يقينيّ بمعزل عن القناع الّذي قد يُرغم على تبنّيه لمسايرة الواقع بتفاصيله، فقد حسم الموقف لئلّا يتأرجح بين قطبين على حدِّ نقيض، بين الرّغبة في الحياة ومظاهر الموت المستشري في كلّ ناح.  فالفعل المضارع «سأغنّي» يشكّل مفارقة، إذ بفضله يوازي تصاعد الشّعور بالخيبات والعجز عن الفعل على المستوى العام، مستوى الواقع الّذي لم يبقَ من مجده سوى المرارة، يوازيه تصاعد الشّعور بالمقدرة على السّيطرة على الفعل، في عالم الشّاعر الفرد المتحوّل من صورة شريك في واقع بهتت أحلامه، ولا يفلح أناسه مهمّة سوى ممارسة البكاء المكرّس السّلطة للقهر الصّارخ، إلى صورة المتمرّد المتجدّد الّذي لا يقبض عليه الأسى سوى الرّغبة الملتحمة بالتّصميم، إذ تنعكس فيه حال الإصرار النّابع من إرادة متجسّدة فعلًا يتناسخ فرحًا يعيد تشكيل صورة الواقع المتمظهر وجعًا ليصنع مصير الأمّة العربيّة بعناد مستمرّ، عبر اختراق صوت الغناء الآذان ليثيرها بإيقاع يتفلّت ناحية الإحساس فيفعّل مهمّته النّهضويّة، بمعزل عن ترويضه بعبارات الهزيمة والإصرار عليها.  والبيّن أنّ الحاضر غيرُ مقصيٍّ، فهو محمّل بزمن غير مقيّد يؤّكده حرف «السّين» المصرّح بأنّ الإتيان بالمستقبل سيكون لانتشال الإشارة من الحاضر المسحوق والمغلّب بالقهر، وبمشهديّة الألم، ليصرفها إيجابًا نحو القادم، لأنّ رحلة العمر تتأرجح بين (الألم/الرّاحة)، (الهزيمة/ الانتصار). 
إذًا، يأتي الفعل «سأغنّي» ليصف العلاقة بين المستقبل والماضي بأنّها «تجاوزيّة»، أي تتجاوز الماضي بأحماله ومحطّاته المنكسرة ومواقفه التّاريخيّة المشحونة بالهمّ، لترفدها برصيد جديد، ومعطيات من نتاج الحاضر الّذي حتمًا سيصير ماضيًا، وهذا ما تجسّده الأفعال «ذوت، ذرف، ارتووا، مضى»، فهي إشارات زمنيّة لتغيّب الحاضر، لكنّها لا تلغيه، ولا تنفيه، إنّه سجن العربيّ الحقيقيّ، والممرّ الحتميّ نحو قارعة الزّمن الآتي بالبشرى، وغير العصيّ.
يطرح الشّاعر الأنا المتعالية، بصورة شعريّة سامية، بمعزل عن التّماهي مع التّقويض، أو الهبوط بنموذجها إلى المستنقع الموحل الّذي بفضله ذوت الأحلام المشرقة، واستفاض النّاس في ذرف دموعهم إلى حدّ الإسراف، إذ تلخّص حالهم الكناية «وارتووا من دمعهم»، إنّها تكشف عن علامة أخرى من علامات واقع القبح والاضطهاد والتّبعيّة والعذاب، وهامشيّة الأداء، وهذا ما حدا بالشّاعر إلى اختزال حضورهم بهذه الصّورة الّتي مع مثيلاتها تنضح بالإشارة الكافية الملخّصة الواقعَ العربيَّ المتحرّرَ من الضّوء:
القمحُ في أحداقنا غلسٌ... متى
يا قمحُ تذروكَ الأناملُ؟
فالقمحُ هو عين الحُلم، والسّبيل لعودة الحياة عبر المخلّص، لكنّ القمح لم يحن دوره ولم توفّر فرصته، على الرّغم من الحاجة الملحّة إليه، فرمزيّته تعني المدّ بالطّاقة والقوّة المحقّقة الاستمراريّة والتّبدّل ودوام الحركة الفاعلة، بعد اختماره على بيادر الحصاد، وإنّ السّياق الّذي ورد فيه يكشف عن أنّ مجابهة واقع القبح لا تزال مشروطة بالتّحرّر من قيود الظّلام، أي بتهيئة مقوّمات التّحوّل المستند إلى ثورة نقيضة للاستسلام، عصبها نبض الأجيال الّتي تظلّ موئلًا للتّغيير، وأملًا بإعادة تعديل الأولويّات عبر سحق المنتصر الظّالم، وإقصاء إرجاء هزيمته إلى مرحلة لاحقة.  إنّ تضاؤل الأمل حدا بالشّاعر إلى طرح السّؤال الّذي تتجرّد قصديّته من الاستحصال على إجابة مؤطّرة، لكنّه مفتوح على الحسرة والأمل، فظرف الزّمان «متى» يحيل الحلم إلى مطلق مستقبل، ويُخرج الفعل «تذروك» من دائرة الحاضر ليحرَّك عصبُه في رحلة الزّمن القادم. وهكذا، لا بدّ لسوداويّة الواقع أن تستحضر ضدّها الّذي يؤسَّس بحضورها، حتّى في علاقات الغياب.
إنّ علاقة الشّاعر ليست ملتبسة مع واقعه، بل هي علاقة العارف المنقسم الوعي حول حيثيّات زمانه ومكانه، المنقّب عن وجه حقيقيّ، والمدرك في قرارة حسرته أنّه لن يلمس القاع، بل سيظلّ يجدّ لاستعادة القيامة، وهنا كشف عن علاقة عالم الآخرة، عالم التّطهّر، بالعالم التّرابيّ المادّيّ، فعلى الرّغم من مرض الأنين الّذي يحمل معه الموت الّذي يغدو صورة مرتسمة ومتواترة في كلّ ناحية، يطرح «محمّد أبو علي» أناه المتّسقة منطقيًّا مع روح اللّااستسلام، في محاولة لتخصيب المشهد القائم بالإيمان الحاسم بالمقدرة على الإطاحة بالمشهديّة الضّبابيّة، أو ربّما لاستبداله بواقع ملامحه مفرحة، ليكون البديل على مستوى الوهم، أو النّقيض لما يعتمل في داخل ذات الشّاعر، ويرفق ذلك محاولات لتطهيره ممّا يحاوطه، أو لقلب الصّورة على نفسها، وتحويل النّقيض إلى نقيضه، وذلك في سياقات شعريّة تزخر بالصّور البيانيّة المركّبة المساندة في تشكيل تحوّلات العالم المرجعيّ.

وعي ملتبس
لكن بعد تأطير معالم التّحدّي، سرعان ما يتصاعد مجدّدًا حضور الزّمن الّذي يسحّ كآبة، وذلك في قول الشّاعر «أبو علي»:
ماذا أقول؟
وأنا الشّريد من الحطام إلى الحطام
وأنا ضريح راحلٌ نحو القيامةْ
فمتى توارى جُثّتي 
في هذا المقطع، يمسي وعي الشّاعر إشكاليًّا ملتبسًا دالًّا على فضاء مكانيّ متعادل في اتّجاهاته كلّها، فأينما يمّم ناصية رغبته بالأمان أَوصَدت عينيه قساوةُ المشهد العربيّ الّذي تغذّيه الأحداث الدّمويّة المتجرّدة من الأبعاد المؤمنة بإنسانيّة الإنسان، والتهمه الضّياع المعدول عن الألم، وتغيّب الاستقرار «وأنا الشّريد من الحطام إلى الحطام»، وهذا ما يشير إلى الوجع التّاريخيّ الموروث المترهّل بالتّجارب الخارجة عن دائرة الإيجاب، ولا مفرّ من المراوحة في هذا المستنقع إلّا بالموت معبر الخلاص، ومرآة لزمن آخر فيه الانبعاث المجسّد حال طائر الفينيق المبشّر بالخلود بعد انتفاضته من تحت الرّماد إلى الحياة العائدة من صلب الانتحار والاحتراق، ليمدّ إنساننا العربيّ ويحدوه إلى النّهوض والاندفاع قُدمًا نحو المستحيل بلغة التّحدّي والتّجدّد والقوّة اللّامحدودة. وفي عبارة «وأنا ضريح راحلٌ نحو القيامةْ» إشارة إلى التّناقض المكانيّ المشير إلى اجتماع الموت والبعث في معادلة يتساويان فيها في الضّريح، وهذا موازٍ للتّناقض الزّمانيّ الّذي يتحرّك فيه الوعي بين الشّعور واللّاشعور، وفي خصوصيّة كلّ منهما.  إنّ هذه اللّحظة المعرفيّة تغرورق بالارتباك، وهي التي تفقد الشّاعر الثّقة بتداعيات العالم المرجعيّ كلّها، وكأنّه لا إجابة لديه سوى اقتحام هذا العالم، ومجابهة لغز الوجود بأعبائه عبر تجاوز وعيه والتّمرّد على نمطيّته المعتادة، وانتظار أن يحين المستقبل للدّخول فيه حيث توارى جثّة الشّاعر، لأنّ في ذلك رحلةَ إيّاب متوكّئةً على الجراح. 
  إنّ الدّلالة الملتقطة تتلخّص بوجوب إقصاء مرحلة زمنيّة فيها العجز والرّكون والرّماد والتّخلّف والتّبعيّة، والتّحوّل إلى زمن فيه ردّة فعل قائمة على تحقيق نهضة حضاريّة فكريّة ثقافيّة، تنتشل الأمّة من مآزقها المتوارثة، وتُجري حوارًا مع ما سلف للانطلاق من معطياته، والبناء عليها، وهنا تتجسّد لحظة حداثة السّؤال الّذي فيه محاولة لإعادة التّأسيس لمعالم جديدة تعي خصوصيّة المكان في علاقته بالزّمان المتعدّد الأبعاد، ويتجلّى ذلك في قول الشّاعر:
خبّأت أغنيَتي لوجهِ حبيبتي
أيعودُ وجهُ حبيبتي،
أمْ يختفي تحتَ الرّكام؟ 

بين وجع الماضي وقساوة الحاضر 
اللّافت، في ما سلف، استدراك الشّاعر وعيه ليربطه بالحبيبة، محدّدًا وجهة أغنيته الّتي لم يطلقها في فضاء مكانيّ وزمانيّ مفتوح وعصيّ على التّحقّق، لقد استبدل وجع الماضي وقساوة الحاضر بحلم المستقبل الّذي سيَصطنع من وجه حبيبته وجهًا آخر جديدًا بمقوّمات أكثر عمقًا وحبًّا وحرّيّة وعدالة وصفاء، تدفع كلّها إلى الإفصاح جهرًا عن أصل الحبيبة، ودورها:
بغدادُ وجهُ حبيبتي
وأنا أُرنّمُ حزنَها
فرحًا يُسجِّعُهُ اليمام 

في هذا المقطع، تُقتنص خاصّيّة الوعي المدينيّ المتمرّد على حال المدينة، مستبدلًا بها نمطًا حياتيًّا مخالفًا على إيقاع المكابرة، وإحالة الوجع فرحًا يشترك في صناعته اليمام رمز السّلام.  وفي هذه الصّورة الشّعريّة المركّبة من تشبيه وكناية واستعارة تجتمع وتأتلف موروثات الماضي، وأحلام المستقبل، ومستجدّات الحاضر، وكأنَّ فيها تكثيفًا للتّاريخ بأبعاده الزّمنيّة الثّلاثة.  إنّه وجه بغداد الخيار للنّجاة، ففيه تحسين شروط قيامتها عبر إقصاء الحروب والغزو والقهر، وفي ذلك يبحث وعي الشّاعر في مدينة بغداد التي يعانيها ويتألّمها عن المدينة الّتي يطمح إليها، بعد خلعها قيودَ سجنها، وركامَ غزوها عبر العناد.  وقد ترافق ذلك مع الشّكّ الّذي لم يفارق الوعي غير المهتدي إلى يقين عودة بغداد إلى سابق مجدها، عبر تفعيل الحضور بعد الانكسار، أو بقائها رازحة تحت وطأة الرّكام المؤدّي دورًا بوصفه علامة سيميائيّة دالّة على موت الأحلام المرادفة عودةَ وجه الحبيبة وجه العروبة والثّقافة والمجد، ومدينة الدّنيا، ومصدّرة السّلام والفكر والحضارة، لتكون صورة المدن العربيّة الّتي ترنو إلى الحضور والتّأثير والفاعليّة. 
  ويمتدّ وجع الشّاعر المنتمي إلى الأرض مظهرًا استحالة رقيّ الوعي بتحوّلاته المقاربة الحداثة، إذا ما تمّ التّعمّد بوجع القدس، حيث تتنامى الرّغبات، على وقع صلب الشّعب الفلسطينيّ، بعودة الماضي المفقود الّذي أطّر جغرافيّة العروبة المحمّلة بالكثير من العزّ والشّموخ وبلوغ القمّة، ماضي الذّكرى المحرّضة على التّغيير، ومناهضة العنصريّة، والتزام قضايا الأمّة العربيّة المقلقة بترميم حقوقها، ليتمّ نشرُ العدل المتمادي من قبلة العرب، والذي يبتدئ بوعي التّحديث المنادي بالحرّيّة والانعتاق من القهر والهزيمة، عبر إحياء المجد:
يا قدسُ ماذا قالَتِ الرّيحُ الّتي عصفَتْ بنا
وصحا من العصفِ الجميلِ طلولُ؟
يرموكُ ذاكرةٌ رَنَتْ
حطّينُ ذاكرة زهَتْ
الله أكبرُ: صرخةٌ وخيولُ! 

وجدان عربي مستكين
إنّ استنطاق الرّيح له بعد دلاليّ على صلة نقيضة بالوجدان العربيّ المستكين، لأنّ الرّيح سبب مأساته، تستجرّ القهر والقمع والتّخلّف والمحن المتواترة بفعل الحروب والاحتلالات الّتي ما رست على همجيّة الأداء الصّهيونيّ وعنصريّته... لكنّ الرّيح هنا تؤدّي مهمّة بوصفها علامة إيجابيّة على الصّحوة والثّورة المحمّلة بالبعد المشرق المرادف صورة القدس الحياة، وبناءً عليها يمكن تأطير الواقع وفق ثنائيّات تعارضيّة (الهدوء/ العاصفة)، (الخوف/ الأمان)، (الجمود/ الحركة)، (العبوديّة/ الحرّيّة)، (الاستسلام/ الثّورة)، (الموت/ الحياة)... فعصف الرّيح مع ما يختزن من ويلات يحرّك الجمود العربيّ ويحرّضه ببعديه:  بُعد الانجذاب إلى الماضي الحضارة والثّقافة، لا للتّباكي على الطّلول، بل لبعث الحنين، وإحياء الرّغبة في عودة المجد عبر بنائه وفق معطيات الحداثة والتّحديث، مع عودة مشروع الوحدة العربيّة المتنصّل من رعب الاتّهام؛ وبُعد يغدو فيه «العصفُ» مستحبًّا ومحمودًا، لأنّ مفاعيلَهَ مستقبليّةٌ في الزّمن غير المستحيل، فهو سيردُّ القدسَ قضيّةً توافقيّة، ومركزيّةَ الهمِّ والعروبةِ، وبوّابةَ الخلاص والمعاد الذي تنتهي إليه القلوب الخاشعة، والعقول المتعصّبة للصّحوة. فالقدس برمزيّتها هي النّموذج الأصيل بالصّمود الذي يدوّن قيامة الأمّة العربيّة، لأنّها وجهُ المدن العربيّة، تلهمها الوعي والشّرارة المثيرة النّبض الصّاخب حركة وفعلًا يجتاز الحدود والزّمن إلى النّفوس المنهزمة، ليصنعَ لها زمنًا مُجدّدًا روحيّةَ المكانِ ودلالاتِهِ، ومستندًا إلى الذّاكرةِ الحيّةِ المحمّلةِ بالذّكرى المحفّزةِ على المبادرةِ لإعادةِ تدوينِ التّاريخِ بما يصحُّ ويصلُحُ ■