أَرْز شمال لبنان في كتابات الرحّالة (من القرن الـ 16 إلى الـ 19)

أَرْز شمال لبنان في كتابات الرحّالة (من القرن الـ 16 إلى الـ 19)

في القرن السادس عشر انتقل الشرق إلى وضع جديد تمثل في انتصار العثمانيين على المماليك.  وقد وصلت تردّدات هذا الحدث إلى أوربا، فأيقظت نوعًا من الفضول لمعرفة هذا الواقع المستجدّ، تمثل في عدد من الرحلات إلى الشرق، منها لبنان، نقلت إلى الغرب صورة مغايرة نوعًا ما لما ألفه في رحلات سابقة.

 

وقد حظي أرز لبنان باهتمام الرحّالة الأوربيين خصوصًا، والغربيين عمومًا، الذين كانوا يقصدونه كلّ سنة من مختلف أنحاء العالم للتمتّع بجماله.  واكتست زيارة غابة الأرز، القائمة في جوار بشرّي شمال لبنان، نكهة خاصة، إذ كان لا بدّ لكلّ سائح يجول في سفوح جبل لبنان من أن يكحّل ناظرَيه بمشهد الغابة، ويسجّل ما تجود به قريحته من انطباعات عنها.
كانت غابات الأرز تغطي قمم لبنان وتمتدّ على مساحات شاسعة، فلا تكاد تُقطَع أشجار في منطقة ما حتى ينبت جديد في منطقة أخرى. والاسم النباتي العلميّ لهذه الأشجار هو «سيدروس ليباني» أي «الأرز اللبناني». وهذا النوع يعيش في جبال لبنان وطورس وأمانوس وفي جزيرة قبرص على ارتفاع1300م وما فوق. وقد مكّن خشب الأرز اللبنانيين من بناء السفن، فكانت لهم الأساطيل التي أثارت إعجاب الأمم، فطلب المصريون والآشوريون والفرس إليهم أن يبنوا لهم أمثالها ويعلّموهم قيادتها.

هيكل سليمان
تذكر المصادر التاريخيّة أنّ قسمًا من هيكل سليمان بني من أخشاب أرز لبنان. ويُجمع معظم الرحّالة على أنّ الملكين داود وسليمان استخدما خشب الأرز لبناء هيكل القدس، فاقتُطع الخشب من أرز لبنان بإذن من حيرام ملك صور الذي بعث إليه الملكان بموفدين لهذا الغرض، من هنا أطلق على غابة أرز لبنان اسم «غابة أرز سليمان». وهذه الهالة التي اكتسبها أرز لبنان في التاريخ القديم حملت الرحاّلة ماغري على القول في عام 1624 إن كثيرين يعتقدون أنّ هذه الأشجار بقيت سالمة زمن الطوفان الشامل. وأضاف الرحّالة الإسباني ديل كاستيلو في عام 1626 أنّها أشجار لا ينالها الفناء، في إشارة إلى قدميّتها وتحدّيها العوامل المناخية الصعبة.
استحوذت غابة الأرز على إعجاب الرحّالة، فوصفوها بأجمل الصور، وكتبوا عنها بحرارة قلوبهم وسحر أقلامهم، ويعدّ العالم الفرنسي بيار بيلون، الذي زار لبنان في منتصف القرن السادس عشر، أقدم سائح أتى على ذكر هذه الأشجار. 
للوصول إلى جبل الأرز، كان الرحاّلة، في معظمهم، ينطلقون من طرابلس، فيسلكون طريق زغرتا - إهدن في الوادي الممتد عند أقدام قاديشا، عبر ممرّات جرداء عمودية، شديدة الانحدار، واجتياز الممرّات شديدة الخطورة سيرًا على الأقدام.
تقع غابة أرز لبنان في مكان مشرف رائع، أرضه غير مستوية، تخترقها الوهاد، وتشغل فسحة يصل محيطها نحو ثلاثة أو أربعة كيلومترات، كما حدّدها كلّ من بوكوك وأزاي أواسط القرن التاسع عشر. تنتصب عند مدخلها شجرة عملاقة شهدت لها الأجيال، على حدّ قول الفيكونتس دافيو دو بيولان في عام 1880. وتحيط بالغابة منطقة صخرية جرداء ربما كانت، قديمًا، مغطّاة بأشجار الأرز، كما لاحظ راوولف في عام 1573، لكنه لم يجد أشجارًا جديدة. وهذه الأشجار كلّها أرزات متشابهة، يبعد بعضها عن بعض مسافات قليلة، ويصل ارتفاع بعضها إلى حدود الخمسة والعشرين مترًا. ولا تعدّ هذه النسبة فريدة في نوعها، إذ غالبًا ما كانت العواصف تحطّم الأغصان، ما يجعل الشجرة تنمو وتتسع أفقيًا. من هنا كانت ضخامة أغصانها وتداخلها بعضها ببعض، وامتدادها كمظلات فسيحة إلى مسافات تصل أحيانًا إلى خمسين مترًا، بحيث يستطيع الإنسان أن يتمشّى فوق هذه الأغصان من دون خطر الوقوع على الأرض، ويمكّن أيضًا، على حدّ قول غيرين، عددًا كبيرًا من السياح من التنعم بظلالها الوارفة.
يضيف بعض الرحالة في القرن التاسع عشر، أن هناك غابة صغيرة من أرزات حديثة العهد قدّروا مجموعها بين 300 و500 شجرة مختلفة الأعمار والأحجام، منها ما هو قريب، ومنها ما هو في جوار الغابة. ويجاريهم في ذلك عالم أوربي جاء عام 1884 وأحصى 397 شجرة. وذكر مبشّر أمريكي زار الغابة قبل هذا الأخير بسنة أن هنالك  390 شجرة أرز. وعلى الرغم من ذلك يجب عدم الاعتماد على أقوال بعض الرحّالة ممن أطلقوا على أشجار السرو واللزّاب اسم «الأرز الفتي» أو «الأرز القزم»، وذلك لجهلهم بعالم النبات.
تباينت انطباعات الرحّالة لحظة وصولهم إلى غابة الأرز. الرحالة الإسباني كينتانا قال في العام 1877 إنّ غابة الأرز قدّسها الشعر والتاريخ. أمّا بوجولا فقال في العام 1831: ليس هناك ما هو أكثر سحرًا وشعرًا من أرزات لبنان العريقة.  ودهش الإسباني فيلاسكو ديل ريال أمام ما رآه في غابة الأرز في العام 1889، فقال: «ليس هناك  ما هو أعجب من ذلك المكان!» وشبّهها الرحالة الفرنسي غودار أواخر القرن التاسع عشر بأكروبول أثينا وأهرام مصر من حيث شهرة الأرز وعظمته.
أمّا فولني، الذي كابد مشقّة اجتياز الطرقات الوعرة وتسلّق العقبات الكأداء للوصول إلى الأرز في ثمانينيات القرن الثامن عشر، فقد رأى أنّه لا يستحق كلّ هذا العناء، مع أنّ بعض الرحّالة يشككون في أن يكون قد قام فعلًا بزيارة الأرز. كذلك صرّح السائح تور بعدم أهمّيّة أشجار الأرز الشبيهة، على حدّ تعبيره، بالعشّ الصغير المتواري في منحدرات الجبال. 
انشغل الرحّالة بمعرفة أعداد أشجار غابة الأرز القديمة، فأوردوا أرقامًا مختلفة، أقدمها نحو 28 شجرة، أحصاها بيلون في عام 1550، وآخرها 12 شجرة وفقًا لما ذكره غودار مطلع القرن العشرين. ويمكن ملاحظة الاختلاف في الأرقام حتى في السنة الواحدة، ففي عام 1596 أحصى فيامون بين 24 و26 شجرة، فيما أحصى موندريل 16 شجرة فقط. بيد أنّ معظم رحالة القرنين السادس عشر والسابع عشر يوردون عددًا يفوق العشرين شجرة.  ولا يختلف الأمر كثيرًا في القرن الثامن عشر. أما في القرن التاسع عشر فإنّ العدد تراجع إلى ما دون العشرين شجرة، إذ أحصى ديدو سبع أشجار بين 1816 و1817، وكذلك بيلله وغاليبير في أربعينيات القرن التاسع عشر، وكينتانا في العام 1877، والفيكونتس دافيو دو بيولان في العام 1880. وفي العام 1831 ذكر دي جيران أنّه شاهد بين 13 و14 شجرة، فيما شاهد بوجولا في العام نفسه 15 شجرة، وبلوندل بين 8 و10 أشجار في العام 1839. أمّا أزاي في أواسط القرن التاسع عشر، فيشير إلى وجود اثنتي عشرة أرزة قديمة. وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر عثر الفيكونت ده فوغه على ست أشجار من تلك الغائرة في القدم.  وأخيرًا، أحصى غودار في مستهل القرن العشرين 12 أرزة عملاقة. 
ربّما يعود هذا التباين في الأرقام إلى بعض الجذوع التي كان يُقسم كلّ منها أحيانًا إلى ثلاثة أو أربعة جذوع تنمو متّحدة متلاصقة، فيختلط الأمر على الرحّالة، ويحارون في كيفيّة إحصائها.  بيد أنّه لا يوجد ما يشير إلى صحّة هذه الإحصاءات أو عدم صحّتها، إذ ما من مرجع موثوق يمكن العودة إليه في هذا الشأن.
يبقى أنّ التراجع في أعداد أشجار غابة الأرز جيلًا بعد جيل مردّه إلى جملة عوامل، منها أنّ الرعاة الذين يحرسون قطعانهم كانوا يدمّرون جذوع بعض أشجار الأرز بسبب النيران التي يشعلونها، أو يتجرؤون على قطع بعض أغصانها، استنادًا إلى ما شاهده كلّ من فيّامون ودانديني أواخر القرن السادس عشر. غير أنّهم عوقبوا بمصادرة جميع ماشيتهم. أضف إلى ذلك عامل الزمن والفأس، كما يشير إلى ذلك بلونديل، ففي العام 1653 قطع البطريرك الماروني إحدى الأشجار ليصنع منها كرسيًّا بطريركيًّا.

إبادة غابة الأرز
لقد ترك ما كانت تتعرّض له غابة الأرز من إبادة أثره في نفوس الرحّالة.  يشير غيرين نحو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، إلى أنّ غابة الأرز ليست سوى عبارة عن بقايا حزينة.  كذلك يبدي فيغا أسفه لقلّة عدد أشجار سليمان الشهيرة التي هي على حد تعبيره «أقل ندرة في ضواحي باريس منها على الجبل الأخضر الذي نسب إليها اسمه». كذلك لم يَرُق السائح أوبريف ألا تكون غابة الأرز بنظر اللبنانيّين سوى عبارة عن مجموعة كبيرة من الأخشاب، فهم بنظره لا يفكّرون في المستقبل، بل إنهم أمعنوا في قطع هذه الأشجار الجميلة من دون أن يشعروا بضرورة إيجاد منتجع للسيّاح في الجبل الموجودة فيه تلك الغابة.
يبدو أنّ التمادي في قطع الأشجار كاد يبيد الغابة، لذلك لجأ البطريرك الماروني يوسف حبيش (1823-1845) إلى إلقاء الحُرْم على كلّ مَن يتجاسر ويقطع أصغر غصن من أشجار الأرز من دون إذن، كما يذكر دي جيران، وذلك للحفاظ على هذه الأرزات واحتياطًا للحوادث التي ربما تؤثر بفقدانها. ويؤكّد بوجولا أنّ كلّ مَن كانت تسوّل له نفسه التعرّض لهذه الأشجار، إمّا بالقطع أو السرقة كان يقع على الفور في «الحُرْم».  لكنّ الخوف من الحُرْم لم يكن رادعًا للمخالفات، لذلك تم اللجوء إلى إجراءات أخرى بغية الحد من قطعها، فقد كان، تبعًا لبوجولا، يُحظَّر دخول غابة الأرز بآلات حادّة، وكان يُحرَّم قطع أي غصن من أشجارها من دون إذن مسبق من البطريرك. 
كذلك نُسِجت حول أشجار الأرز معتقدات وروايات يمكن أن تردع كلّ مَن كان يحاول قطعها. كان السكّان المحليون، بحسب الرحّالة، يعتقدون بأنّ مَن يتجاسر على قطع إحدى هذه الأشجار أو بعض أغصانها يموت، والويل لمَن يتجرّأ على مسّها. ويتحدّث الرحّالة عن شجرتين إحداهما مهملة والأخرى محروقة، ويوردون عنهما روايات سمعوها على ألسنة السكّان المحلّيين، مفادها أنّ رعاة اقتطعوا منذ نحو المئة عام هاتين الشجرتين، فنفق عدد كبير من مواشيهم التي هي كلّ ثروتهم، فلم يجرؤوا على رفع هاتين الشجرتين من مكانهما.  ومنذ ذلك الحين لم يعاودوا هذه الفعلة خوفًا من عقاب مماثل. وبغية حماية غابة الأرز، بنى متصرّف جبل لبنان رستم باشا جدارًا حولها أواخر العام 1870 للحدّ من الأضرار التي تلحقها بها قطعان الماعز.
للرحالة روايات طريفة تتعلق بإحصاء عدد أشجار الأرز، فقد تم تحذير فيّامون بأنّه لا أحد يستطيع إحصاء عددها، فحاول ثلاث أو أربع مرات، فأحصى تقريبًا 24 أو 26 شجرة. وشاهد فرنسوا لو غو في عام 1653 أشخاصًا متطيّرين جدًّا يعتقدون أنه لا يمكن إحصاء الأشجار لأنّ كلّ الذين شاهدوها لا يتفقون على عدد محدّد. ويزعم السكّان المحليون، كما تقول الفيكونتس دافيو دي بيولان في رحلتها إلى غابة الأرز في عام 1880، أنّ أحدًا لم يتوصّل إلى تحديد عدد الأشجار بالضبط. وتضيف أنّ إبراهيم باشا عندما بلغت هذه الأسطورة إلى مسامعه انتقل إلى الأرز مصطحبًا فرقة من العسكر، واستوقف جنديًّا عند كلّ جذع، إلا أنّه حين أراد أن يحصيها تبلبلت صفوفهم بلبلة فشّلته في مهمّته.
أثارت ضخامة جذوع الأرز دهشة معظم الرحّالة، فذكروا أنّ بعضها من الضخامة ما يحتاج إلى عشرة رجال لتطويق جذعها. وبالغوا أحيانًا في تحديد قطر بعضها.  يذكر جاك غوجون في عام 1668 أنّ أكبر شجرة من تلك التي تمكن من إحصائها يبلغ قطرها 40 قدمًا، أي نحو 12 مترًا عند القاعدة. ويجاريه في هذا التحديد بوجولا في عام 1831. ويشير بوكوك في عام 1738، إلى أشجار يبلغ قطر جذعها ثمانية أمتار. وتشير الأميرة دي بلجيوجوزو إلى المبالغة الكبيرة في وصف ضخامة الأرز، إذ إنها قرأت أن معبدًا صغيرًا قد حُفِر في أحد الجذوع الضخمة.  إلا أنها، بحسب قولها، لم تعثر لدى زيارتها الأرز في منتصف القرن التاسع عشر، على أثر لأي معبد ولا حتى على جذع يصلح لحفر معبد.

الحفر على الأشجار
كان الرحّالة الذين يزورون الأرز يحفرون أسماءهم وتاريخ زيارتهم على جذوع الأشجار العملاقة، كأنّهم أرادوا بذلك إشراكها في خلوده. ومن بين أبرز تلك الأسماء الشاعر الفرنسي لا مارتين الذي حفر اسمه بحروف بارزة على أحد أكثر جذوع الأرز ضخامة في عام 1832. وقرأ دي سال في عام 1837 أسماء زائرين آخرين أمثال بوكلر، وإبراهيم باشا، والأمير جوانفيل الابن الثالث للأمير لويس فيليب. هذا بالإضافة إلى الكثير من الأسماء الأخرى التي حُفِرت بلغات متعدّدة. في عام 1880، شبّه شوفيير هذه المجموعة من المحفورات، من حيث صعوبة فك رموزها، بالكتابة الهيروغليفيّة التي تُشاهَد على نُصُب ساحة الكونكورد في فرنسا. ويخلص إلى القول بأنّ هذه الأسماء لن تكون سهلة القراءة لاحقًا، عندما تنمو قشرة الجذوع فتزيل معالم حروفها. وقد فتّش تور أوائل القرن العشرين عن الشجرة التي حفر لا مارتين اسمه على جذعها، وحين عثر عليها وجد أنّ كلًا من اسمي الشاعر وابنته قد زال بعض حروفهما الأولى والأخيرة.
وتذكر الفيكونتس دافيو دي بيولان، أنّ الأوربيين هم الذين أدخلوا إلى الشرق عادة حفر الأسماء على الصخر والخشب.  أمّا الشرقيّون، في نظرها، فكانوا يتّبعون طريقة أخرى تقضي بإقامة تلّة صغيرة من الحصى، يطلقون عليها اسم «الدليل». وهذا «الدليل» يشير إلى أنّهم قد زاروا المكان وشاهدوه ■