الرحّالة إيزابيل إيبرهارت في تونس مشاهدات وتأملات في الساحل الشرقي
وُلدت الكاتبة الرحالة إيزابيل إيبرهارت بجنيف عاصمة سويسرا عام 1877، من أب مجهول، وتربت على يد معلمها الراهب الأرميني الأصل، الذي كان يدعى ألكسندر تروفيموسكي، فيلسوف متعدد اللغات. عاشت إيزابيل مع والدتها ناتاليا إيبرهارت، من أسرة أرستقراطية روسية ذات أصل ألماني، وتزوجت من جنرال روسي (بول دي موردر)، أنجبت منه ثلاثة أولاد، وقد تركت وطنها لتنتقل في مدن أوربية، منها جنيف، وباريس، أما إيزابيل فقد ولدت بعد وفاة زوج أمها الجنرال، وقد عاشت طفولة معقدة بسبب نسبها المجهول، فكانت انعزالية، ميّالة لحياة التصوف، وشغوفة بالانطلاق والحرية، عاشقة للصحراء والرمال، مقلّدة للرجال في لباسهم وتصرفاتهم، كثيرة المطالعة ومحبة للتعلم، فأتقنت اللغات الروسية والإيطالية والألمانية، والفرنسية، والعربية، والتركية، والقبائلية الجزائرية (الأمازيغية)، كما ساعدها معلمها ألكسندر في تعلم ركوب الخيل، وهي المهارة التي استثمرتها فيما بعد في تجوالها في قرى ومدن الجزائر.
ارتحلت إيزابيل مع والدتها إلى الجزائر وهي في سن العشرين، وتحديدًا شهر مايو من عام 1897، واستقرتا في مدينة بونة (عنابة اليوم) في الساحل الشرقي للبلاد، التابع آنذاك للعمالة القسنطينية، وهناك دخلت إيزابيل الإسلام، وتبعتها أمها، ونجحت إيزابيل في الانخراط بالمجتمع الجزائري، والتعرف على عادات أهل المنطقة وتقاليدها، لكن ما تلبث أن يخطف الموت والدتها في شهر نوفمبر من عام 1897، هذه الأخيرة دفنت بمقبرة المسلمين في عنابة. زارت تونس في جولة قصيرة قادتها إلى الجنوب، ولمسائل في الميراث عادت إلى جنيف، وبعد وفاة مربيها ألكسندر في مايو 1899، قررت معاودة تجربة السفر، حيث استطاعت الاتصال بمركيزة كلفتها بتقصي ظروف وفاة زوجها في تونس، فسافرت مع أخيها الأصغر أوغسطين في شهر يونيو 1899 إلى شمال إفريقيا، فانتقلت خلال هذا السفر ما بين باتنة وبسكرة وتقرت في الجزائر، وتونس التي أقامت فيها أربعة أشهر من سبتمبر 1899 إلى ديسمبر من العام نفسه، وهي الفترة التي زارت فيها الساحل التونسي، فاتصلت بالشعب هناك، وحرصت على أن تظهر كرجل، ترتاد المقاهي، وتخالط الناس لمعرفة عاداتهم وطرق عيشهم، وقد عانت من قلة الموارد وصعوبة العيش، فعادت إلى مرسيليا، ثم باريس بحثًا عن وظيفة في الصحافة، واستطاعت آنذاك مواصلة الترحال بمفردها، فزارت جزيرة سردينيا، ثم باريس، وجنيف، لتبحر من مرسيليا مرة أخرى إلى الجزائر العاصمة في مايو 1900، بعدها أقامت بين مدن الجنوب الشرقي الجزائري، منها مدينة تقرت التي التقت فيها زوجها المستقبلي سليمان أهني.
كانت إيزابيل إيبرهارت تنجز أكثر رحلاتها وهي متنكرة بزي رجل سمّته «سي محمود السعدي»، كما كانت متأثرة بالطريقة القادرية الصوفية المعروفة بمقاومتها للمحتل الفرنسي، لذلك تعرضت في عام 1901م لمحاولة قتل من أحد رجال الطريقة التيجانية المعارضين للطريقة القادرية، وبسبب ذلك، وبسبب نشاطها المعادي للاحتلال الفرنسي، وتصرفاتها المريبة، ومخالطتها للأهالي، نفتها السلطات من الجزائر، فكانت وجهتها مرسيليا مرة أخرى، التي وصلتها في مايو 1901، ولحق بها سليمان أهني الصبايحي، وتزوّجا في أكتوبر من عام 1901م، وأصبحت فرنسية بسبب هذا الزواج، وتحول اسمها إلى ليلى محمودة، فعادت إلى الجزائر في يناير 1902، واستقرت بالبلاد، ولم تغادرها حتى وفاتها وهي في سن السابعة والعشرين؛ إذ استقرت في عين الصفراء مع زوجها سليمان أهني، فعاشت في منزل متواضع مؤجر، لكنها لقيت حتفها فيه؛ عندما جرف فيضان مساكن البلدة، في تاريخ 21 أكتوبر 1904م، وعثر على جثتها تحت الأنقاض بعد يومين من البحث، فدفنت في المقبرة الإسلامية، وقد تكفل الجنرال ليوثي بذلك. وعلى الرغم من قصر حياة إيزابيل لكنها كانت مليئة بالحركة والكتابة، والإبداع، فتركت مؤلفات في القصة، والرواية، وفن التراسل، ويوميات السفر، التي ضمت خلاصة رحلاتها وتنقلاتها في الشمال الإفريقي، ضمن نشاط التحقيق الصحفي لجرائد ومجلات فرنسية أشهرها «الأخبار»، ومجلة «لاديباش ألجيريان».
مؤلفاتها في أدب الرحلة واليوميات
أسهمت إيزابيل بمجموعة من المحاولات والكتابات الرحلية، جمعت في مؤلفات بعد وفاتها، بفضل جهود صديقها فيكتور باروكون مؤسس جريدة الأخبار، وقد لقيت شهرة واسعة في فرنسا وسويسرا وفي الجزائر كذلك، من أعمالها في الرحلة: «كتابات على الرمال الأعمال الكاملة»، و«عودة إلى الجنوب» (Retour au sud) وهو ملاحظات الطريق في الجنوب الوهراني بالجزائر، و«تحت الظل الدافئ للإسلام»، و«رسائل ويوميات».
صور وتأملات في الساحل التونسي
تتوزع أخبار رحلات إيزابيل إيبرهارت في جل الكتابات التي دونتها، ولكننا سنركز في هذا المقال على كتاب ملاحظات على الطريق المتضمن في كتابات على الرمال، وقد طبعته المكتبة الوطنية السويسرية الروماندية (الناطقة بالفرنسية (BNR)، وكانت بداية السرد الرحلي حول التجوال في الساحل الشرقي للبلاد التونسية خريف 1899، فكانت هذه الرحلة الأكثر هدوءًا مقارنة برحلاتها الأخرى؛ لأنها كانت تنوي الاستجمام والاسترخاء بعد فقدها والدتها ومعلمها، خلاف بقية رحلاتها التي كانت مليئة بالأحداث القوية، من مواجهات ومعارك، ومهام استطلاع، واضطراب نفسي.
استقلت إيزابيل القطار المتوجه إلى سوسة، مغادرة بذلك مدينة تونس وهي في فرحة وارتياح لمعاودة السفر الذي تجد الرحالة أثناءه حريتها، وانفتاح أفقها وفرصة التعرف على الآخر، ومن أولى المحطات الجميلة التي جذبت الرحالة «حي رادس الساحلي» حيث يختلط أخضر جناته الواسعة، ببياض منازله الصغيرة الواقعة على الشاطئ، الذي تقابله من بعيد على الجهة الشمالية الشرقية بحيرة تونس، ومن رادس توجه القطار نحو قرية حمام الأنف التي كان يسكنها المسلمون الأرستقراطيون.
ومن حمام الأنف بدأ القطار في التوغل في الريف التونسي، والابتعاد عن الساحل، وفي هذه المناطق أحست الرحالة بفرحة غامرة لرؤيتها مساكن البدويين، في ربى محمرة، ومزارع مذهّبة بالقش المترامي على أطرافها، ومراع رمادية بفعل تلبد الغيوم في الخريف، وقطعان من المواشي ورعاة من البدو، ومن حين لآخر كان القطار يقطع قناطر تعلو وديانًا مجهولة جافة بفعل الصيف المنقضي، غزتها نباتات الدفلى ذات الأزهار الوردية.
واختارت إيزابيل في هذه المرحلة تعداد المناطق التي عبرها القطار، ووصفها في اقتضاب، من هذه المراحل: بئر بورقبة الساحلية، وخليج الحمامات القديمة والهادئة، هدوء قراها وسكانها البدويين، ووقفت الرحالة حائرة، مستغربة هذا المكان الذي يصعب تحديد موقعه على الكرة الأرضية؛ حيث شاهدت البدويين على أحصنتهم يظهرون ساكنين، ملتفين في لباسهم الثقيل كثير الثنيات، كانوا يسمونه السفساري المعادل للبَرنُوس (البُرْنُس) الجزائري، لعل الرحالة أخطأت هنا في التسمية، فالسفساري ليس لباس الرجال في تونس، بل لباس النساء هناك، وهو مصنوع بالصوف أو الحرير ويسمى الملحفة في الجنوب، ويعادله في الجزائر لباس الحايك، أو الملاية، أما الرجل فكان يلبس القشابية وهي جبة ثقيلة مع برنس يوضع على الكتف، والأمر نفسه في الجزائر.
ملاحظات غير دقيقة
وتحاول هنا إيزابيل استعراض خبرتها بالعرق البربري حيث جزمت بأصلهم هذا من وجوههم الجافة والمسمرة، غالبًا دون لحية، مع نظرات لا مبالية قاتمة، ولا نحسب هذه الصفات مميزة للرجل البربري حق التمييز، وما هي إلا ملاحظات ذاتية غير دقيقة، وليست مدعمة بحقائق تاريخية.
تأتي بعد خليج الحمامات قرية بوفيشة، التي يتوغل بعدها القطار مرة أخرى في الريف التونسي المتميز بكثرة غابات الزيتون وكثافتها، فكان المرور على قرية «منزل بلواعر»، ليقترب من معصرات الزيتون في مدينة سوسة، وهي من المدن الكبيرة التي أخبرتنا الرحالة عنها بقولها: «ذاهبة إليها من غير أن أعرف أحدًا فيها، وبلا هدف، ولا قلق، وخاصة بلا مسار محدد... كانت روحي مطمئنة، منفتحة على كل المشاعر الجياشة تجاه الوصول إلى بلد جديد».
كان للكاتبة وقفة في مرحلة سوسة، حيث أفردتها بوصف بانورامي، ركزت فيه على طلة المدينة وطابعها العمراني، وعلى موقعها: «مدينة عربية، صخرية، بديعة الجمال، مبنية على ربوة مرتفعة، مسوّرة بحصن إسلامي قديم، بيضاء كبياض الثلج، وفي منحدر التل مقابر كثيرة محاطة بأشجار التين الشوكي محترقة مسمرّة بفعل الشمس، وفي الأعلى أسطح منازل حمراء، وبنايات مرتفعة ومنخفضة خاصة بالمدفعية». وتشير الكاتبة إلى الاسم القديم للمدينة وهو الجوهرة، أما التسمية الجديدة سوسة فتعني دودة القز.
كانت للرحالة فرصة لزيارة مدينة المنستير المبنية بعيدًا على الساحل على أراض مالحة وسبخات شديدة البياض، مشيدة عليها منازل من طابق واحد، وشوارع غير معبدة، و«تظل المنستير مدينة متميزة عن غيرها، بجمال وتعاسة منفردين»، أما أهلها فيختلفون عن أهل المدن كتونس وسوسة، في أنهم لا يزالون يحافظون على عظمة العرق العربي، الذي جبل على حب الحلم والحرب، ولأن المنستير لها خليج مهم فإن أهلها تعوّدوا على الصيد، لكنهم كانوا يستعملون السلال والشباك، وأدوات صيد بدائية للغاية.
وتعدد الرحالة المراحل التالية للمنستير: كقصر هلال، وقرية صيادة التي سميت كذلك للنشاط الغالب على أهلها وهو صيد السمك، والقرية مقابلة في البحر لجزر قوريا أو «القوريتين»، وصيادة قرية محاطة بأشجار الزيتون وقطع من الصبار ذي الأشواك الحادة، واشتهرت بجمال بناتها الخلاب، حتى اشتهرت عنهن مقولة في المنطقة: «إن الرجل الذي يتنفس ذات مرة هواء البحر المالح لصيادة، وعطر بناتها المثير، فلينس بلده، وأرضه».
وبعد صيادة زارت إيزابيل قرية مكنين البعيدة عن ساحل البحر قليلًا، قرية في وادي خصيب، جميلة أنيقة، عرفت بنشاط التجارة، بها آثار قلاع وخرائب حصون قديمة، وسجلت الرحالة فيها ظاهرة الهدوء والسكينة التي أثارت فيها الارتياح وذكرتها بواحات الجنوب الجزائري العزيزة عليها.
وأضافت الرحالة توضيحًا آخر عن لباس أهل تونس في المدن الداخلية، حيث لاحظت استغناء الرجال الفقراء عن البرنس الذي - بحسبها - لا يتخلى عنه الجزائري الفقير، ويكتفي الرجال بالسفسيري الأبيض أو الأسود، المثني على أجسامهم، حتى شبّهتهم بالأموات العائدين بأكفانهم من القبور، ومثلهم النساء يلتحفن بغطاء طويل وثقيل أزرق أو أحمر، يبدو منهن شعورهن السود، وحليهم، وضفائر من الصوف طويلة، وأحزمة متدلية معقودة أسفل الخاصرة.
توغلت الكاتبة أكثر في الداخل التونسي، فزارت منطقة عميرة (سيدي النعيجة، التوازرة، ودوار الحجاج)، المعروفة بكونها قاحلة، ومنزل قطاع الطرق والمقاتلين، وكان سبب رحلتها لهذه المنطقة اصطحاب خليفة المنستير لها وهي متنكرة دائمًا في زي رجل باسمها المستعار «السي محمود السعدي» لجمع الجباية من السكان، وإن كانت رغبتها ملحة في الاطلاع على السكان هناك، وتأليف يومياتها في البلد، لكنها أحست بالعار والخزي لمرافقتها عمال الجباية، وكثيرًا ما انتقدت صفة استعلائهم على العامة، وهم قومهم في الواقع، وسوء معاملتهم لهم، وقهرهم، وإرغامهم الضعفاء على تقديم خيراتهم وممتلكاتهم للمخزن، أو ملاقاة التعذيب والسجن.
ولخّصت الرحالة انطباعها عن مدن الساحل التونسي بأنها جميعها جميلة لطيفة بيضاء، والجو منعش، لا يثير الأسى كما في جميع الأماكن الساحلية الأخرى، حتى الأسماء وجدتها جميلة تحمل معنى طيبًا مثل الوردانين، وسويسة، ومنزل بئر الطيب، وجمّال، وسيدي الهاني، والجم، وبني حسان.
الأسلوب وتجليات الذات
وظفت الكاتبة إيبرهارت في رحلتها إلى الساحل التونسي أسلوبًا يجلي شخصيتها بوضوح؛ حيث بدت واعية بتقاليد الكتابة العامة في أدب الرحلات، فقد اجتهدت في الحفاظ على الخيط الناظم للأحداث، واعتمدت السرد الرحلي المراوح فيه بين السير والتوقف في المحطات مع تعيين وسائل النقل دومًا، كما أنها قدمت معلومات عامة عن كل مدينة جديدة كانت ترد عليها، كأصل تسمية المدينة، وموقعها الجغرافي، وفترة تأسيسها، وهيئتها العامة من بعيد، أو قريب، لكن الكاتبة لم تفصح عن مصادرها إن كانت سماعية أو مكتوبة، عامة أو خاصة، ويفترض من خلال اطلاعنا على حياة إيزابيل أن مصادرها متنوعة بين المكتوب منها والمسموع؛ حيث كانت ميالة للمطالعة ولها معرفة رصينة باللغات، مثلما عرف عنها كذلك ترددها على تونس، وزيارتها لها أكثر من مرة، مما سمح لها بمخالطة العامة، ومحادثتهم، والتقاط الأخبار والمعلومات عن مدنهم وقراهم، وعن عاداتهم في اللباس والأكل، والضيافة، والمحاكمة والعقاب.
وعلى الرغم من تنكر إيزابيل في زي رجل، لكنها بدت متعلقة كثيرًا بشخصيتها الأنثوية، حيث كانت تتتبع النساء بنظراتها لاكتشاف خصوصياتهن، وعاداتهن، ولبسهن، وحرصت على نقل مشاهداتها بأسلوب وصفي مباشر أحيانًا، وبأسلوب تعبيري شاعري أحيانًا أخرى.
أما لغة الكاتبة، فتراوحت بين الرومانسية في بعض المقاطع الوصفية، أو المواقف الاسترجاعية، حيث ركزت فيها على الألوان والأشكال، وكأنها بكلماتها ترسم لنا المشاهد وتلونها، كما يفعل الرسام في لوحته، ونقلت أحاسيسها، وحزنها، وفرحها وألمها وأملها بكلمات قوية، حيوية، لكنها في المقابل لم تتخل عن واقعيتها وهي في خضم سرد تنقلاتها، ونقل تفاصيل مقابلاتها مع العامة والخاصة.
في الأخير، عكست رحلة إيزابيل إلى الساحل التونسي، وجل رحلاتها، كلفها بمختلف حقول المعرفة الإنسانية، إذ نجد تداخلًا للأجناس الأدبية ضمن نصها الرحلي، حيث ضمّنته الكاتبة فيما تسمح المناسبة بالحكم والأمثال العربية، والأساطير الشعبية، وأقوال الأدباء، وأغاني الرعاة والأدلة في الطريق، وحملته بالألفاظ العربية والتسميات العامية للأماكن والأشخاص، والمهن، والنباتات، ووصفات الطبخ المحلية، كما نقلت في رحلتها تأملاتها الصوفية، وتساؤلاتها حول الدين، والحياة، والموت، والوجود، والقضاء والقدر، وبذلك استطاعت أن تجمع ضمن سردها بين الإثنوغرافيا والأنتروبولوجيا، وبين الدين والفلسفة، وبين الأدب والرسم، ووراء هذا كله نجد المرأة الغربية التي عشقت الصحراء، وحياة البداوة، والبساطة في شمال إفريقيا، مما جعلها جسرًا يربط بين الغرب والشرق، صوّرت ما رأته بعين صادقة وواقعية، بعيدة عن الصور النمطية السائدة، والكليشيهات الزائفة ■