المسرح العربي وسطوة التكنولوجيا

المسرح العربي وسطوة  التكنولوجيا

عندما نتحدث عن الوسائطية في المسرح فإننا نتحدث عن وسائل خارجة عن مكوّنات المسرح بمنظوره التقليدي، وهي وسائل وتقنيات تسهم في لفت انتباه المتلقي وإبهاره، مادام أول ما يشدّ الانتباه في المسرح صورتُه؛ أي تشكيلُه وما يتم عرضه على الخشبة. ويعتبر المخرج الإيطالي روميو كاستيلوتشي «Romeo Castellucci» من أبرز الفنانين الإيطاليين الذين يشتغلون على الوسائط، فهو يستخدم في مسرحه الصوت والصورة والأجساد؛ بحيث نشعر من خلالها بالانفصال بين كل عناصرها بعضها عن بعض.

 

لقد بات ضروريًا الانخراط في زمن التكنولوجيا المعاصرة، وشقّ عصا الطاعة بخصوص الإخلاص لنقاء المسرح، الذي أصبح يشتغل بأدوات وآليات غريبة عنه، وهو الذي لطالما تمرّد على كل ما هو ليس من بيئته، «لكنّ علاقة المسرح بوسائط الاتصال أصبحت قَدرا حتميًا أمْلته التحوّلات السوسيوثقافية المواكبة للثورة التكنولوجية الحديثة، والتي لم يسلم من تأثيرها مختلف الفنون...». 
إن الحديث عن الوسائطية واستخدام عنصر الرقمنة في العرض المسرحي المعاصر يشكّل منطلقًا لحيويّة العرض التكنولوجي الذي قلب موازين الخطاب المسرحي، وتمرّد على منطقه التقليدي بشكل كبير، وفي هذا المنعطف الجديد، نلحظ حضور عدد من المفردات التي تدخل في صناعة وتهيئة الفضاء المسرحي المعاصر، لعل أهمها الآتي: الضوء باعتباره عنصرًا حيويًا لا تخفى أهميته نظرًا لدوره الأساسي في تشكيل ملامح العمل الدرامي، فهي التي تدخل المتفرج في عوالم حسية ومتع لا تضاهى «ولولا الضوء لما كانت الحياة أو الحركة». 
ومما لا شك فيه أن أدوارًا عدة تشغلها مكانة الضوء في تشكيل العرض المسرحي المعاصر على مستويات مختلفة، منها القدرة على التحكم في الفضاء المسرحي وتغييره فيزيائيًا ونفسيًا...، وهو ما يؤدي حتمًا إلى التأثير في نفسية ووجدان المتلقي. ومن المفردات الأخرى التي تُسهم في بلورة وتشكيل الفضاء المسرحي نجد العرض المسرحي وما يشمله من عناصر مختلفة، ومن بينها نجد النص المسرحي، بنسب متفاوتة، كما يمكننا استحضار الإخراج وما يضطلع به من دور في تحويل النص إلى منظومة متناسقة من المؤثرات المرئية والصوتية التي تجعل المتلقي منفعلًا بها ومتفاعلًا معها في آن.
بالإضافة إلى ما ذكرناه، نجد عنصر الموسيقى وما لها من جاذبية بحكم طبيعتها الإيقاعية التي تقوم على ألحان موسيقية متفاوتة، وما تفجّره من حالات نفسية وعقلية عن طريق عملية تداعي الأفكار، وفي حديثنا عن هذه العناصر المتضافرة لتشكيل الفضاء المسرحي، لا يمكن الاستغناء عن عنصر المشاهدين/الجمهور، باعتباره فاعلًا ومنفعلًا  بمجريات العرض المسرحي. 

التكنولوجيا وانتصارات بارعة
نأتي إلى أبرز عناصر العرض المسرحي الجديد، وهو التكنولوجيا من خلال مفهومي الزمان والمكان، حيث وفّرت للمسرح «إمكانات لم تكن متاحة للفنون من قبل، لاسيما فن المسرح، كما حققت التكنولوجيا انتصارات بارعة في قضيتي الزمان والمكان، مما كان لها أثر ملحوظ في تحديد أقيِسة جديدة لم تكن معروفة من قبل... أما من ناحية المسرح فقد غيّرت آليات وأساليب العرض المسرحي ومنحت الإخراج إمكانات ترضي التصوّرات الفنية لدى المخرجين». 
إن المسرح العربي اليوم ينظر إليه كحقل للوسائط التكنولوجية بما تشمله من ترسانة من الأدوات والآليات المتعددة التي تشكّل فضاء العرض المسرحي المعاصر، وفي ظل الاشتغال بمنطق الرقمنة تحوّل الفعل المسرحي من بعده الواقعي الحيّ، إلى بعد آخر يكاد يكون نقيضًا للواقعي وهو ما يصطلح عليه بالافتراضي، بحيث أصبح هذا الأخير أكثر واقعيّة من الأول.
كل هذه المتغيرات حتّمت على مسرحنا العربي الانغماس في هذا التوجّه الجديد، الذي سيُغيّر لا محالة من نمط تفكير مخرجينا إلى المسرح، وسيسعون من خلال أسلوب العصر إلى الاشتغال على التكنولوجيا وفتوحاتها عبر استثمار الكمبيوتر؛ بحيث يصبح لهذا الجهاز القدرة على تغيير الحقيقة وخلق عالم افتراضي يصير في جوهره هو الحقيقة. نحن بحاجة اليوم إلى مسرح «مستفيد من التقنيات الحديثة وتقنيات أشعة الضوء وذلك في خلق خلفيات ثنائية أو ثلاثية الأبعاد، تعمق رؤية العرض شكلاً ومضمونًا». 
ومن تجليات التكنولوجيا في مسرحنا العربي المعاصر تلك العروض التي طفحت برؤيتها الإخراجية الجديدة في ما سمّي بمسرح ما بعد الدراما، القائم على خلخلة كل ما هو تقليدي، من أجل الانتصار لنسقيّة فنية وإبداعية تترامى في أفق الأصالة الفنية المبنية على المغايرة. يمكننا أن نرصد بعض النماذج التي اشتغلت بمنطق الرقمنة، وعوّلت على الافتراضي من أجل تحقيق الفرجة المسرحية، ودخول الزمن الجديد، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: مسرحية «سكيزوفرينيا» إبداع لفرقة مسرح (أفروديت) 2013 بالرباط، للفنان السينوغرافي المغربي عبدالمجيد الهواس، هذا الأخير الذي يعدّ من الأسماء اللامعة في عالم السينوغرافيا بالمغرب، في دأبه المستمر للبحث عن لغات مسرحية جديدة، تمنح الدراماتورجيا إمكانية تفجير رؤيتها على الخشبة، المبنية على التشظي والتفكيك لعنصر السرد في المسرحية، ولعل مزاوجة هذا الفنان بين اشتغاله الأكاديمي/المعرفي والتطبيقي/الممارساتي على الخشبة أكسبه عُدّة فكرية ومهاراتية مكّنته من خلق عوالم مسرحية متميزة، وهو ما يتجسد من خلال تعدّد مستويات الحكي، كتقنيات عمل من خلالها المخرج الهواس، على منح شهادة الأم العازبة ومعاناتها «مستويات عدة تقرب المتفرج من مآسيها: المرأة التي تحكي قصتها حاضرة على الركح مرة تُجالس شخصًا وهميّا ومرة في حكي مباشر مع الجمهور... وفي الخلف شاشة تعرض امرأة قد تكون هي ذاتها...». 
ما يهمّنا هنا ليس مضمون المسرحية، بقدر ما نسعى إلى بيان تمظهر الرقمنة والوسائطية في العرض المسرحي بما أنها وسائل ضمن أخرى تشكل المواصفات التكنولوجية لهذه المسرحية.
«والوسائطية هنا، اعتمدت الخلفية بوصفها شاشة متعددة تبثّ فيها صورًا مباشرة وآليات دينامية تعيد ترتيب الفضاء الفرجوي؛ عن طريق هذه التقنيات وتقنيات أخرى... ومؤدٍ آخر فوق الخشبة على الطرف الآخر يحرّك الدمية ويجسّد معاناة الشخصية المحورية... يؤدي إلى إغراق الفضاء الفرجوي بالنصوص المتعددة... مما يفضي إلى استشكال آليات صناعة الفرجة المسرحية أثناء صناعتها». 

تجارب مضيئة وناجحة
إن ملامح المسرح التكنولوجي، أو المسرح الوسائطي، أو الرقمي، هي نمط مسرحي أو أنماط مسرحية جديدة في العالم العربي، وهذا لا يعني افتقار العروض المسرحية التجريبية إلى هذا النمط، لكن القصد هو الاعتداد بالتجارب المضيئة والناضجة منها التي تستدعي هذه التقنيات وترتمي في أفق المغايرة، من حيث كون أي ممارسة تجريبية في المسرح تقتضي نوعًا من المغامرة التي تكون مسنودة بالمعرفة والخبرة والنسقيّة في تشكيل فضاء العرض المسرحي المعاصر. 
لكن السؤال الذي ينتابنا في زمن تكنولوجيا العرض المعاصر، هو:  إلى أي حدّ يمكن اعتبار الآلة التكنولوجية التي تختزل النص الدرامي، وكذا العنصر البشري الفرجوي والمتفرج على حد سواء، عاملًا مساعدًا على الارتقاء بالمسرح العربي؟ ■